سيناء ما بعد ‘جبل الحلال’.. الإرهاب لم يعد له مخبأ

سيناء ما بعد ‘جبل الحلال’.. الإرهاب لم يعد له مخبأ

لسنوات طويلة، ظل اقتحام جبل الحلال، وسط جنوب سيناء (شمال شرق مصر)، أحد أهم القرارات العسكرية الصعبة على أيّ قيادة بالجيش المصري، لا سيما وأن قاطني الجبل بمختلف توجهاتهم وانتماءاتهم وعقائدهم يتمتعون بقوة لا يستهان بها، من أسلحة وعتاد غير معدود. ويحتمون بجبل يستعصى على أيّ جيش أن يقضي عليه بسهولة دون خسائر مهولة.

يعرف الجبل، الذي لقب بـ“الحلال”، لأنها كلمة تعني “الغنم” لدى بدو سيناء، حيث كان الجبل أحد أشهر مراعيهم، وبيّن المصريون بأنه “أسطورة”، نظرا لوعورته وما ارتبط به من قصص وحكايات عن المحتمين به من جماعات إرهابية وتجار أسلحة ومخدرات، وغيرهم من المسلحين والمطاردين من القانون. ومؤخرا، عاد اسم الجبل للتداول في ظل الحرب التي يخوضها الجيش المصري ضد جماعات متشددة مسلحة تتخذ من مغاراته وكهوفه وشقوقه الواسعة مأوى وملاذا.

ورأت مصادر عسكرية عديدة، أن العمليات الحالية في جبل الحلال، حتى وإن لم تكن حاسمة في مواجهة الإرهابيين حتى الآن، تمثل خطوة مهمة في سبيل القضاء على الإرهاب، لأن هذه الخطوة محاولة لضرب منبع التسليح، والتعرف على نوعية الجماعات التي تحارب الجيش والشرطة في سيناء، واستهداف أكبر قدر ممكن من الإرهابيين.

يشارك في العملية العسكرية التي يشنها الجيش هذه الأيام في الجبل، والتي بدأت مطلع مارس الجاري، بحسب مصدر أمني مطّلع تحدث إلى “العرب” سلاحا المدفعية والطيران، بما فيها الطائرات الحربية أف 16، بالإضافة إلى جرافات عسكرية متنوعة وسلاح القوات الخاصة، وعناصر من الجيشين الثاني والثالث المرابطين شرق محافظات خط القناة (السويس والإسماعيلية وبورسعيد)، التي تبعد بعد الوحدات عن مدينة العريش حوالي 60 كيلومترا من أجل حسم سريع للمعركة.

بدأت المواجهات الأخيرة بين الجيش ومسلحي جبل الحلال، بالحصار أولا، من خلال غلق الطرق المحيطة به، لمنع الإمدادات، أو هروب هذه العناصر إلى صحراء وسط سيناء، ثم منها إلى المزارع والأحياء المتاخمة للجبل. وجرى استخدام تكتيك الإنزال لعناصر الجيش من خلال الطيران الحربي وسلاح المظلات. وكان استخدام الضربات الجوية على نطاق ضيق، لأن العديد من الكهوف كانت على عمق كبير ولن تطالها الضربات العسكرية.

وقال اللواء عبدالمنعم سعيد، رئيس جهاز الاستطلاع بالقوات المسلحة سابقا، لـ”العرب”، إن الجبل به عناصر خطرة ومتطرفة ولديها انتماءات عديدة، وتمتلك أسلحة ثقيلة مثل قاذفات الآر بي جي وكلاشينكوف وغرينوف. ويتطلب الوصول إلى الجبل توافر معلومات دقيقة، ورسم سيناريو محكم لمحاصرة الجبل من الأعلى والأسفل، وهو ما يحدث بالفعل.

الاقتحام الثالث

تعد العملية الراهنة للجيش المصري في جبل الحلال العملية الثالثة من نوعها. بدأت العملية الأولى سنة 2004، إبان تفجيرات طابا بمحافظة سيناء، بعد أن استهدف إرهابيون فندق هيلتون طابا وقتل عشرات السائحين. وتوصلت التحريات الأمنية والعسكرية إلى أن منفذي العملية الإرهابية يختبئون في جبل الحلال. وتمت محاصرته عدة أشهر وألقي القبض على العديد من المسلحين والخارجين على القانون.

وعاودت قوات الجيش والشرطة اقتحام الجبل، بعد تفجيرات 2005 في مدينة شرم الشيخ السياحية بجنوب سيناء. واتُهمت عناصر وجماعات تكفيرية بأنها وراء العملية، وأن عناصرها يعيشون في جبل الحلال بعيدا عن أعين الأمن. ووقعت معركة حامية بين الأمن والإرهابيين آنذاك.

وقالت مصادر أمنية إن الضباط الذين شاركوا في الهجمتين الماضيتين (2004 و2005)، وحتى العناصر التي ألقي القبض عليها في فترات سابقة، كانوا هم المحور الأهم في جمع المعلومات عن الجبل قبيل عملية الاقتحام الأخيرة. لدى هؤلاء معلومات مهمة عن مداخل الجبل ووديانه وكهوفه ومغاراته، والطريقة المثلى لمحاصرته وأماكن اختباء المسلحين ونوعية الأسلحة الموجودة وكيفية تفادي سقوط خسائر في القوات.

وبحسب الطبيعة هناك، لا يمكن إنهاء أسطورة الجبل بسهولة وفي زمن قياسي، حتى وإن شاركت مختلف قوات الجيش المصري في المعركة. المعضلة كبيرة، والخسائر من العناصر الأمنية قد تكون أكبر. والتعامل بحذر ومن خلال خطط تكتيكية مختلفة، مجرد بداية للتعامل مع هذا الكم من التعقيدات التي تواجه أيّ قوة أمنية في الوصول إلى قمة الجبل والتحرك بداخله لمواجهة مباشرة أو غير مباشرة مع هذه العناصر التي تختبئ في داخله.

ويقع الجبل ضمن المنطقة “ج” منزوعة السلاح وفق اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، التي اشترطت تل أبيب أن لا تتواجد فيها سوى عناصر من جهاز الشرطة بعدد محدود. لكن، مع زيادة التنسيق الأمني والعسكري بين مصر وإسرائيل، خلال الفترة الأخيرة، أصبح الدخول إلى هذه المنطقة ليس بحاجة إلى موافقة مبدئية من إسرائيل لمصر.

المعضلة الأكبر، هي طول الجبل الذي يمتد لقرابة 60 كيلومترا، وعرضه 30 كيلومترا، وارتفاعه يصل إلى نحو 1700 متر عن سطح البحر. ما يعني أن التفكير في اقتحامه بحاجة إلى آليات عسكرية بعينها، ليس من بينها طائرات الأباتشي التي يسهل إسقاطها من جانب المسلحين هناك، في ظل امتلاكهم لقذائف الآر بي جي. كما أن تحليق الطائرات الحربية يكون على مستوى منخفض في ظل ارتفاع الجبل.

يتألف الجبل من صخور ومغارات وممرات ودروب عديدة، لا يعرفها سوى من يعيشون فيه طوال الوقت، أما الخارجون عن القانون من الأشخاص، أو البدو الذين يتخذون من محيطه ملجأ للاستقرار الأبدي لأسرهم، ويعيشون على زراعة البعض من النباتات والأعشاب ورعي الأغنام والجمال، وهؤلاء البسطاء الذين لا يجدون المقر السكني الملائم لظروفهم فيختبئون من الأمطار في الشتاء، ومن أشعة الشمس الحارقة في الصيف وسط كهوفه، وأبناؤهم لا يتعلمون.

ومن الصعب دخول جبل الحلال، أو معرفة تضاريسه، دون مساعدة سكان المنطقة والجبل تحديدا، حيث يتمتّع بما يشبه الحكم الذاتي لأهله. وهناك ثلاث قبائل تتحكم في منطقة وسط سيناء الواقع فيها الجبل، وهي التياهة والنخالوة والترابدين، ولكل منطقة بالجبل، مجموعة مخصصة لحمايتها من اقتحامه بشكل مفاجئ من جانب أجهزة الأمن.

وبحسب المصدر الأمني من الصعوبات أيضا عدم توفر شخصيات من أهالي المنطقة يمكن الاعتماد عليها كمصادر موثوق فيها للمعلومات، وتكون “المرشد الحقيقي” للطريقة التي يمكن من خلالها صعود الجبل ومحاصرته من جميع الاتجاهات، وعدم تسريب أنباء الاقتحام أو ساعة الصفر لأيّ من العناصر المسلحة التي تسكن في الجبل.

وقال، المصدر الذي طلب عدم ذكر اسمه، “ليس هناك من سبيل لتطهير سيناء من الإرهاب دون خوض هذه المعركة والدخول إلى المناطق الوعرة في الجبل، خاصة أن التقارير الأمنية والاستخباراتية تتحدث عن أنه الملاذ الآمن للمسلحين والإرهابيين والتجار المخدرات والسلاح والهاربين من السجون ومرتكبي الجرائم وقطاع الطرق ويضم بين دروبه العديد من الجهاديين والتكفيريين”.

لكن، حتى إن كانت هناك خطط أمنية محكمة، وعناصر مدربة بكفاءة وأسلحة وطائرات حربية مشاركة في هذه المعركة مع الإرهابيين، فإن ضرب المغارات والكهوف واصطياد الهاربين فيها، يمثل تحديا صعبا للغاية، في ظل وجود كهوف يصل عمقها في بطن الجبل لأكثر من 300 متر، خاصة وأن طبيعة الجبل نفسها صخرية وبعضها جرانيت خام، وتحديدا تلك التي تربط جبل الحلال مع قمة جبال الحسنة والقسيمة وصدر الحيطان والجفجافة وجبل الجدي، وجميعها متلاصقة مع جبل الحلال وتقع في الوسط الجنوبي لسيناء.

نصف الحقيقة

أقرّ المصدر الأمني لـ“العرب” أن ما ينشر أو يذاع في بعض وسائل الإعلام، أو حتى يخرج عن بيانات رسمية من قيادة الجيش، ليس كل الحقيقة عما يحدث من ضربات أمنية شديدة ونجاحات في جبل الحلال، لأن الكثير من المعلومات والتحركات والضربات تكسوها السرية التامة، باعتبار أن الموقف هناك عبارة عن حرب حقيقية، وإفشاء ملامحها وتفاصيلها خطر.

جبل الحلال يقع ضمن المنطقة “ج” منزوعة السلاح التي حددتها اتفاقية السلام الموقعة بين مصر وإسرائيل

كما أن القوات العسكرية المشاركة في الاقتحام تعتقل أكثر مما تقتل، حتى يتم من خلال التحقيق مع الأشخاص الذين تم اعتقالهم التوصل إلى المزيد من المعلومات والأسرار عن طبيعة الانتماء والتمويل وطريقة الدخول لسيناء. وستكشف التحقيقات العسكرية، وإن طالت، الكثير من المفاجآت عن هذه الجماعات.

وتعتبر منطقة العريش بشمال سيناء، نقطة الارتكاز الأهم للقوات والمقارّ الأمنية، وتمثل ضربة البداية للوصول إلى جبل الحلال من خلال المرور في طريق واحد لا ثاني له، وهو طريق مطار “العريش- لحفن”، الذي يمر على عدة قرى أساسية في وسط سيناء، مثل الحسنة والقسيمة، ويضع الجيش فيه سبعة مرتكزات أمنية.

وجرى استهداف بعض هذه القرى من قبل مسلحين في الأشهر الأخيرة، وكان جبل الحلال مأواهم باعتباره أقرب نقطة للهرب من المطاردات الأمنية.

واعتادت قوات الجيش أن تغلق هذا الطريق المؤدي للجبل طوال فترة المواجهة مع المسلحين أعلاه، حفاظا على أرواح المارة، خاصة القريبين من مدينة الحسنة، التي تبدأ منها الممرات الضيقة التي تسير فيها سيارات الدفع الرباعي فقط، وعلى مقربة من الجبل بنحو 300 متر تقريبا، يبدأ السير على الأقدام لتسلق المرتفعات، إلا من طرق وعرة أنشأها القاطنون أعلى الجبل لسير عرباتهم.

ويشبّه كثير من العسكريين القدامى في مصر جبل الحلال، بأنه يضاهي جبل “تورا بورا” في أفغانستان، وهو الجبل الذي حاربت فيه الولايات المتحدة لسنوات تنظيم القاعدة، وكلفها الكثير من الخسائر في الجنود والأسلحة.

للمزيد: