يبقى السؤال الفلسفي والسياسي والقانوني عن علاقة الأمة والدولة بالوطن، حيا وفاعلا كلما زادت تعقيدات الحياة من خلال التطور الإنساني الذي لا يتوقف. ما هي الدولة؟ الجواب المتوارث والمتداول هو: أرض + شعب + حكومة. هل ما زال هذا المثلث يشكل الأركان الحصرية للدولة؟ أعتقد أننا في حاجة حقيقية إلى إضافة أركان أخرى كي تكتمل مكونات الدولة في العصر الجديد الذي نعيشه، لنقل الدولة (العصرية). هل تقوم الدولة اليوم من دون قيم التعايش، وسيادة القانون، والمساواة بين المواطنين؟ هل كانت جنوب أفريقيا في حقبة التفرقة العنصرية دولة؟ وحتى الولايات المتحدة قبل إلغاء الفصل العنصري؟ الدولة العصرية اليوم، هي ذاك الكيان الاجتماعي الذي يشكل الوعاء البشري لكل أبنائه، عبر قانون حاكم يمثل إشارات المرور الحياتية لكل من يعيش في داخله دون تفرقة، يحقق العدالة للجميع.
قاد ونستون تشرشل بريطانيا في معركة الوجود والمصير ضد النازية في الحرب العالمية الثانية، صفقت له بريطانيا ومنح أعلى الأوسمة، ووضعه العالم في قائمة العظماء، لكن عندما تقدم للانتخابات سنة 1945 رفضه البريطانيون، لأنهم لا يريدون زعيما يحكمهم، بل يريدون رئيسا لمجلس إدارة المملكة يتولى معركة من نوع آخر، هي معركة إصلاح ما دمرته الحرب.
الرئيس الفرنسي الأسبق الجنرال شارل ديغول، اعتبره الفرنسيون الأب الروحي للجمهورية الفرنسية الخامسة، وهو الذي أنقذ فرنسا من براثن الغول النازي في الحرب العالمية الثانية، لم يشفع له كل ذلك، وخرج الشعب في مظاهرات غاضبة سنة 1968 مناوئة له، أجرى استفتاء حول المركزية، لم يحصل على النسبة التي طلبها في الاستفتاء وغادر السلطة منزويا في قريته. لقد شبت فرنسا عن الطوق، لم تعد في حاجة إلى أب روحي أو زعيم.
التقيت، بحكم وظيفتي السابقة، بعدد من رؤساء الدول والحكومات من قارات مختلفة، كل له شخصيته وهمومه واهتماماته، قابلت بعضهم في ليبيا أثناء زياراتهم لها، وآخرين في عواصمهم، وتعرفت على آخرين قبل وصولهم إلى كراسي السلطة.
أذكر، في سياق هذه المقالة، شخصيات تداولتها الأقلام والألسن كثيرا، وهم: رئيس وزراء ماليزيا الأسبق مهاتير محمد، ورئيس البرازيل السابق لولا داسيلفا، ورئيس غانا السابق جون كافور.
مهاتير زار ليبيا في أبريل (نيسان) 2002، دعاه رئيس الوزراء الليبي آنذاك، المهندس مبارك الشامخ، إلى العشاء في أحد فنادق طرابلس، كان الشامخ يبذل جهدا محموما من أجل تحقيق إصلاحات اقتصادية في ليبيا رغم الصعوبات التي تجعل تحقيقها شبه مستحيل، وقد نجح في ذلك بقدر. تركز الحديث على مائدة العشاء حول التطور الاقتصادي الذي حققته ماليزيا في مدة قياسية. بدأ مهاتير حديثه بواقعة تاريخية لها دلالتها بالنسبة لنا، وهي أن بلاده طلبت من ليبيا في سنوات السبعينات من القرن الماضي، قرضا لا تتجاوز قيمته 30 مليون دولار، لكن للأسف لم تستجب ليبيا للطلب الماليزي. نظر إليّ مبارك الشامخ بعين فيها شحنة من السخرية والحسرة، ثم أطلق ضحكة عالية. واستطرد يلقي الأسئلة على مهاتير محمد حول الوصفة التي مكنت بلاده من تحقيق تلك النقلة الاقتصادية التي صارت مثالا يحتذى. بلغته الإنجليزية الهادئة انطلق مهاتير في حديث تفصيلي للإجابة عن سؤال الشامخ حول الوصفة الماليزية.
قال: الإصلاح، والتنمية، والنهضة عملية متكاملة وطويلة، لها مرتكزات أساسية ومحددة. لقد شرعت ماليزيا في عملية سداسية الأركان، وهي: التعليم، والتدريب، والخصخصة، والسلام الاجتماعي بين مكونات المجتمع الذي يضم أعراقا وديانات مختلفة، والشفافية، وتكريس سيادة القانون. وشدد على أن الضامن لفعالية كل تلك العناصر هو «القانون».
الرئيس البرازيلي السابق لولا داسيلفا عرفته قبل وصوله إلى كرسي الرئاسة، التقيته بمنزله المتواضع، كان المترجم بيننا شابا ليبيا عاش ودرس بالبرازيل سنوات طوال وارتبط بعلاقة وطيدة مع لولا. يتحدث بلغة المناضل الهادئ الحالم، البرازيل قارة من البؤس والفقر والجريمة والفساد، لكن رغم ذلك فهي تمتلك مقومات النهوض والتقدم. كيف؟ ما هي المعجزة؟ القانون.. القانون، هو الوصفة لعلاج كل تلك الأمراض. كان لولا يكرر دون ملل أن البرازيل هي أغني بلد في الدنيا، تمتلك كل شيء، لكن الآفة التي تدمر كل ذلك هي غياب «القانون».
استطاع داسيلفا أن يحقق حلمه المعجزة، حقق نقلة برازيلية اقتصادية باهرة عن طريق ذلك الذي كان غائبا عنها.. القانون.
الشخصية الثالثة، رئيس غانا السابق جون كافور، وهو محام بارز، درس القانون في الجامعات البريطانية، استطاع ترسيخ الانتقال السلمي للسلطة في بلاده، نجح في تحقيق السلم الاجتماعي وجلب الاستثمارات الأجنبية إلى بلاده، أرض الذهب. ألحَّ عليه القذافي بقوة أن يعدل الدستور وأن يستمر في الحكم، كان دائما يرد بقوله: «لست أنا من يفعل ذلك، أنا لا أمتلك من القوة سوى القانون».
دولة اليوم، كي تكون كذلك، لا يقودها زعيم أو أب روحي، بل يسيرها «القانون»
عبد الرحمن شلقم
الشرق الاوسط