على وقع المعارك التي تشهدها مدينة الموصل منذ أكثر من 7 أشهر، تشهد الحدود العراقية السورية الممتدة عبر صحراء الأنبار وصولاً إلى مدينة الموصل، سباقاً وصراعاً محتدمين بين القوات الأمريكية وحلفائها من جهة وقوات الحشد الشعبي من جهة أخرى، وذلك للسيطرة عليها. في 28 أيار/مايو الماضي أعلنت قوات الحشد الشعبي، عن بلوغها منطقة الحدود مع سوريا على مستوى قرية أم جريص الواقعة ضمن قضاء سنجار. ويعتبر وصوله إلى الحدود تطوّرا مهمّا في مسار الحرب ضد داعش الذي انحسرت سيطرته على المناطق العراقية في عدد من الجيوب المعزولة بما فيها مساحة صغيرة بالجانب الغربي من مدينة الموصل حيث تضيّق عليه القوات العراقية الخناق يوما بعد يوم، فيما استعادة مناطق حدودية يقطع على مقاتليه طرق التواصل والإمداد بين معاقله ومواطن سيطرته على طرفي الحدود العراقية السورية. وقد وصف الحشد الشيعي في بيان على موقعه الإلكتروني تقدمه إلى الحدود مع سوريا بأنه “معجزة في رمضان”.
وقال القيادي بالحشد الشعبي أبو مهدي المهندس إن العمليات العسكرية التي تقوم بها قوات الحشد الشعبي في المناطق الواقعة غرب نينوى هدفها تنظيف الحدود العراقية مع سوريا، وإن قوات الحشد ستتابع أي وجود للتنظيم خارج العراق يهدد الأمن العراق. ومن جانبها سارعت الوحدات الكردية في سوريا إلى تحذير الحشد الشعبي العراقية من دخول المناطق الخاضعة تحت سيطرتها في محافظة الحسكة بدعوى ملاحقة داعش .وقال طلال سلو الناطق باسم “قوات سوريا الديمقراطية” -التي تشكل عمودها الفقري وتقودها وحدات حماية الشعب الكردية-يوم الأربعاء “سنتصدى لأي محاولة من قبل الحشد الشعبي لدخول مناطق سيطرة قواتنا، ولن نسمح لأي قوات بالدخول ضمن مناطق سيطرتنا”. بدأت تتصاعد، ويمكن أنّ تكون الحدود العراقية الميدان الجديد للصراع الأمريكي الإيراني في العراق. وما أدل على ذلك عبور قوات الحشد الشعبي العراقي، التي توجهت قبل يومين إلى الحدود السورية العراقية بالتعاون والتنسيق مع وحدات حماية شنكال( قوات العمال الكوردستاني PKK) عبرت الحدود السورية العراقية، وسيطرت على قريتين بريف الحسكة داخل اراضي غرب كوردستان(كوردستان سوريا). قبل أن تجبر على الانسحاب. حي اعتبر هذا التوغل لقوات الحشد الشعبي بمثابة اختبار للتحالف الدولي الذي يوفر الحماية لمقاتلين عرب وأكراد في مناطق شرق سوريا.
هذا يعني أنّ لمعركة الحدود بعدًا استراتيجيًا يتجاوز العراق بحدّ ذاته ويتصل بصراع النفوذ الذي تخوضه إيران وتشترك فيه تركيا والولايات المتّحدة. وبوصول قوات الحشد الشعبي المدعومة من إيران، تكون الأخيرة قد كسبت جولة في الصراع بوضعها اليد على مناطق بالغة الأهمية لتأمين خط الربط والتواصل بينها وبين سوريا عبر الأراضي العراقية. والسؤال الذي يطرح في هذا السياق ما الذي جعل إيران أن تفكر في أن يكون لها موطىء قدم على الحدود العراقية السورية؟
منذ أن فقد العراق سيادته الوطنية بفعل الاحتلال الأمريكي له في التاسع من نيسان/إبريل عام 2003م، وتعزز ذلك الفقدان مع المستفيد الأول للاحتلال، وهي إيران التي استطاعت بواسطة حلفائه العراقيين من السيطرة الشبه كاملة -إن لم تكن كاملة -على مفاصل النظام السياسي العراقي، إذ أصبح العراق في عهد رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي وإلى يومنا هذا، يسير في إطار السياسات التي تحددها إيران له، وتحديدًا بعد قيام الثورة السورية ضد حكم الرئيس السوري بشار الأسد، وبروز تنظيم داعش في المشهد العراقي بمستوياته كافة.
فسوريا تشكل جزءًا أساسيًا في مشروع إيران الجيوسياسي ويشكل الرئيس بشار الأسد العامود الذي يرتكز عليه نفوذها، على الأقل في المرحلة الحالية، وبالنظر إلى علاقاتها السيئة مع مختلف المكونات السورية، حتى غير السنية، ويشكل خروج سوريا من دائرة السيطرة الإيرانية خسارة من الصعوبة بمكان تعويضها نظرًا لتداعياتها الأكيدة على نفوذها في سائر الإقليم، وتعتبر سوريا خط مواجهة يؤمن لإيران نطاق حماية مهما في مواجهة أعدائها العرب وغيرهم، فضلًا عن مكانتها الرمزية في الفكر الشيعي بالنظر إلى وجود العتبات المقدسة فيها.
