لآن، بعد أن أمضى عامه الخامس عشر في الحكم، أبعد أردوغان بلاده تدريجياً عن التقاليد العلمانية التي وضعها مصطفى كمال أتاتورك. كما أنه ابتعد عن الأعراف الديمقراطية، معقداً بذلك روابط بلاده مع الغرب.
* * *
إسطنبول، تركيا – يصوران نفسيهما على أنهما “المحبون المثاليون” للسياسة التركية: بنَّاء بارع وخطيبته، عاملة التنظيف، واللذان يعملان كلاهما للشركة الصغيرة نفسها في إسطنبول، التي تمر بأوقات عصيبة.
لهارون ديمير، الذي تحمل راحتاه علامات العمل الشاق، لحية صغيرة وابتسامة بسيطة؛ وتسرح سينيز كايا شعرها الكثيف الأجعد الطويل بطريقة حديثة، وهو مرئي جداً لأنها لا تضع غطاء على رأسها.
ولا يبدو الزوجان أقل تديناً أو أقل تسييساً، لكنهما يمثلان وجه سياسة جديدة في تركيا، ووجهة نظر يعتنقانها بقوة للقومية الإسلامية التي صاغها بدأب وبشق الأنفس رجب طيب أردوغان وحزبه، حزب العدالة والتنمية.
إنهما يعتقدان -مثلما يعتقد العديد من مواطنيهما- بأن يد السيد أردوغان الطولى التي تتدخل في كل شيء، بدءاً من حرية الصحافة إلى هندسة سلطات رئاسية غير مسبوقة، هي شيء مبرر باعتبارها أفضل طريق لحل مشاكل تركيا الكثيرة. فقد كان البلد مسرحاً لأكثر من 30 هجوماً في العام الماضي، وهو يواجه اقتصاداً متعثراً، كما أنه في حالة حرب في جنوب شرق تركيا، في سورية والعراق.
ويردد الزوجان أصداء آراء المسؤولين عندما يقولان إن تركيا بصدد عملية استعادة نفوذها العثماني التاريخي كقائد للعالم الإسلامي. وتشير هذه الإحالات إلى شكل معتدل وشمولي من الإسلام، لكنه أيضاً حكم استبدادي في شكل سلطان.
في الحقيقة، كان رئيس الوزراء التركي، بينالي يلدريم، قد صور أردوغان في الشهر الماضي على أنه سليل لسلطان حقبة عثمانية جليلة. وفي الخريف الماضي، كتب مسؤول محلي في حزب العدالة والتنمية على نحو مثير للجدل في صفحته في وسيلة التواصل الاجتماعي “فيسبوك”، أن أردوغان “سوف يكون خليفة في الرئاسة” وأنه في العام 2023 -عندما يبلغ عمر الجمهورية التركية المائة عام– سوف يطفئ الله النور”.
ويقول السيد ديمير موافقاً: “الآن يبدو أن هناك نمطاً جديداً من القيادة؛ أردوغان والرئيس الروسي (فلاديمير) بوتين و(دونالد) ترامب. إنهم ليسوا دكتاتوريين، وإنما رجال أقوياء”. ويضيف: “إن أردوغان يتحدث إلى الشعب، وهو يفعل ذلك من أجل الشعب. ربما يضغط على البعض، لكنه يفعل ذلك من أجل القضية العامة”.
وتقول السيدة كايا إنه يجب على الأتراك أن يعتصموا بالصبر وأن يؤمنوا بالتغييرات: “حتى تعمل الأمور، يجب أن تثق (بأردوغان). إن دورنا كمواطنين أتراكاً هو أن نثق بزعيمنا”.
وهذا منظور سيسعِدُ أردوغان أن يغذيه. وبينما يقول المنتقدون إن حكمه غير المقيد قد جر تركيا إلى مستنقع محلي من الانقسام المجتمعي والعاطفة المعادية للغرب، وتسبب لها بمشاكل مالية وصراعات متعددة في الخارج، فإن الرئيس يروج لسرد أكثر إيجابية بكثير، حتى أنه يصف الهجمات المتصاعدة لمجموعة “داعش” والمتشددين الأكراد بأنها رد على عظمة بلده المنبعثة مجدداً.
نقل أردوغان، الذي دخل حكمه السنة الخامسة عشرة، بلده تدريجياً بعيداً عن التقاليد العلمانية التي وضعها مصطفى كمال أتاتورك، الذي أنشأ الدولة الحديثة من رماد الإمبراطورية العثمانية في العام 1923. وثمة القليل من المتسع لأي وجهات نظر منافسة، نظراً لأن الدولة التي كانت ذات مرة الجناح الشرقي العلماني العنيد لحلف الناتو، والتي تطلعت إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، أصبحت تقوم بإضعاف الروابط التي كانت في السابق واعدة مع الغرب، وهي تروج لدور أكبر للدين في الحياة العامة، وتشن حملة على المعارضين ووسائل الإعلام، وتتحرك بحزم مبتعدة أكثر عن الأعراف الديمقراطية.
كان أردوغان قد قال في 10 كانون الثاني (يناير) الماضي أن “تركيا تتعرض لهجوم خطير من الداخل والخارج على حد سواء. ليس ذلك لأننا بلد ضعيف، وإنما لأننا بلد يصبح أقوى وأقوى”.
أغلبية دينية
ولا يستطيع ديمير وكارا أن يوافقا أكثر. وتشير استطلاعات الرأي الأخيرة إلى أن التكتل السياسي الديني المحافظ في تركيا الذي ينتميان إليه يشكل أغلبية ستؤطر السياسة التركية في المستقبل المنظور.
ويقول مصطفى أكيول، محلل السياسة والثقافة التركي ومؤلف الكتاب الجديد “عيسى الإسلامي”: “إنهم يعتقدون أن تركيا تواجه مشاكل كبيرة -وهم محقون في ذلك- لكنهم يعتقدون بأن تلك المشاكل تسببها قوى ماكرة تتآمر ضد تركيا. هذه رواية أردوغان، وقد اشتروها”.
ويضيف السيبد أكيول، وهو راهناً زميل رفيع في مشروع الحرية في كلية ويليسلي في مساتشوستس: “إنهم يعتقدون بأن هذه المؤامرة سوف يجهضها فقط زعيم قوي جداً ولا يهمه أحد، وهو بالطبع أردوغان نفسه”.
ويقول أكيول الذي أشار إلى أن معارضي أردوغان يتعرضون للتهميش وتكميم الأفواه والسجن والنفي: “إنك تجد هذه الدعاية السياسية أمامك كل يوم -لا بل في كل لحظة. إذا شاهدت التلفاز وإذا طالعت الصحف ستقول لك ذلك نسبة تتراوح بين 70 و80 في المائة منها”.
على مدى عقود، عمل الجيش كسور مُعلن ذاتياً لحماية العلمانية –حيث نفذ أربعة انقلابات لمنع الإسلاميين من تولي زمام الأمور. لكن حزب العدالة والتنمية حيد دور الجيش في السياسة وأجرى العديد من التغييرات في المجتمع التركي باسم الدين.
وفي الفترة الأخيرة، على سبيل المثال، سمح للضباط والأفراد الإناث في الجيش التركي رسمياً بارتداء غطاء الرأس كجزء من الزي الرسمي. وتعتبر هذه الخطوة تتويجاً لأعوام من ابتعاد حزب العدالة والتنمية عن حظر امتد لعقود لغطاء الرأس، والذي شمل حظراً مماثلاً لأزياء الشرطة النسائية في العام الماضي، وللعاملات في المدارس في العام 2013.
وفي علامة أخرى على إعادة التأطير التي ينفذها حزب العدالة والتنمية، تم مؤخراً فرز أرض لبناء مسجد جديد على حافة ميدان تقسيم الأيقوني وسط اسطنبول بعد سنوات من الجدل.
يضيف أكيول أنه كان هناك “دائماً قومية مصابة برهاب الأجانب والارتياب. ولكن، نظراً لأنها مستندة إلى أتاتورك، فقد كانت قومية علمانية، وربما لم تناسب المعسكر الإسلامي. لكنها الآن قومية بجرعة ثقيلة من الإسلام، ولذلك تروق للمحافظين المتدينين بشكل كبير جداً”.
