عندما أعلن جيمي كارتر خوض معركة رئاسة الجمهورية في الولايات المتحدة استقبلته وسائل الإعلام بسؤال مفاجئ ينم عن جهل وتجاهل، خلاصته: جيمي مين؟! وهذا ما حدث في فرنسا مساء الأحد الماضي، عندما اقترع الناخبون لمصلحة إيمانويل ماكرون، الأمر الذي طرحه كمنافس جدي مقابل مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبن. وكان سؤال الصحف معبراً عن دهشة مفادها: ماكرون مين؟!
وتوقع كثيرون أن يكبر السؤال عندما ارتفع مؤشر المصارف في منطقة اليورو، مسجلاً أعلى مستوى منذ ربيع 2015. وأحدثت تلك النتيجة ارتياحاً عاماً لدى أصحاب الشركات الذين رأوا في فوز وزير الاقتصاد السابق مدخلاً لخوض الجولة الثانية الأخيرة يوم الأحد في 7 أيار (مايو) المقبل.
الرئيس فرانسوا هولاند أعلن دعمه لماكرون، مؤكداً أنه سيصوّت له في الدورة الثانية. ورأى أن مرشحة اليمين المتطرف مارين لوبن تشكل مجازفة خطرة بالنسبة إلى مستقبل فرنسا. ومن المؤكد أن لوبن استفادت من حال الطوارئ التي فرضتها الحكومة عقب مجزرة باريس التي حصدت 130 قتيلاً في آخر عام 2015. كما استفادت أيضاً من قتل شرطي بالرصاص وجرح آخرين في جادة الشانزليزيه قبل يومين من موعد انتخابات الدورة الأولى.
وتعتبر الحلول التي ورثتها لوبن عن والدها، نقيض الحلول التي يطرحها منافسها ماكرون. ذلك أنها تعتمد في نهجها على نوازع الخوف من الإسلام السياسي وعلى رفض اندماج المسلمين في المجتمع الأوروبي. ولهذه الأسباب وسواها، نقلت عن دونالد ترامب شعار «فرنسا أولاً»، بهدف استقطاب معارضي الهجرة إلى صفوف «الجبهة الوطنية» التي تقودها.
ويُستدَل من نشاط الحملة الانتخابية التي جددها ماكرون هذا الأسبوع بزيارة عمال المصانع، أنه شعر بقوة الحملة المضادة التي وجهتها لوبن ضده. وذكرت الصحف الفرنسية أن مستشاري زعيم حركة «إلى الأمام» نصحوه بألا يركن إلى أرقام استطلاعات الرأي، التي توقعت حصوله على ستين في المئة من الأصوات، وأن معركة الرئاسة أصبحت محسومة لمصلحته.
ويبدو أن النصائح قد أثمرت لدى ماكرون، خصوصاً بعدما زارت لوبن مدن شمال فرنسا حيث حلت في الطليعة. وكان ذلك بمثابة حافز جديد لاستكمال مقارعة التحديات التي تنتظر وصول الرئيس الوسطي إلى القصر الجمهوري.
آخر حواجز القفز العالي ستُرفع يوم الأربعاء المقبل (3 أيار- مايو)، أي قبل أربعة أيام فقط من الوصول إلى المحطة الأخيرة في الإليزيه. وبما أن ماكرون حفظ كل خطب أوباما، فهو مؤمن بأن استخدامها في المناظرة الأخيرة أمام منافسته لوبن، سيكون أشبه بـ «رصاصة الرحمة».
ويرى مرشح الشباب أن اليسار واليمين في فرنسا فشلا في إنقاذ البلاد من اضطرابات الداخل وهجمات الخارج. لذلك فهو يسعى إلى تقليد توني بلير الذي خلق داخل حزبه تياراً وسطياً قادراً على استمالة مختلف العناصر القلقة والمهمشة.
في زحمة الحملات الانتخابية يشاهد الفرنسيون امرأة ملتصقة به دائماً تشبه إلى حد ما الممثلة جين فوندا. إنها زوجته بريجيت (63 سنة) التي تكبره بـ 24 سنة، تماماً مثلما يكبر دونالد ترامب زوجته ميلانيا بـ24 سنة، وقد أغوته بحركاتها عندما كان في الـ17 من عمره، والتحق بصف الدراما الذي تشرف عليه المدرّسة بريجيت.
يقول رفاقه في المدرسة الابتدائية إن ماكرون لم يكن مولعاً بالرياضة كسائر الأطفال. ولما دخل الثانوية كان بعيداً عن أهله وقريباً من جدته التي تسكن في مكان بعيد. وكان يحرص على زيارتها لأنها تؤمن له كتب المطالعة. وهي كتب كلاسيكية تاريخية رصينة. ومثل هذا الولع يشير بوضوح إلى أن إيمانويل ماكرون لم يعرف طور المراهقة، وأن زوجته بريجيت هي التي حرمته من هذه المتعة. واللافت أنها حالياً تمر معه بتلك الفترة، الأمر الذي يدفعها إلى معانقته وتقبيله أمام الكاميرات كلما سلطت عليهما الأضواء. لذلك كتب المعلق البريطاني سيمون كيلنر عن هذه الظاهرة ليقول إن الرئيس الفرنسي المقبل لا يختلف من حيث إظهار عواطفه عن الرئيس هولاند.
