اللاجئون حديثاً من الموصل يصفون كيف أن الضغط العراقي المتزايد على “داعش” في النصف الغربي من المدينة، آخر معقل حضَري للجهاديين في البلاد، يترجم إلى زيادة في الضغط على المدنيين.
* * *
حاج علي، العراق- كل مرة طرق فيها مقاتلو “الدولة الإسلامية” باب المنزل في الواقع في غرب الموصل، كان أمران يحدثان.
يسرع أحمد، وهو ضابط شرطة عراقي سابق، إلى مكان الاختباء تحت الأرض. وتجيب زوجته، واحة، الطارقين على الباب، وتحاول أن ترفض دخول الجهاديين، وتتوسل بإعلان جهلها بمكان زوجها.
وتتذكر واحة، وهي أم لأربعة أطفال، قولها لمتشددي “داعش” في كل مرة، في محاولة الاستنجاد باحترامهم المزعوم للمرأة المسلمة: “أنا وحدي هنا، امرأة”. وتضيف: “كنت خائفة جداً”.
وقد عملت الحيلة، لكن العائلة كانت تعرف أن الكذب من أجل حماية أحمد هو شيء لا تمكن إدامته إلى الأبد.
أصبحت تلك اللحظات المرعبة أكثر تكراراً عندما ضغطت القوات العراقية على “داعش” وأخرجته من شرق الموصل في كانون الثاني (يناير)، ووضعت أنظارها على استعادة غرب المدينة –حيث شنت هجوماً جديداً الأسبوع الماضي لطرد الجهاديين من معقلهم الأخير المتبقي في البلاد.
مع اقتراب الهجوم، عمد مقاتلو “داعش” المحاصرون في غرب الموصل، مع عدم وجود طرق للخروج، إلى ممارسة المزيد من الضغوط على السكان المحليين، فشنوا حملات جديدة أكثر عدوانية وقوة للبحث عن المتعاونين المحتملين الذين يمكن أن يبلغوا القوات العراقية المتقدمة عن دفاعات “داعش”. والعائلات التي تحملت ما يقرب من ثلاث سنوات تحت حكم “داعش” الذي تميز بالفظائع التي أصبحت الآن مألوفة، مثل قطع الرؤوس والصلب، أصبحت تشعر بالمزيد من الضغط لاتخاذ قرار حياة أو موت: البقاء في مناطق “داعش” أو محاولة الهرب.
روى أحمد وواحة -اللذان طلبا عدم استخدام اسميهما الحقيقيين- القصة الملحمية أمام أطفالهما في زاوية من مخيم الحاج علي، وهو شبكة منظمة جيداً من قماش خيام الأمم المتحدة الأبيض والأزرق، والذي يؤوي الآن أكثر من 5.000 من العراقيين النازحين بسبب القتال، على بعد نحو 40 ميلاً إلى الجنوب من الموصل.
حتى الآن، هرب ما يقدر بـ170.000 عراقي من معركة تحرير الموصل، والكثير منهم يعيشون الآن في سلسلة من المخيمات الواقعة إلى الجنوب والشرق من المدينة. وقد وصل نحو 1000 آخرون إلى مواقع القوات الحكومية العراقية صباح يوم الاثنين، كما ذكرت وكالة رويترز، والذين يضيفون إلى ما يقرب من 10.000 من العراقيين الذين هربوا حتى الآن من معركة غرب الموصل.
أجريت هذه المقابلة مع الزوجين إلى جانب عمار جرجس أدهم، وهو شرطي سابق آخر كانت عائلته تقيم في مخيم قريب للاجئين. وتحكي قصصهم عن الخيارات الصعبة التي يُطلب مما يقدر بنحو 750.000 من المدنيين في غرب الموصل اتخاذها، بينما توجه قوات الأمن العراقية نداءات تطلب منهم البقاء في منازلهم خلال القتال.
عمل وجود المدنيين مسبقاً على إبطاء تقدم القوات العراقية خلال حملة الموصل، وجعل المدنيين عرضة لاستخدام “داعش” لهم كدروع بشرية، أو وقوعهم في مرمى النيران. وفي حين يمكن أن يكون ذلك قد زاد من عدد القتلى المدنيين -مع تقدير مقتل نحو 500 في شرق الموصل- هدفت هذه السياسة إلى إحداث تدمير أقل بشكل عام للمدينة، وعودةً أسرع إلى الحياة الطبيعية في المناطق المحررة.
ومع ذلك، كان الضغط على كل من هاتين العائلتين كبيراً جداً، وتمكنتا باستخدام المكر والتنكر من الهرب من مناطق “داعش” في الأيام الأخيرة، وإنما بتكلفة عالية: لقد تركت كل منهما وراءها إخوة اعتقلهم “داعش”.
يقول أدهم، الذي يرتدي سترة جلدية سوداء: “لقد أخذوا أخي، ولا أعرف ما إذا كان حياً أم ميتاً”. ويخفي سلوكه الهادئ حجم الإرهاق، والراحة التي يصنعها تمكنه من إخراج ما تبقى من عائلته. ويضيف: “تسعة وتسعون في المائة أعتقد أنهم قتلوه”.
انقلاب على “الدولة الإسلامية”
عاشت كلتا العائلتين في وادي الحجر، وهو حي يقع في الركن الشمالي الغربي من مطار الموصل -الهدف الأول لهجوم استعادة المدينة، والذي استولت عليه القوات العراقية خلال عطلة نهاية الأسبوع الماضي. وكان الحي معروفاً بكونه مكاناً لإسكان رجال الشرطة والجيش وعائلاتهم.
اختار هؤلاء البقاء في منازلهم عندما وصل “داعش” أول الأمر في حزيران (يونيو) 2014، لأن السفر خروجاً ودخولاً إلى المدينة كان سهلاً في البداية، عندما استخدم “داعش” في البداية لمسة أخف مع الناس بعد الإعلان عن إنشاء الخلافة الإسلامية في أراضيه في العراق وسورية. وكان يفترض في الموصل، التي يقطنها ما يزيد على 1.5 مليون مواطن، أن تكون نموذجا للحكم الإسلامي الشعبي.
ولكن، لم يمض وقت طويل قبل أن يتغير ذلك، مع انقلاب المواطنين بشكل متزايد ضد “داعش”، برفضهم، على سبيل المثال، إرسال أطفالهم إلى مدارس “داعش” الذي حولت مناهجه الجهادية معادلات الرياضيات الأساسية إلى عمليات عدٍّ للرصاص والقنابل.
ولكن، بحلول ذلك الوقت، كان الفرار قد أصبح جريمة يعاقب عليها القانون، وارتفعت تكلفة تهريب عائلة كاملة من الموصل إلى 5.000 دولار أميركي.
يقول أدهم، البالغ من العمر 38 عاماً، ذو الشعر القصير والبنية الضئيلة: “كان داعش يقتل الناس إذا حاولوا المغادرة”. وكان أسوأ عمل يقول إنه شاهده لـ”داعش” هو قتل فتى صغير، ربما بعمر 15 عاماً، والذي اتهم بأنه مثلي الجنس؛ حيث قاموا بدفعه من فوق مبنى مرتفع. وبعد ثلاث محاولات فاشلة لقتل الصبي، قتلوه بعيار ناري في الرأس.
الفرار عبر نهر دجلة
في حين أصبح سكان الموصل معتادين على مثل هذه الأحداث -بما في ذلك عمليات الإعدام التي يتم فيها جمع الناس وإجبارهم على الحضور، ليكون ذلك بمثابة درس لهم في عقاب “داعش”- كان الضغط الذي مارسته المجموعة في الأشهر الأخيرة من نوع مختلف، كما يقول هؤلاء السكان من الموصل.
بمساعدة من صديق، هرب أحمد وواحة وأطفالهما أخيراً بواسطة القوارب عبر نهر دجلة قبل بضع ليال. ويقول أحمد: “لو أنني بقيت هناك، لكانوا قد قتلوني. كانت أفضل وسيلة بالنسبة لنا هي الهرب”.
وكان أدهم قد توصل مُسبقاً إلى النتيجة نفسها هو الآخر. ويقول أدهم، الذي بدأ عملية هروب عائلته منذ ثلاثة أسابيع: “اعتقدنا كل يوم أنهم سوف يأتون ويقتلونا. إنهم يسموننا كفاراً لأننا (رجال الشرطة والجنود السابقون) نساعد الجيش العراقي”.
بقي في الخلف، وأرسل عائلته أولاً: أخاً مصاباً في الرأس برصاص قناص، ذراعه اليمنى مشلولة، وزوجته وثلاثة أطفال، يحملون ثلاث حقائب فقط عبر جسر صغير.
وحملت زوجة أدهم شريحة ذاكرة صغيرة مخبأة داخل ملابسها، والتي كان تحتوي على المئات من الصور التي تجرِّم زوجها، بما في ذلك العديد من الصور له في زي الشرطة، والتي كانت مخبأة حتى ذلك الحين داخل وسادة.
الهروب متخفياً
في وقت لاحق بعد ليلتين، بعد أن أصبحت الأسرة آمنة بالفعل، جاء دور أدهم. ارتدى ما يسميه العراقيون طراز “قندهار”، الذي يفضله السنة السلفيون المتطرفون مثل “داعش” -لحية كثيفة طويلة، سروال قصير فضفاض، وغطاء الرأس المميز -حتى أنه وضع غصناً خشبياً قصير في جيبه، مثل ذلك الذي يمضغه الكثير من مقاتلي “داعش” لتنظيف الأسنان.
لم يحمل أدهم معه أي شيء. انطلق أثناء صلاة العشاء، عندما كان يعرف أن الكثيرين من جهاديي “داعش” سوف يكونون في المساجد، وبعد ذلك -بضربات قلب متسارعة- مر بسرعة ودون أن يلاحظه أحد من خلال آخر نقطة تفتيش لـ”داعش”، بالضبط عندما وصلت سيارة إسعاف محملة بالمقاتلين الجرحى، والتي صرفت عنه انتباه الحراس.
“كانوا مشغولين”، يقول أدهم، وهو يبتسم.
لا يمكن أن يكون أدهم أكثر غضباً من “داعش”، وهو يقول أنه تم إنفاق مدخرات أكثر من 10 أعوام في مجرد سنتين ونصف، من أجل إبقاء عائلته على قيد الحياة عندما لم يكن يستطيع أن يعمل.
ويقول أدهم: “حلمي هو أن أعود شرطياً مرة أخرى. أريد أن أقاتل الآن على الفور”.
وأحمد، أيضاً، يقول إنه يتوق للعودة إلى العمل كشرطي. ويبدو الرجلان متفائلين نسبياً بأن الأسوأ قد انتهى، بالنسبة لهما على الأقل.
سكوت بيترسون
صحيفة الغد