لذا تمثل العراق وسوريا ولبنان أولويات إيران الإقليمية. فالعراق يعد أكثر من أولوية أولى يعبر عنها بعض الساسة الإيرانيين بطريقة رمزية،عندما يقولون إن بغداد هي عاصمة”إمبراطوريتهم”. وإذا عرفنا أن حضور إيران في لبنان يرتبط بنفوذها في سوريا، وقدرنا أهمية حزب الله، وحرصها على دعم قدراته. إذن، سوريا هي الأولوية التي تأتي في المرتبة الثانية مباشرة بعد العراق. ولبنان هو الوجه الآخر لهذه الأولوية. فإما أن تحافظ إيران على نفوذها في الدولتين معا، أو تفقدهما في الوقت نفسه. ولا يخفي أن حضورها في سوريا هو أهم عوامل استمرار نفوذها في لبنان، اعتماداً على قوة حزب الله السياسية، ويستمد حليفها اللبناني هذه القوة من امتلاكه السلاح الذي ترسله إليه عبر سورية، فإذا فقدت”المعبر” السوري، خسرت لبنان، أو كادت.
من هنا جاءت زيارة قاسم سليماني إلى العراق ما بين 8 إلى 10 كانون الثاني/يناير عام 2015م، حيث التقى برئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي كما التقى أيضا بالقوى السياسية الشيعية والحشد الشعبي وسائر المليشيات الأخرى وبشكل منفرد كل على حدا، موضحًا لهم بأن معركة طهران وبغداد اليوم هي معركة سوريا؛ للحفاظ على حليفنا بشار الأسد هناك، وليست معركة تحرير الموصل من تنظيم داعش، ولأجل تحقيق ذلك لابد من تقديم كل أشكال الدعم له ويتمثل ذلك في إنشاء ممر “كلودور” يبدأ من الحدود الإيرانية العراقية،مرورا بالأراضي العراقية” سامراء، والعلم، وبيجي، والشرقاط، والحضر، وتلعفر” وصولا إلى العمق السوري.
فإيران وبعد سيطرتها على العراق وبشكل تام، لا سيما المناطق الشمالية والغربية التي كانت تشكل عائقاً أمام أطماعها التوسعية في المنطقة؛ لكونها مناطق ذات غالبية سنية، باتت تنظر إلى ضرورة سيطرتها على الحدود العراقية السورية عبر مليشياتها في العراق وسوريا؛ وذلك لإعلانها الهلال الشيعي الذي تحدثت عنه كثيراً بشكل رسمي. وأن بوادر الصراع بين إيران التي تسعى لإيجاد طريق بري بينها وبين حليفتها سوريا عبر العراق، وبين الولايات المتحدة الأمريكية التي تعمل على منع سيطرة المليشيات الموالية لإيران على الشريط الحدودي بأي ثمن.
يمتد الانتشار العسكري في سوريا مقابل مواقع قوات الحشد الشعبي؛ من مدينة المالكية بريف الحسكة حتى نقطة الأجراش حيث تسيطر وحدات حماية الشعب الكردية. ومن نقطة حدود الشهاب على جانبي الحدود السورية العراقية يسيطر تنظيم الدولة من أقصى شمال شرقي سوريا حتى نقطة وادي الولج في البادية السورية قرب معبر التنف.
ومن نقطة التنف حتى المثلث العراقي الأردني السوري تمتد سيطرة الجيش السوري الحر على المنطقة، أي أن قوات النظام السوري ليس لها أي وجود على الحدود السورية العراقية.
ويرى المراقبون أن هذا الوضع يطرح إشكالية تتعلق بطبيعة القوات المعنية بحراسة حدود الدول التي تتولاها قوات نظامية، بينما لا تنطبق هذه الصفة على الحشد الشعبي الذي مهما اختلفت التوصيفات يبقى قوة غير نظامية. ويعتبر المراقبون أن ما يزيد من غرابة هذا المشهد، أن العراق يملك جيشا نظاميا، كما توجد قوات غير نظامية على الطرف الآخر من الحدود. فعلى الطرف السوري تتقسم الحدود إلى أجزاء تسيطر عليها وحدات حماية الشعب الكردية وداعش والجيش السوري الحر. ويخلص هؤلاء إلى القول بأن هذا الوضع سيجعل هذه الحدود قابلة للاشتعال في أي وقت، خصوصا أن الحشد الشعبي أشار مرات عديدة إلى إمكانية اجتياز الحدود، مما يجعل فرضية الاشتعال تزداد قوة حتى قبل حسم المعركة المتواصلة في الموصل.
ويبدو أن صراع السيطرة على الحدود بين الولايات الأمريكية من جهة وقوات الحشد الشعبي التي تعلن ولاءها لإيران، ليست عسكرية فحسب وإنما تحمل أبعاداً سياسية وتوسعية في المنطقة. هذا من جانب، ومن جانب آخر أنّ إسناد تأمين الحدود للميليشيات بدل القوات النظامية خطوة غير محسوبة النتائج على مستوى الأمن الوطني العراقي. فهي تعرض المعطيات العسكرية الناتجة عن سحق وهزيمة داعش في الموصل للنقض بسبب تداخل الأهداف بين ما هو عراقي وبين ما هو إيراني. فمطاردة فلول تنظيم داعش الهاربة من الموصل هدف وطني عراقي يُراد من خلاله القضاء بشكل كلي على التنظيم الارهابي. أما الوصول إلى الحدود السورية وتأمين طريق بري إليها فهما يصبان في المصلحة الإيرانية.
وعلى الرغم من أهمية سيطرة قوات الحشد الشعبي لمنطقة التنف الحدودية الذي يصب في مصلحة إيران إلا أن سيطرتها على طريق سنجار يبقى الأهم بالنسبة لها، وقد تستخدم ايران منطقة التنف للتفاوض عليها مع الولايات المتحدة في إطار المساومات السياسية إلا أنها من الصعوبة بمكان أن تتخلى عن طريق الحضر وتلعفر الذي يضمن وصولها إلى حلفائها في سوريا ولبنان.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية