يطابق العقيد صورة العسكري العراقي الأصيل: رأس حليق، وشارب كثيف أسود، وهو فخور جداً بالكيفية التي استطاع بها الجيش العراقي إعادة بناء نفسه “وأثبت أنه محترف” في القتال لطرد “داعش” من الموصل.
ولكن، بينما لا يخالطه أي شك في أن “داعش” سيسحق في وقت قريب في آخر معقل له في العراق -منطقة البلدة القديمة من غربي الموصل حيث كان الجهاديون قد أعلنوا عن قيام خلافتهم في العام 2014- فإنه يتنهد بعمق عندما يسأل عما إذا كان متفائلاً بالمستقبل.
مثل الكثيرين في العراق، يبدي العقيد توجساً من أن التحديات التي تواجه المصالحة وتحقيق السلام في الموصل عبر الفسيفساء العرقية المعقدة لمحافظة نينوى ستكون أصعب من كسب الحرب نفسها.
ذلك يهم، لأن هذا الرمز من حكم “داعش” في العراق كان مدينة مختلطة بمؤسسات موقرة، وهو مقياس لقدرة العراق على التعافي من صدمة الجهاديين. والمخاطر كبيرة، تستوجب تجنب تكرار القتال العرقي والطائفي والحرمان السني الذي ساعد في انتشار “داعش” ووصوله في المقام الأول.
يقول الضابط الذي طلب عدم ذكر اسمه، لكنه يذكر أنه قتل شخصياً 35 جهادياً في العراق منذ العام 2007: “لا أستطيع تخمين أو تصور المرحلة التالية، لأن كل طرف يتبع قراراته الخاصة وطائفته الخاصة ومصالحه الخاصة”. وكان المتمردون قد قتلوا والده بسبب الانتقام.
ويضيف أن تحقيق النصر العسكري في الموصل هو “تقدم بالنسبة للجيش في حد ذاته، لكن الساسة” يخلقون حواجز مستمرة أمام المصالحة.
في الأيام الأخيرة في واشنطن، استمع مسؤولون كبار من التحالف الذي يضم 68 دولة عضواً تحت القيادة الأميركية والذي يقاتل “داعش”، والذين اجتمعوا لأول مرة منذعامين، إلى كلام مشجع عن تعزيز الجهود التي تبذلها إدارة ترامب لتدمير “داعش” في العراق وسورية.
يقول محللون إنه قد يكون من المؤكد إلحاق الهزيمة بالجهاديين في العراق، وفي خاتمة المطاف في سورية. لكنهم يحذرون من بقاء مخلفات متعددة من الاحتكاك العرقي الذي مهد الطريق أصلاً أمام “داعش” ثم تفاقم بفعل سنوات احتلال الجهاديين واستهدافهم للمسيحيين والأكراد والشيعة وإخوانهم السنة، وطائفة من الأقليات التي تسكن هذه المنطقة من شمالي العراق.
يعني ذلك أنه على الرغم من جهود المصالحة المحلية التي نجحت في مدن محررة مثل تكريت -حيث تمكن السنة والشيعة من إصلاح الأمور على الرغم من مجزرة العام 2014 مستخدمين آلية حفظ السلام ناجحة- فإن المهمة تبدو أعقد بكثير في الموصل وما حولها.
يقول ريناد منصور، الزميل في تشاثام هاوس، المؤسسة الفكرية اللندنية: “هناك الكثير من المشاكل في الموصل وفي نينوى، والتي كان وجود “داعش” قد أخفاها”.
ويضيف: “لقد استخدم الساسة “داعش” وسيلة لتبرير كل هذه المشاكل الأخرى، لتبرير الوضع الاقتصادي والمطالبات بالأراضي والأراضي المتنازع عليها. لديك (مشاكل) تقليدية بين الطوائف ومشاكل سنية شيعية وشيعية كردية -ولكن لديك أيضاً مشاكل في داخل الطائفة الواحدة، والتي أعتقد أنها أصبحت الآن أكبر مما كانت عليه منذ العام 2003″.
من بين تلك المشاكل داخل الطائفة الواحدة أن الفصائل الشيعية في بغداد تتقاتل على النفوذ؛ حيث يدعو البعض إلى مصالحة وطنية مع السنة والأكراد، بينما لا يدعو آخرون إلى مثل ذلك. والآن، تواجه الحكومة الإقليمية الكردية الشمالية انقسامات سياسية هي أيضاً.
ما تزال الموصل وسكانها السنة في معظمهم يترنحون من الصدمة التي صنعتها ثلاث سنوات تقريباً من حكم “داعش” الوحشي. وكان الترحيب الذي استقبل به الناس “داعش” في الموصل في البداية رد فعل على الإجراءات الأمنية العنيفة التي استخدمتها القوات الأمنية العراقية ذات القيادة الشيعية بموجب أوامر صدرت إليها من رئيس الوزراء العراقي في حينه، نوري المالكي الشيعي.
الافتقار إلى خطة سياسية
مع ذلك، وعلى الرغم من المصالحة والكلمات الوطنية من رئيس الوزراء حيدر العبادي الذي ينتمي أيضاً إلى الطائفة الشيعية التي تشكل الأغلبية في العراق، ليست هناك أي خطة في بغداد لزيادة التمثيل للأقلية السنية في الحكومة العراقية. كما لا توجد أي رغبة في التوصل إلى تسوية مع الأكراد حول المناطق المتنازع عليها. وفي الموصل وما وراءها، ثمة قلة من القادة السنة الذين يستطيعون ادعاء التحدث نيابة عن شعبهم.
ويقول منصور: “لدينا حل عسكري واضح جداً، أمامنا نصر عسكري واضح، وإنما ليست هناك خطة (سياسية) مرافقة تتفق عليها الأطراف”.
وذلك يعني أن عالم ما بعد “داعش” في الموصل والمنطقة سيكون مليئاً بنقاط الاشتعال المحتملة، بينما يدرس صناع السلام المحترفون أفضل السبل لتشجيع المصالحة والعمل بطرق محدودة لإطفاء نار الرغة في الانتقام والغضب التي جعلها “داعش” أسوأ من السابق.
على سبيل المثال، اشتبكت قوات البشمرغة الكردية في الأسابيع الأخيرة مع المليشيات الأيزيدية في سنجار، بالقرب من الحدود مع سورية، مما أسفر عن وقوع خسائر من الجانبين. كما يشكل التمحيص والتدقيق في العائدين من المتعاونين مع “داعش” -والفصل بين الحقيقة والخيال من اتهامات الجيران- تحدياً آخر.
يقول أسامة الغريزي، مدير برنامج الشرق الأوسط في المعهد الأميركي للسلام، ومهندس جهود المصالحة في تكريت وغيرها: “يكمن هدفنا الرئيسي في البيئة الراهنة بعد التحرير في منع أعمال العنف الانتقامية. نحن ننظر إلى المصالحة كعملية وليس كمحصلة. إنها عملية طويلة الأمد وتشتمل على مراحل عدة”.
القيمة الرمزية للموصل
يستطيع الوسطاء العراقيون المدعومون من معهد السلام الأميركي ومن الأمم المتحدة التعرف على النزاعات المحلية المحتملة والتدخل بشكل استباقي في محاولة لوقفها والحيلولة دون إفلاتها من عقالها. لكن من الضروري التعامل مع المصالحة الاستراتيجية في الموصل، التي تضم أقليات صغيرة -لكنها مكلومة- مثل الأيزيديين والمسيحيين والشبك والتركمان، كجزء من عملية سياسية أوسع، والتي ما تزال غير موجودة بعد. ويقول الغريزي: “هذا هو المكان الذي يجب أن تحرز فيه المصالحة الوطنية التقدم”.
يظل النجاح في الموصل، ثانية كبريات المدن العراقية، رمزياً بشكل خاص. وينطوي كل واقع من وقائع تحريرها على مسحة طائفية. وكان الاستثناء عندما أعلن رئيس الوزراء العبادي عن بدء الحملة المعادية المناهضة لتنظيم “داعش” في الموصل في ترين الأول (أكتوبر) الماضي، حين قال إن كل العراقيين سيكونون قادرين قريباً على الاتحاد تحت العلم الوطني.
يقول مسؤول من الأمم المتحدة: “إن ما بدأ في الموصل ينتهي مع الموصل… إنهم الشيعة والأكراد يقومون بتحرير السنة من أنفسهم”. وكان يشير بذلك إلى أن الجيش العراقي الشيعي في جزئه الضخم والقوات الكردية والقوات الشيعية شبه العسكرية التي تشن الهجوم المضاد، وحيث قلة من العرب السنة من الموصل يشاركون فيه.
ويقول المسؤول، الذي تحدث شريطة عدم الإفصاح عن هويته، أنه بالرغم من أن الدينامية تلقى الترحيب من سكان الموصل التي يحتلها “داعش”، فإنها لا تبشر بشيء جيد لمستقبل الموصل.
ويقول المسؤول الأممي: “يعزز ذلك فكرة أن الموصل إما أن تكون تحت السيطرة التامة لبغداد بوساطة نخبة سياسية صديقة لبغداد، أو أنها سوف تدمر وتترك تحت رحمة النزاعات الصغيرة -أي أنها لن تزدهر وتنتعش مرة أخرى. لا توجد عملية متفق عليها لما تعنيه المصالحة”.
“فكرة الانتقام ماثلة في أذهانهم”
في الحقيقة، هناك مشهد مختلف الألوان للقضايا في الموصل -من البنود الكبيرة، مثل الشكاوى السنية من الحكم ذي القيادة الشيعية في بغداد، واستيلاء الأكراد الذين لطالما تنازعوا مع بغداد على الأراضي -بما في ذلك كركوك الغنية بالنفط- إلى مجموعة من النزاعات الصغيرة مع وبين مجموعات الأقلية.
ويقول الغريزي إنه حتى مع التوصل إلى اتفاقيات، فإن “هناك حاجة إلى وسطاء للمتابعة والرصد وضمان تقيد الأطراف بها”، وبغير ذلك سيتم قذف الثقة من النافذة… إنه عمل صعب جداً”.
ويضيف أن معهد السلام الأميركي والأمم المتحدة اللذين يقدمان الدعم يدرسان حالياً النزاعات بين الأقليات المسيحية والشبك، ويطوران حواراً بين الأيزيديين والتركمان السنة الذين ينظر إليهم الأيزيديون على أنهم كانوا يسهلون تهريب نسائهم في ظل “داعش” بما في ذلك عبدات الجنس.
ويقول الغريزي: “الانتقام ماثل في أذهانهم في بالهم. ولذلك نريد مخاطبة الأمر بطريقة لا تتفجر وتتحول إلى سفك للدماء”
ويشير البحث الذي أجرته منظمته إلى أن الأيزيديين وغيرهم من الأقليات يعرفون أن السنة ساعدوهم في الهرب من “داعش” مثلاً، “لكنهم ما يزالون يسترشدون بنظرة جماعية. لذلك نريد أن نساعدهم في التفريق والتخلص من تلك النظرة الجماعية التي تقول بأنك إذا كنت سنياً، فإنك يجب أن تكون من داعش”.
ويخلص الغريزي إلى القول: “الهدف الحالي هو تحقيق التعايش السلمي وإقناع المجتمعات بالعيش بسلام مع بعضها بعضا… ثم مع الوقت، تستطيع قطع مسافات أبعد على طريق المصالحة”.
سكوت بيترسون
صحيفة الغد