يعقد المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في بيروت مؤتمره السنوي الرابع للدراسات التاريخية، الذي يحمل هذا العام عنوان “العرب: من مرج دابق إلى سايكس – بيكو (1916-1516): تحوّلات بُنى السلطة والمجتمع – من الكيانات والإمارات السلطانية إلى الكيانات الوطنية”، وذلك خلال يومي الجمعة والسبت 21 و22 نيسان/ أبريل 2017.
وألقى أ. صقر أبو فخر كلمة ترحيبية، فقال إن المركز العربي اختط سياسةً تقوم على تنظيم مؤتمرات دورية في شتى حقول المعرفة، وليست غاية هذه المؤتمرات تجميع بحوث لإصدارها لاحقًا في كتب، بل إيجاد حقل مشترك للباحثين العرب يتفاعلون في نطاقه، ويتبادلون الأفكار ويناقشون معًا القضايا الكثيرة التي تعصف بالفكر العربي اليوم.
ثم ألقى الدكتور خالد زيادة، مدير فرع بيروت، كلمة الافتتاح وقال فيها إن ثنائية أوروبية – عثمانية حلت مع بدايات القرن السادس، بعد أن أزيل التنوع السياسي حول المتوسط، وفي عهد سليمان القانوني، أكملت الدولة بناءها الإداري والقانوني والعسكري، وصاغت قوانينها المستمدة من تراث سلجوقي وأعدّت تراتبيتها المستمدة من التقاليد البيزنطية التي جعلت من السلطان رمزًا سياسيًا ودينيًا. وكانت النهضة أحد العوامل التي ساهمت في تبلور وعي أوروبي حين كانت اللاتينية توحد الثقافة العليا في عواصم أوروبا، ولم يؤدِ بروز اللغات القومية إلى تغييب الوعي الأوروبي. وختم قائلًا إن الجوار الفريد بين عالمين مغايرين وضع الإسلام في مواجهة مباشرة مع الحداثة، والتعويل في هذا المؤتمر على إعادة النظر في هذه العلاقة للخروج من المآزق التي تجعلنا في عداء مع العالم.
وألقى الدكتور وجيه كوثراني، مدير الإصدارات في المركز، محاضرة عنوانها: “إشكالية نسبة الخلافة إلى السلطنة العثمانية: بين التاريخ والأسطورة”، فقال إن الخلافة تحوّلت إلى “ملك عضوض”، وهذا معطى يقره الفقهاء أنفسهم حتى بالنسبة إلى الخلفاء الأمويين والعباسيين الأوائل، ويُسوّغوه بحكم الضرورة والأمر الواقع. ومع نفوذ أمراء الجند وسيطرة البويهيين في القرن العاشر والسلاجقة ثم الزنكيين والأيوبيين والمماليك في المشرق، أضحت الخلافة بلا حول ولا قوة، ولا سيما بعد كارثة المستعصم على يد هولاكو. وتناول قصة تنازل آخر خليفة عباسي للسلطان سليم عن حقه في الخلافة، فرأى أنها لا تصمد أمام النقد التاريخي، فالمصادر التاريخية المعاصرة للحدث المفترض لا تذكره. وبرأي كوثراني، عندما بادر مصطفى كمال إلى التفريق بين الخلافة والسلطنة، كان يقول إن السلطنة أي الحكومة بيده وبيد المجلس الوطني، وأن “الخليفة – السلطان” تخلى عن دوره كحاكم.
ثم ألقى الدكتور نور الدين ثنيو محاضرة عنوانها: “سقوط الخلافة.. وبداية إشكالية القومي والإسلامي”. وقال إن حدث سقوط الخلافة استمد قوته من السياق الدولي الذي خلفته الحرب الكبرى التي شهدت هزيمة مدوية للإمبراطورية العثمانية برمتها، وسرى على الدولة العثمانية التاريخ الحديث نفسه الذي قضى بضرورة الانتقال من الحكم الإمبراطوري إلى حكم الدولة القومية. وبرأيه، عبّر سقوط الخلافة الإسلامية عن نهاية أنموذج الحكم الديني وصعوبة بناء الجمهورية العربية الحديثة.