وكان ناشطو الحزب الحاكم قد دفعوا بالأمور بقوة في بعض الأحيان بشدة، كما فعل قائد شاب في حزب العدالة والتنمية في مدينة ميرسين الساحلية الجنوبية. وقد غرد على تويتر قائلاً: “لو أن أتاتورك لم يوجد فقط”! واقترح أنه لا يجب اعتبار والد الأمة تركياً، لأنه ولد في سالونيك اليونانية “ولا يبدو تركياً”.
وغرد حسن باكي: “إن التاريخ يُكتب. إنها ليست ثورة تنوير أو تغريب. إنها ثورة القضية الإسلامية”. وقد طلب منه حزب العدالة والتنمية الاستقالة، بينما أخذه مسؤولو الحزب المعارض إلى المحاكمة بتهمة “إهانة أتاتورك”.
قومية ما بعد الانقلاب
تسارع اتجاه الميل نحو القومية الإسلامية منذ المحاولة الانقلابية التي وقعت في تموز (يوليو) الماضي فقط؛ حيث أدت دعوة أردوغان التي وجهها إلى الموالين له للنزول إلى الشوارع لوقف الجنود الإنقلابيين، إلى جلب تلك المحاولة إلى نهاية سريعة. وقد مزجت الحشود الليلية في عموم البلد على مدار شهر، والتي نظمها حزب العدالة والتنمية، مزجت بين الصورة القومية والإسلامية، وطبعتها برسائل قوية من أجل الوحدة.
حتى الآن جددت، تم تجديد فرض حالة الطوارئ مرتين في البلد، وتم تطهير المؤسسات بطرد نحو نحو 125.000 شخصاً، واعتقال 50.000 آخرين تقريباً، وفقاً لبعض التقديرات، للاشتباه بصلات لهم بالمحاولة الانقلابية. وفي هذه الدوامة السياسية، أقنع حزب العدالة والتنمية أحد أحزاب المعارضة بالانضمام إليه في جهد إعادة صياغة الدستور لتحقيق هدف أردوغان بخلق رئاسة تنفيذية غير قابلة للاغتيال -بالنسبة لمنتقديها، منصب “سلطان” معاصر.
قبل إجراء استفتاء وطني في نيسان (أبريل) المقبل، وجد استطلاع سنوي أجرته جامعة قادر هاس مجتمعاً منقسماً بشكل عميق، لكنه مجتمع بأغلبية ملتئمة دائماً.
وقال حسن بولنت كهرمان، نائب رئيس قادر هاس لصحيفة “حريت ديلي نيوز” التركية الناطقة بالانجليزية “إن الحقائق واضحة جداً. هناك أغلبية نسبتها 70 في المائة في تركيا، وهي طريقتهم في التفكير، في تفكيرهم الأيديولوجي المهيمن أصلاً والذي سيستمر في الهيمنة في المستقبل”.
وكان منح الدين منزلة أعلى يشكل جزءاً من أجندة حزب العدالة والتنمية إسلامي الجذور منذ البداية. وقد تأسست المؤشرات في كل مكان، من زيادة عدد النساء اللواتي يرتدين غطاء الرأس -في تناغم مع الرفع التدريجي للحظر في المؤسسات الحكومية- إلى ازدياد بناء المساجد في البلد من 78.608 في العام 2006 إلى 86.762 في العام 2015، وفقاً لهيئة الشؤون الدينية.
كما تجسد ذلك في حملة وطنية للمديرية؛ حيث تم الإعلان عن تنظيم “أسبوع المسجد” في الأسبوع الأول من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. وتتضمن شعارات الحملة التي تستمر عاماً عبارات “نحن ذاهبون إلى المساجد ونحن نقرأ القرآن”، و”دعوا الصوت الذي يتردد في قلبكم يكون في المسجد”.
ويقول إيدين يغمان، مفتي مقاطعة بيوغلو في اسطنبول، والخبير البارز في السلطة الدينية في الدولة: “إننا نحاول أن نزيد الدين في الحياة المجتمعية، أن يُمارس في المنازل وأن نجعله جزءاً أكثر حيوية في حياتنا”. وهو يرتدي بدلة وربطة عنق ولا يرتدي الرداء الديني، كما أنه حليق اللحية في تناغم مع العرف العلماني في تركيا بالنسبة للمسؤولين منذ العشرينيات من القرن الماضي.
ويقول السيد يغمان: “لا نريد أن يذهب الناس إلى المسجد يوم الجمعة فقط.. نريد نشر الوعي بالدين. فعندما يسمعون الأذان يكونون أكثر وعياً… إنه لن يكون شيئاً سيئاً أو تحت الضغط، نريد أن نبني هذا على الحب بحيث يستقبل الناس نداء الله لأنه نداء الله”.
ويشير إلى أنها لا توجد في هذه الأيام حالة تدين أكبر في أوساط الأتراك، لكن المشهد يبدو مختلفاً عن الأعوام السابقة، حيث يتدفق المؤمنون في هذه الأيام إلى الشوارع حول المساجد في بعض مناطق اسطنبول خلال صلاة الجمعة. ويقول “إن اجتماعات صلاة الفجر للشباب في يوم الأحد تجتذب ما يصل إلى 250 شخصاً في المرة الواحدة، مع أنه حتى لو كان العدد عُشر ذلك، فإننا سنكون سعيدين”.
يلاحظ أن هذا الرقم صغير في منطقة تضم 100 مسجد و250.000 مواطن، لكنه يقول إنه يتم إحراز تقدم. ويشير إلى أن “الهدف من هذا التعليم هو أن يتعلم الناس الإسلام الصحيح”.
وتبدو هذه الجهود مرئية وواضحة للعيان. ففي الأسابيع الأخيرة، على سبيل المثال، عندما غمر البرد القارس اسطنبول، كانت عربة تسير في شوارع إحدى المناطق وتعلن عن تقديم شاي مجاني في مسجد محلي، وعن وجود برنامج عن التاريخ العثماني مع تلاوة من القرآن الكريم.
“نوع مختلف من تركيا”
لن يكون ذلك مفاجئاً لديمير وكايا اللذين لا يحبان مصطلح “القومية الإسلامية”، لكنهما يقولان إن “تركيا هي أكثر تنوعاً وتريد من الدين أن يربط الجميع معاً”.
ويقول ديمير: “بعض الناس يقولون إنه (أردوغان) أكثر استبداداً وأكثر دكتاتورية. لكن لك أن تنظر إلى أين جلبنا… إنه نوع مختلف من تركيا”.
بالنسبة لديمير، باستطاعة تركيا في ظل أردوغان أن تصنع شكل حكم إسلامي يختلف عن الممارسات المتشددة التي تروج لها دول عربية خليجية من خلال نشر الأموال والمدارس والمساجد في البلدان المسلمة حول العالم.
ويقول أيضاً: “أملنا أن نكون، مع حلول العام 2023، قد تعلمنا وتثقفنا كمسلمين. إننا نعيد تعريف الإسلام وما هو اليوم. إنه في جيناتنا. وقد فشل الإسلام من الخليج العربي وفي شمال إفريقيا في أن يعمل بسبب الافتقار إلى العلم. لكن لدينا نحن ثقافة عثمانية منفتحة ومعتدلة”.
وكان رئيس الوزراء التركي السابق، أحمد داود أوغلو، قال في العام 2015 إن تركيا “سوف تعيد تأسيس الدولة العثمانية”، كمثال على تصور الرسميين لأنفسهم على أنه أصحاب حق في استعادة الإرث العثماني.
يقول المؤلف أكيول: “كان لدى المحافظين المتدينين الأتراك ذلك الشعور بأن تركيا هي الحامِل المعياري للحضارة الإسلامية”. ويضيف: “إنهم يقولون أن الأتراك كانوا هم القادة، وذلك لسوء الطالع انهار، ويجب أن يصحح. مرة أخرى يجب أن يقود الأتراك الأمة (المجتمع الإسلامي) كعثمانيين جدد”.
ويقول أكيول أيضاً: “هذا حلم موجود في المعسكر المحافظ الديني منذ عقود، وهو ليس بالشيء الجديد. أردوغان يبث الآن الرسالة: ’أنا الآن احقق هذا‘. وهو ما يصنع التفافاً كبيراً حوله من الناس ذوي الميول الإسلامية المحافظة”.
ويضيف أكيول: “المشكلة هي أننا لا نعيش في زمن العثمانيين. كما أننا لا نعيش في حقبة السلاطين… إننا نعيش في حقبة الديمقراطية الليبرالية. وتركيا لا تسير في ذلك الاتجاه”.
سكوت بيترسون
صحيفة الغد