يعترف الخبير الفرنسي المتميز جاك أتالي بأنه هو الذي اكتشف كفاءة ماكرون بالصدفة عندما كان يبحث عن مستشار اقتصادي للرئيس هولاند. ولما ربح معركة الرئاسة عام 2012، ضم هذا الشاب الطموح إلى فريقه حيث عمل لمدة سنتين قبل أن يودعه وينغمس في العمل السياسي.
الجالية العربية في فرنسا رحبت بالمرشح إيمانويل ماكرون، الذي زار الجزائر بناء على نصيحة مكتشفه جاك أتالي. ومع أن إسرائيل تتمنى وصول مارين لوبن إلى الحكم لأسباب عنصرية، إلا أنها آثرت الصمت حيال ماكرون، احتراماً لصديقها الأول في أروقة باريس أتالي. علماً أن الجالية اليهودية في فرنسا تعتبر أكبر جالية بين الدول الأوروبية.
عندما قرر ماكرون خوض معركة الرئاسة، قام بزيارة الجزائر مثلما فعل من قبله نيكولا ساركوزي وفرانسوا هولاند. وقد استقبله المسؤولون الجزائريون بحرارة، خصوصاً عندما استنكر جرائم الاستعمار الذي قبع في تلك البلاد العربية 132 سنة، من دون أن يأخذ من المهاجرين المغاربة أي موقف عدائي. وعلى العكس فقد أعلن استعداده لزيارة المغرب، نظراً للعلاقات المتينة التي تجمع بين البلدين.
يقول أحد أنصار ماكرون إن تودده لكسب أصوات الجزائريين والمغاربة ناتج من قناعته بأن تهميش هذه الجالية التي يصل عدد أعضائها إلى أكثر من خمسة ملايين تقريباً في فرنسا، سيحولهم إلى أعداء في الداخل. من هنا إصراره على إبقاء الامتيازات الممنوحة للجزائريين بحسب نصوص اتفاقية 1968. كما وعد في خطبه كل المسجلين على اللوائح الانتخابية- وعددهم يزيد على المليونين- بأنه سيعزز وضعهم الاجتماعي من طريق إيجاد فرص عمل للعاطلين. ومثل هذه الوعود قد تسيء إلى شعبيته لأن غالبية الشعب الفرنسي تقيس نجاح الرئيس المقبل من زاوية القدرة على لجم التطرف الديني ومكافحة الإرهاب، ومعالجة قضايا اللاجئين.
هذا كله لا يمنع المرشح ماكرون من تثبيت سياسة أوروبية تعتمد على إرساء دعائم شراكة فرنسية- ألمانية تكون نواة لتجمع دول حلف شمال الأطلسي. وهو يطالب بتوسيع مرتكزات هذا الحلف بحيث يصبح مسؤولاً عن استقلال الكتلة الأوروبية، مثلما هو مسؤول عن مزاحمة الصين في أفريقيا.
على ضوء المنافسة المشروعة يتطلع الناخبون إلى الخطوة التالية التي تستعد لها مارين لوبن. وقد باشرت عملها هذا الأسبوع بمحاولة هدم قواعد التعاون الفرنسي- الألماني. لذلك ذكرت الرأي العام بأن الفرنسيين لم يبعثوا باليهود إلى معسكرات الإبادة. وكانت بهذا التصريح تحض إسرائيل على التدخل لمصلحتها، موحية بأنها تخلصت من عقدة والدها مؤسس حزب «الجبهة الوطنية».
إضافة إلى هذا التحول المفاجئ، فإن زعيمة اليمين الفرنسي المتطرف أطلقت سلسلة وعود مغرية بهدف استمالة الجيش والمؤسسات المالية. فقد تعهدت برفع موازنة الدفاع، وإسقاط الجنسية عن كل متجنس أدين بالإرهاب، وطرده إلى بلده الأصلي. كما وعدت أيضاً بطرد الشيوخ والأئمة الذين يشجعون المهاجرين على ارتكاب العمليات الإرهابية، ومحاصرة أحياء الضواحي حيث تنتشر سيطرة العصابات الإجرامية.
ومع أن لوبن لا تعترف بأن خسارة المعركة الأخيرة معناها خروجها من «الجبهة الوطنية»، لكنها تتصرف هذا الأسبوع وكأنها لم تعد تملك أي فرصة أخرى!
سليم نصار
صحيفة الحياة اللندنية