وعقد المؤتمر جلساته في قاعتين؛ فكانت الجلسة الأولى في القاعة الأولى بعنوان “التاريخ العثماني والتواريخ المحلية (1)”،برئاسة الدكتورعبد الرحيم بنحادة، وشارك فيها الدكتور ناصر الدين سعيدوني (الجزائر العثمانية في الذاكرة التاريخية: إشكالية السيادة الجزائرية في العهد العثماني)، ود. لطفي بن ميلاد (“الغرب الإسلامي” وموقفه إزاء صعود السلطنة العثمانية وحضورها في المتوسط 856هـ – 942هـ/ 1453م – 1535م: قراءة جديدة في جذور الاتصال ومواقف السلطة والنخبة)، ود. عبد الحي الخيلي (أزمة المركز العثماني وإرهاصات تأسيس الدول المستقلة في البلدان المغاربية بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر)، ود. محمد المريمي (البلاد التونسية والمرحلة الانتقالية بين 1574 و1637م).
ورد سعيدوني أهمية إشكالية السيادة الجزائرية قبل الاحتلال الفرنسي إلى الدور الذي أدته في تشكل الإحساس الجزائري المعادي للسياسة الاستعمارية وتبلور الوعي الوطني لدى النخب والحركة الوطنية. وأضاف أن النقاش دار بين من يرى أن الجزائر كانت تابعة للدولة العثمانية تحكمها أقلية تركية، ومن يرى أن الجزائر كانت دولة مستقلة لا تتعدى روابطها بالدولة العثمانية البعد الأدبي والمصلحة المشتركة والرابط الروحي، ومن يسلم باستقلالية الجزائر من دون إنكار مظاهر الارتباط بالباب العالي.
وقال بن ميلاد إنه ينبغي عدم العودة بالعلاقات بين العثمانيين والمغاربة إلى مرحلة متأخرة تصب في جانب عدائي، بل يعود الأمر الى السيطرة النهائية العثمانية على آسيا الصغرى وتراقيا وفتح القسطنطينية، حيث سارعت السلطنة الحفصية إلى إرسال وفود ربما تضمنت تهنئة بالانتصارات على القسطنطينية العظمى، “ولم تسعفنا حروب البندقية – العثمانية في تتبع مسار العلاقات الحفصية العثمانية التي تواصلت مع المماليك الجراكسة، والدليل التوافق المملوكي – العثماني على توسيط الحفصيين لحل الصراع الحدودي بينهما”.
وبحسب الخيلي، اتضحت معالم أزمة السلطة المركزية في بداية تراجع العلاقة بين الباب العالي والولايات المغاربية، بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر. فتلك العلاقة كانت “موجودة الاسم معدومة الجسم”؛ أي بداية الاتجاه نحو الاستقلال عن السلطة العثمانية.
أما المريمي فقال إن بعض الدارسين اختزل المرحلة الانتقالية في تونس في الصراع بين الأتراك والإسبان في منطقة الشمال الأفريقي، وهو صراع أخذ صبغة دينية طاغية، ومنهم من قال إنها مرحلة عثمنة الشمال الأفريقي بينما أتى من قال إنها مرحلة إزالة العثمنة عن المنطقة. وبرأيه، كانت كل أفعال الأشراف مردودة إلى مرجعية سياسية، هي المرجعية الحفصية. فالفكر الانتقالي يحتاج إلى فكر مرجعي. وانتهت الجلسة بجولة نقاشية.
وانعقدت الجلسة الأولى في القاعة الثانية بعنوان “الإصلاح والتنظيمات”، برئاسة د. أنطوان سيف. وشارك فيها د. مهند مبيضين (الإصلاح العثماني للبلاد العربية في أدب اللوائح: لائحة عبد الرحمن بن إلياس المدني نموذجًا)، ود. يحيى بولحية (أصداء التنظيمات العثمانية وتجربة محمد علي في المغرب الأقصى في فترة ما قبل الحماية الفرنسية 1912م)، ود. نجلاء مكاوي (التوظيف السياسي للدين والقانون في مشروع محمد علي).
قال مبيضين إن الإصلاحات العثمانية لم تبدأ بخط شريف كلخانه، بل سبقها جهد مصلحين ورجال دولة حاولوا المجيء بأفكار تعيد للسلطنة العثمانية تماسكها وألقها المفقود منذ توقيعها معاهدة كارلوفيتس التي تخلت فيها الدولة عن أجزاء من أراضيها. وقال بولحية إن البعثات العلمية إلى أوروبا أبرز ركن تنموي راهنت عليه تجربة محمد علي في الرد على الهجمة الغربية، لكن لم تحقق البعثات التعليمية نحو مصر الأهداف المنشودة وأدرك المخزن أخطاءه السابقة، فقرر الاتجاه بطلبته نحو الدول الغربية كبريطانيا وفرسا وألمانيا.
أما مكاوي فرأت أن محمد علي باشا صاحب تجربة تحديثية، ونقف على حداثة هذه التجربة من خلال دراسة دور الدين والقانون في مشروع محمد علي، ووظيفة القانون، وكيفية استخدام الدين، وطبيعة المشروع وأهداف وتصورات صاحبه، وسياقه التاريخي، سواء أكان مشروعًا إصلاحيًّا عثمانيًّا إمبراطوري الهدف أضحى تحديثًا “تغريبيًّا” على حساب الشريعة الإسلامية، أم مشروعًا خاص لحكم مصر، جاء طابعه مزدوجًا “إسلاميًّا – حداثيًّا”. وانتهت الجلسة بنقاش بين المتحدثين والحضور.
وانعقدت الجلسة الثانية في القاعة الأولى، عنوانها “التاريخ العثماني والتواريخ المحلية (2)، برئاسة د. عبد الحميد هنية، ومشاركة د. أنيس القيسي (العلاقات السياسية بين الدولة العثمانية والمغرب السعدي: دراسة في إشكالية “التجاور – التبعية -الاستقلال”)، ود. نهار محمد نوري (النزعات العراقوية ومدلولاتها في أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين: دحض فرضية الدولة المصطنعة)، ود. جميل موسى النجار (الدولة الوطنية العراقية 1921: جذور التأسيس العثماني).
رأى النجار أن جغرافية ولاية الموصل العثمانية كانت تتشكل حينما خضعت للحكم العثماني من جزء من إقليم الجزيرة الجغرافي، وجزء أصغر منه من إقليم الجبال أو عراق العجم. ويشير توحيد العثمانيين تلك الولايات إلى إدراكهم أهمية ممتلكاتهم في هذه الأقاليم الجغرافية، وضرورة جمعها في منطقة حاجزة مع إيران. وقال نوري إن من أبرز ملامح البزوغ الهويَّاتي الجنيني الذي رافق حقبة الإدارة العثمانية لولايات العراق الإقرار بوحدة الإدارة المركزية للولايات العراقية تحت قيادة ولاية بغداد، بالتزامن مع الاندماج السوسيو–اقتصادي بين الولايات. وقال القيسي: “لم تنو الدولة العثمانيّة ضمّ المغرب، بل سعت إلى إخضاعه طوعًا، أو إقامة تحالف يضمن ولاءه لسلطتها، وكان الصدام العثمانيَّ – السعدي أحد إفرازات التجاور الذي مثَّل تحديًّا بين هاتين القوّتين الإسلاميتين”. وانتهت الجلسة بجولة نقاشية.
وترأس د. عصام خليفة الجلسة الثانية في القاعة الثانية وعنوانها “التغلغل الغربي ومسالكه”. شارك فيها د. محمد مرقطن (جواسيس في الأرض المقدسة: الرحالة الغربيون والاكتشافات الأثرية في فلسطين والتمهيد للمشروع الصهيوني 1800-1914)، ود. ليث مجيد حسين (خط سكة حديد برلين – بغداد: المطامع الاقتصادية والعلمية لألمانيا القيصرية في العراق)، ود. أمجد الزعبي (التغلغل الألماني في الدولة العثمانية من خلال الاستشراق: دراسة في الوظائف والأدوار في الربع الأخير من القرن التاسع عشر).
وقال مرقطن إن فلسطين صارت منذ بداية القرن التاسع عشر قبلة رحلات استكشافية أوروبية وأميركية، وكان هدفها دينيًا، ولم تنقطع العلاقة الروحية بين أوروبا وفلسطين بعد الحروب الصليبية، فاستمر توافد الحجّاج والبعثات التبشيرية والرحالة وعلماء الكتاب المقدس على فلسطين. وتشكل كتب الرحالة الغربيين وتقارير الاكتشافات الأثرية في المشرق العربي مصدرًا مهمًا لدراسة تاريخ فلسطين في القرن التاسع عشر.
وقال حسين إن مد خط سكة حديد برلين – بغداد كان من أعقد التحديات التي واجهت الاستعمار الأوروبي في تصديه لسياسة “الاندفاع نحو الشرق” الألمانية، والمحافظة على امتيازات فرنسا وبريطانيا في الدولة العثمانية. وبرأيه شكّل مشروع خط برلين – بغداد – البصرة عاملًا غير مباشر لاندلاع الحرب العالمية الأولى، إذ زرع الشك بين أطراف الاستعمار الأوروبي الجديد.
وقال الزعبي إن علاقة التغلغل الاستعماري بالاستشراق جدلية، استندت إلى الدور الرسولي المتعالي للأمة الألمانية وحقها الطبيعي في بناء الدولة القومية وقيادة العالم. وخضع الغرب لوهم الدور الرسولي المتفوق للحضارة الغربية على حساب الشرق النائم، واعتقد الألمان أنهم ورثة الحضارة الهيلينية القادرة على الانبعاث من خلال الأمة الألمانية الفتية. ودفع بطء الصحوة العثمانية المؤرخين المعاصرين إلى إطلاق مصطلح “المسألة الشرقية”. وانتهت الجلسة بأسئلة وجهها الحضور أجاب عنها المتحدثون.
بعد استراحة قصيرة، انعقدت ثالث جلسات اليوم الأول، وفيها محوران: “جدل العلاقة بين الاستقلال والتغريب والعثمنة” و”التاريخ العثماني والتواريخ المحلية (3)”، برئاسة د. نجلاء مكاوي ومشاركة د. فدوى عبد الرحمن علي طه (السياسة البريطانية في السودان 1821-1914: أساليب محاصرة وتصفية الحضور العثماني والنفوذ المصري بالسودان)، ود. قيصر موسى الزين (التحولات بين التعريب الثقافي والتتريك العثماني في سياق سياسي متغير في أطراف العالم العربي: حالة السودان 1504م – 1885م)، ود. أمل غزال (شمال أفريقيا من حرب طرابلس إلى الحرب العالمية الأولى: بين الاستقلال والاتحاد العثماني – وادي ميزاب مثالًا)، وأ. ناصر السعدي (نشأة الدولة في عُمان عام 1034هـ/ 1624م: دراسة في التحولات السياسية والاجتماعية في العهد العثماني).
وقالت فدوى علي طه: “بعد سيطرة الدولة العثمانية على مصر، لم تعمل على بسط نفوذ فعلي على السودان، واكتفت بسيادة اسمية عليه، وأخفقت في إقامة حكم راسخ فيه. ووجدت بريطانيا الطريق ممهدًا أمامها لفرض سيطرتها على السودان، إذ كانت الإمبراطورية الاستعمارية الأقوى ذات الدبلوماسية الحاذقة، وساعدها نفوذها القوي في مصر في عهد الخديوي إسماعيل واحتلالها مصر (1882).
وبرأي الزين، كان التتريك الثقافي محدودًا في السودان، فوجود الأتراك كان سطحيًا محكومًا بالرغبة في استغلال السودان اقتصاديًا وتجنب الاحتكاك بالسكان، استعلاءً أو تخوفًا. وحدت الأسلمة والتعريب في السودان من آثار هذا التتريك.
أما غزال، فرأت أنه ينبغي إيجاد سردية واحدة تربط بين الاحتلال الإيطالي لطرابلس الغرب (1911) ومجريات الحرب العالمية الأولى في شمال أفريقيا. ووثق الاحتلال الإيطالي التفاف الناشطين السياسيين المغاربة حول الاتحاد العثماني كعصا نجاة، إذ خافوا أن ينهي احتلال طرابلس الوجود العثماني في الشمال الأفريقي ويقضي عليهم في مساندة عثمانية لاستعادة السيادة من الاحتلال الأوروبي.
وبحسب السعدي، عُمان أول دولة في المشرق العربي تواجه الموجة الاستعمارية الأولى المتمثلة في البرتغاليين الذين سيطروا على السواحل العمانية زهاء 100 عام. ولم تنجح محاولات العلماء إعادة “أمر عمان إلى علمائها”، فكانت النتيجة خروجهم من المشهد، واحتلال القبيلة الفعل السياسي، وظل المشهد القبلي مسيطرًا حتى قيام سلطنة عُمان ودولة الإمارات العربية المتحدة في سبعينيات القرن العشرين على الرقعة الجغرافية التي عرفت سابقًا بعُمان. وانتهت الجلسة بجولة نقاش شاملة.
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات