شعرت ليلى خالد بأنها ليست على ما يرام في ذلك الصباح. كان ذلك في نهاية آب (أغسطس)، عندما كانت شمس الصيف العراقية تضرب الجدران والنوافذ بقوة، مثل الريح في عاصفة قوية. وكانت الموصل ما تزال في براثن “داعش” في ذلك الحين، وكانت الحرب ما تزال بعيدة جداً؛ حيث اندلعت في جنوب المدينة فقط.
قررت ليلى أن تذهب إلى العيادة في حي التحرير الواقع في ضواحي شرق الموصل. ارتدت ملابسها. وتطلب ذلك تحضيراً دقيقاً. كان عليها أن تتبع تعاليم “داعش” الصارمة في اللباس. ولم تكن المجموعة الإرهابية تسمح لأي امرأة بإظهار حتى أصغر بقعة من بشرتها.
دخلت ليلى في ردائها. وفوقه، ارتدت جلباباً -رداء فضفاضاً وعريضاً يغطي شكل أجساد النساء. وبالنسبة لوجهها، وضعت نقاباً -أو غطاء كاملاً على الرأس لم يترك مكشوفاً سوى عينيها. ثم حتى تخفي عينيها، أضافت “الستار” -وهو قطعة رقيقة جداً من القماش الشفاف، والتي تسمح لها بأن تَرى بدون أن تُرى.
ذكّر “داعش” النساء بهذه القواعد الخاصة باللباس من خلال الإعلانات المنشورة في كل مكان. ومع أن الماكياج كان ممنوعاً، لم تستطع ليلى أن تمنع نفسها عن وضع لمسة من الماسكارا في عينيها. وبعد ذلك ارتدت جواربها وقفازاتها. وأصبحت جاهزة، أخيراً.
رافقها إلى العيادة زوجها، وليد. فتحت حكم “داعش”، لا يُسمح للمرأة بالخروج من دون مصاحبة قريب ذكر وثيق يعمل كوصي (مَحرَم) يرافق النساء في تنقلهن. وسار وليد في المقدمة، وتبعته ليلى على الأعقاب. وفجأة، تعثرت وآذت قدمها. نادت زوجها، “وليد!” وأرادت أن ترى ما حدث لقدمها، فرفعَت الستار عن وجهها.
“سوف نعُضُّ زوجتك”
سمع وليد تعثر زوجته ومناداتها عليه. استدار، وأراد أن يساعد، لكنه وجد أن اثنين من أفراد جهاز “الحسبة”، شرطة آداب “داعش”، قدما نفسيهما سَلَفاً. “لا تلمَسها”، قالا له.
رفض وليد إطاعة الأمر ورفع صوته. “أريد أن أساعدها!”.
وقال رجلا “الحسبة”، موجهين حديثهما إلى ليلى، “غط وجهكِ!”.
“أريدُ أن أرى ما حدث لقدمي”، أجابتهما، ربما بنبرة عالية جداً. وتحت حكم “داعش”، لا ينبغي أن يَسمع أي رجل صوت امرأة وهو يعلو على صوته هو.
باستخدام أجهزتهما اللاسلكية، اتصل الرجلان بشرطة “الحسبة” النسائية. “سوف نعضُّ زوجتك”، قالا لوليد.
سرعان ما انضمت إليهما ثلاث نساء يرتدين عصابة “الحسبة” السوداء على جباههن. أجبرن ليلى على الوقوف. اعتذر وليد من عناصر “الحسبة”؛ وعرض أن يدفع لهم. لكن زوجته أُخِذت إلى محل قريب للحلوى، حيث لا تمكن رؤيتها في الداخل، بينما أُجبِر هو على الانتظار في الخارج. أمسكت امرأتان بليلى. ورفعت الثالثة حجابها وعضت ليلى بأقصى ما يمكنها من قوة، بقسوة شديدة حتى أغمي عليها.
أخذت شرطة الآداب في الخارج بطاقة هوية وليد بعد إعطائه إيصالاً. وتمكن من استعادة هويته بعد ثلاثة أيام في مقر “الحسبة” داخل كنسية سابقة في الموصل. وتم تغريمه 50.000 دينار عراقي. (ما يعادل 40 دولاراً).
“هل عُضَّت زوجتك؟” سأله القاضي. “نعم، يمكنك أن تقرأ هذا على الإيصال”، أجاب وليد، مغضباً.
“جيد، لأنه بخلاف ذلك، كان علينا أن نجعلهم يعضونها”. وبعد خمسة أشهر من ذلك، ما تزال علامات العضِّ ماثلة على ذراع ليلى.
وليست قضية ليلى قصة معزولة. فتحت حكم “داعش”، تُعاقَب النساء اللواتي يكشفن عن أصغر بقعة من بشرتهن في مكان عام بالقرص بواسطة كماشة. وفي المخالفات الأكثر خطورة، مثل مخالفة ليلى، كُن يُعاقبن بالعضّ. وشملت المرحلة الأخيرة استخدام فك معدني للعضّ.
يقول طبيب طلب عدم ذكر اسمه والذي أُجبِر على العمل مع “داعش”: “ترتب علي أن أعالج ثلاث نساء انسلخ جزء من لحمهن بسبب تلك الأداة (الفك المعدني)”.
تعرضت فرح للعض بهذه الأفكاك المعدنية في سوق المثنى في الموصل في صيف العام 2015 لأنها لم تكن ترتدي الستار. وما تزال ذراعها اليسرى تحمل الندوب. ويقول زوجها عزيز عبد الله خلف: “كانت تنزف، لكننا لم نجرؤ على الذهاب إلى المستشفى، حتى لا نقع في المزيد من المتاعب. استغرق الأمر 40 يوماً حتى شفيت الجراح بشكل صحيح”.
لا أحد يعرف من هو الذي ابتكر هذا العقاب. وهو بالتأكيد ليس من التقاليد الإسلامية. وقد بدأ استخدامه في بداية العام 2015 في العراق، عندما فرض “داعش” حكمه على المناطق التي استولى عليها. ومن أجل تطبيق هذه الإجراءات الجديدة، أنشأ “داعش” جهاز “الحسبة”، وهو وحدة من الشرطة تعمل على ضمان التزام النساء بشروط الزي الذي فرضه التنظيم، والتأكد من عدم اختلاط الجنسين في الأماكن العامة.
يعتقد “داعش” أن النساء لهن دور معين: إنجاب وتربية جيل جديد من الجهاديين. “في أيديولوجية المنظمة، أعطيت لكل من الجنسين أدوار واضحة، متكاملة، لكنها متساوية في نظر الله”، كما تفسر جيرالدين كاسوت، طالبة الدكتوراه السويسرية في جامعة فريبورغ، التي تركز أطروحتها على دور النساء الغربيات في “داعش”.
وتضيف كاسوت: “إنجاب الأطفال لا يقل أهمية عن القتال. إنها استراتيجية عسكرية. إذا كان يجب أن تستعاد الأراضي، فإن هناك حاجة إلى جيل جديد لتكريس وإدامة أيديولوجية ‘داعش’، ولذلك أعطى التنظيم قيمة لمكانة النساء لأسباب استراتيجية. سوف يسمح له ذلك ببناء مجتمع، ثم خلق دولة وما يتطلبه ذلك من ضرورة إنشاء مؤسسات”.
لكن نساء أخريات لعبن دوراً أكثر نشاطاً في مشروع “داعش”. فعندما تكون النساء قريبات أو متزوجات من جهاديين، فإنهن يتمتعن بسلطة معينة. ويستطعن أن يصبحن معلمات أو شرطيات في “الحسبة”. وقد روج التنظيم، على سبيل المثال، من خلال حملة دعاية مكثفة للوحدة الشُرَطية المكونة كلها من النساء، كتيبة الخنساء، التي سميت على اسم شاعرة من العصر الإسلامي المبكر.
كان عمل الوحدة التي أنشئت في العام 2014 في الرقة، “العاصمة” السورية لـ”داعش” بحكم الأمر الواقع، هو “رفع الوعي، واعتقال ومعاقبة أولئك اللواتي لا يحترمنَ الشريعة الإسلامية”، كما قال القائد في “داعش” أبو أحمد عندما أعلن عن تأسيس الكتيبة. وأضاف: “إن الجهاد ليس واجب الرجال فقط. للنساء أدوارهن أيضاً”.
على التراب العراقي، يبدو أن غالبية عضوات “الحسبة” هنّ نساء من المجتمع العربي السني المسلم. والآن، وقد تم تحرير تلك الأجزاء من الموصل، فقد أثارت التطورات التعقيدات المتعلقة بمسألة اعتقالهن.
يقول ملازم من الأمن العراقي: “مشكلتنا هنا هي قانون العشائر. التعرض للاعتقال يساوي عقوبة الإعدام بالنسبة للنساء”.
في مكاتب المخابرات في بلدة صغيرة بالقرب من الموصل، يحتجزون سجينة أثنى. وهي متسربلة بثوب غامق، وحجاب مظلم، وتعبير قاتم. سوف نسميها يسرى. عمرها 44 عاماً وهي متهمة بأنها خدمت في جهاز “الحسبة” في “وادي الفرات”. ووفقاً للملازم من الأمن، عملت ما بين 40 و60 امرأة في شرطة “الحسبة” هناك.
ألقي القبض على يسرى في أواخر كانون الثاني (يناير). وكانت تحاول الفرار من الموصل، عاصمة الأمر الواقع لـ”داعش” في العراق. وعندما قدمت نفسها وأعطتهم اسمها في نقطة للتفتيش، تم التعرف عليها كقريبة وثيقة لأبو طلعت، وهو شخصية قيادية في تنظيم “داعش”، وصيد ثمين ومثالي من ولاية وادي الفرات. وينتمي أبو طلعت إلى قبيلة عراقية كبيرة انضم معظمها إلى صفوف “داعش”.
تزعم يسرى أنها اعتُقلت فقط لأنها زوجة وأخت مقاتلين جهاديين. وتقول: “أصبح قتلي الآن واجب أي عضو في الدولة الإسلامية”. لماذا؟ لأن كون المرأة سجينة لدى السلطات العراقية يجلب العار على القبيلة. وباعتبارها قريبة لشخص رفيع في “داعش”، فإنها أيضاً ملزمة بالامتثال لميثاق الصمت الذي عادة ما يُحترم مهما كان الثمن.
وتقول يسرى: “إنكم لا تعرفون ما هم قادرون عليه. حياتي لا تساوي أكثر من قطعة ورق محروقة”.
سواء كانت يسرى مذنبة أم لا، فإنها لن تتمكن أبداً من العودة إلى مجتمعها. وهي تواجه، وفقاً لقانون مكافحة الإرهاب، حكماً بالسجن قد يصل إلى 15 عاماً.
ربما تكون يسرى امرأة سيئة الحظ. ففي الكثير من الحالات، تفضل السلطات أن تغض النظر وتترك الأعضاء النساء في “داعش” يهربن. لأنهم إذا اعتقلوهن، فإنهم يعرفون أنهم يخاطرون بإثارة موجة جديدة من العنف.
صامويل فوري
صحيفة الغد