رغم سهولة تشريح الماضي وتفصيل أخطاء الثورة السورية وإحصاء نجاحاتها، فإني سأعمل مجتهدة في المضي قُدماً إلى الإمام للوصول إلى المكان والمكانة التي تستحقها سوريا، ويستحقها الشعب السوري الذي تحمل وما زال يتحمل الكثير من أجل حريته وكرامته.
بحثاً عن البداية للوصول إلى المستقبل الذي يتم وضع العراقيل أمامه، وعلى رأسها تمسك المجتمع الدولي ببشار الأسد ونظامه، فضلا عن التقاعس المتعمد في تحقيق مطالب الثورة والحفاظ على أرواح المدنيين العزل في سوريا.
وأولى هذه الخطوات هي التأكيد على التمسك بثوابت الثورة السورية العادلة والمتمثلة في:
– الحفاظ على وحدة الأراضي السورية دون التفريط في شبر واحد منها.
– إعلاء قيمة الإنسان السوري ووضعه في مكانته المرموقة التي يستحقها بين جميع شعوب الأرض. ليس تفضلا من أحد أو منة من دولة أو هدية من منظمة، وإنما هو حق سيتم الحصول عليه بعمل واجتهاد هذا الشعب العظيم.
– المساواة بين جميع أبناء الوطن في الحقوق والواجبات لا تمييز بين عرق أو لون أو انتماء حزبي.
– التداول السلمي للسلطة عبر الآليات الديمقراطية المتعارف عليها من خلال الصندوق الانتخابي الحر.
“رغم وجود الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية الذي يعد الحاضنة السياسية الجامعة لجميع مكونات الشعب السوري، ورغم أنه الجهة السياسية الثورية الوحيدة التي حازت اعتراف المجتمع الدولي، وتنص وثيقته التأسيسية على أنه الممثل الشرعي الوحيد للثورة والشعب السوري؛ فإننا نجد أن لكل فصيل عسكري شخصياته السياسية التي تمثل مواقفه”
ثانية خطوات الطريق تتمثل في الإصلاح السياسي لبنية وتركيبة الثورة؛ فرغم وجود الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية الذي يعد الحاضنة السياسية الجامعة لجميع مكونات الشعب السوري، ورغم أنه الجهة السياسية الثورية الوحيدة التي حازت اعتراف المجتمع الدولي، وتنص وثيقته التأسيسية على أنه الممثل الشرعي الوحيد للثورة والشعب السوري؛ فإننا نجد أن لكل فصيل عسكري شخصياته السياسية التي تمثل مواقفه.
كما نرى أنه -وبشكل متعمد- يتم تعدد اللقاءات الدولية وطلب التمثيل السياسي، تارة من الفصائل وتارة من المستقلين وتارة من منصات تفاوضية، مما يضعف وبشدة الموقف السياسي للثورة في حين يظهر نظام بشار متماسكا ويظهر أنه نظام حقيقي، ومع أن الحقيقة غير ذلك إلا أن هذا هو الظاهر.
لذلك الائتلاف الوطني السوري هو الممثل السياسي الوحيد، ومن يتعمد أن يظهر منفرداً ظاناً أنه يمثل الشعب السوري، وأنه يمثل الثورة فعليه أن يراجع نفسه ويراجع موقفه الذي يقف فيه.
نعم توجد أخطاء في الائتلاف، نعم هو في حاجة إلى التجديد والحيوية، نعم هو في حاجة إلى أن يُثبت أنه يمثل الشعب السوري بحق، ولكن الحل هو أن نتكاتف ونصلحه، لا أن يذهب كل منا فرحاً بدعوة تأتي إليه، ويقول أنا الثورة والثورة أنا وعلى الجميع أن يتبعوني. فلنتكاتف ونخرج أفضل من فينا ليمثلونا سياسيا ونصلح اعوجاج ما بنيناه ولا نهدمه.
أما ثالثة الخطوات فهي وحدة السلاح السوري؛ فلا يصح تعدد السلاح وتعدد المشارب، ولكل سلاح من يدعمه ولكل داعم مآربه. سلاحنا واحد في التوجه، واحد في تحديد العدو، سلاح يصلح لأن يكون جيشا وطنيا يحمي كامل ربوع الأرض السورية بعد تحريرها وتخليصها مما هي فيه.
ورغم أن السلاح الثوري يعد هو الحامي للثورة ومكاسبها فإن الحل النهائي لن يأتي بالسلاح منفرداً، وإنما بوحدة السلاح والتمثيل السياسي القوي المحكم المتناغم مع العمل العسكري الثوري على الأرض.
ولكن كيف يتم هذا التناغم مع عشرات الأمراء؟ من حقنا كشعب سوري أن تكون لنا بوصلة واحدة نسير جميعاً نحوها لتحقيق الهدف الذي طال انتظاره، ودفع الجميع الكثير من أجل تحقيق الانتصارات الجزئية التي يجب أن نستغلها ونصل بها إلى انتصار كامل.
الخطوة الرابعة في طريقنا هي مراجعة منظومة الوعي الثوري، عبر إيجاد خطاب إعلامي وثقافي مبني على وعي كلي للثورة وطبيعتها ومتطلباتها واحتياجاتها ومراحلها، حتى لا نضع الجماهير في ثنائيات يصعب تجاوزها أو فهمها.
فعلى سبيل المثال؛ كيف لنا أن نقول حتى الآن عن بشار ومن معه إنه “نظام”؟ وكيف لنا أن نفرق بين الأيديولوجية والرأي السياسي والفعل السياسي؟ وكيف لنا أن نفرق بين الدعم والتبني؟ وكيف نفهم المبادئ السياسية الأولية المبنية على أن الدول تسير وفق مصالحها وأنه ليس من العقل أن تطلب من دولة أن تضر بمصالحها من أجل أن تحقق مصالحك؟
الخطوة الخامسة هي العمل على بناء المنظومة الاقتصادية والتنموية القادمة، فلا يمكن أن تسير الدولة دون أن يكون لها اقتصاد. فكم من ثورة فشلت بعد نجاحها لعدم مقدرتها على تخطي العقبات الاقتصادية الناتجة عن الثورة، ولا يصح أن ننتظر حتى نرى الدولة بدون سياسات أو رؤية اقتصادية واضحة، والبحث عن شراكات اقتصادية حقيقية.
إن العمل على بناء رجال الاقتصاد الوطني واجب يجب ألا نغفل عنه ولا نتأخر عنه يوماً واحداً، ولن يتحرر القرار الوطني للدولة السورية الجديدة دون أن يتحرر اقتصادها وتملك الحد الأدنى من منظومتها الاقتصادية.
“من الخطوات الحاسمة في طريق الإصلاح السياسي بالنسبة للثورة الاستعدادُ والتجهيز للثورة المضادة، فلم تنجح ثورة في التاريخ دون أن تكون هناك ثورة مضادة تعمل على إفشالها وإسقاطها، والانتقام منها ومن رجالها، فلنتسلح من الآن بالوعي الكامل بطبيعة المرحلة القادمة، ولا ننس مبادئنا التي اصطففنا جميعاً خلفها، الكتف لن يفارق الكتف”
الخطوة السادسة هي الحفاظ على الحاضنة الشعبية للثورة تاج الرأس، ويجب أن يتم ذلك عبر إجراءات ترتبط باللاجئين في الخارج، والسياسات الأمنية والاقتصادية والتعليمية في المناطق المحررة، وكفاءة الوزارة والمجالس المحلية في أداء مهامها.
لن تنمو هذه الحاضنة بدون إعطاء المرأة السورية حقها، وهي التي تضحي في صمت وتتحامل يومياً على جروحها أمام العالم الذي ظلمها وهي في بيتها، وظلمها بقتل زوجها أو ابنها أو أخيها. ظلمها حينما تركها معتقلة أو معذبة، وظلمها على حواجز اللجوء هي وأسرتها.
هذه المرأة تطلب من الآن الإنصاف والمشاركة في صناعة وصياغة المستقبل؛ فالعمل على تنمية المرأة السورية -التي تعد الكنز الإستراتيجي للمستقبل- والعمل على مشاركتها الفعالة خطوةٌ تضمن النجاح ويجب ألا تتأخر أكثر من ذلك.
إذا كنا نقول إن سوريا لكل السوريين فيجب أن نبرهن على ذلك، ونتوقف عن خطاب التفرقة الذي يمارسه البعض لعدة أسباب، فسوريا لكل السوريين بحق فعلا وقولاً وسلوكاً، فالثورة ضامنة لحرية جميع الشعب السوري.
نهاية الخطوات الأولى: الاستعداد والتجهيز للثورة المضادة، فلم تنجح ثورة في التاريخ دون أن تكون هناك ثورة مضادة تعمل على إفشالها وإسقاطها، والانتقام منها ومن رجالها، فلنتسلح من الآن بالوعي الكامل بطبيعة المرحلة القادمة، ولا ننس مبادئنا التي اصطففنا جميعاً خلفها، الكتف لن يفارق الكتف.
هذه هي الضمانة الأولى التي يجب أن نعمل عليها من الآن للوقوف أمام الثورة المضادة، التي بدأت تنسج خيوط عملها ولا يراها الثوار بسبب انشغالهم بالمرحلة الراهنة، واستغراقهم في إنهاء المرحلة الثورية ظنا منا أن نجاح الثورة يكمن في إنهاء هذه المرحلة.
أما عن مستقبل الدولة السورية؛ فهذا ما نسعى -بدءا من الآن- للوصول إليه بشكل صحيح، ومن المؤكد أن ما قامت له الثورة وضحى الشعب السوري من أجله هو إصلاح الدولة السورية من الرأس إلى القاع.
هناك حديث عن تحديات كثيرة ستواجه الثوار بعد ذهاب النظام تتمحور حول شكل الدولة السورية المنشودة: هل سيكون الحكم رئاسيا أم برلمانيا؟ ما هي تركيبة مؤسسات الدولة؟ وعلى أي فلسفة ستقوم؟ ما هو وضع المؤسسات الأمنية وكيف سيتم التعامل معها؟
وهناك نظام التعليم الذي يواجه الشعب السوري فيه الكثير من الأزمات والمشاكل، ثم الملف العاجل الشائك إعادة الإعمار وعودة المهجرين. وكيف ستتم إعادة اللُّحمة الوطنية؟ وكيف سيتم التعامل مع المشكلات الاجتماعية التي تواجه شعبنا؟ وغيرها من الأسئلة التي يجب وضع إجابات لها من الآن.
أما عن نظام الحكم، فبما أننا لسنا حديثي عهد بالاستبداد بأشكاله المختلفة فسيكون لزاماً علينا أن يعالج نظام الحكم القادم آثار الاستبداد السابقة، ويعمل على تجنب عدد من المخاطر في مرحلة ما بعد بشار، من محاصّة أو استحواذ على السلطة من فئة والسيطرة التدريجية على الدولة، مما سينتهي بنا إلى استبداد جديد.
لذلك أرى أن يكون الحكم رئاسيا برلمانيا يخضع فيه الجميع لرقابة البرلمان، وأن يتم الاختيار من خلال الانتخاب الحر المباشر من الشعب، ومن المؤكد أنه ستسبق هذه الخطوةَ -مع بداية العملية الانتقالية- عودةُ الحياة الحزبية بضوابطها. من الطبيعي في الدولة الجديدة عدم تغول سلطة على أخرى، فلا بد من أن تُفصل السلطة القضائية فصلا كاملا عن السلطة التنفيذية.
وفي النظام القضائي لا يقتصر الأمر على هيكلة القضاء، بل يمتد إلى وضع نظام كامل للعدالة يستند على أعمدة ثلاثة، وهي: المساواة بين الشعب، والعدالة، والتدقيق في القوانين والأحكام.
أما عن الفصائل المسلحة فيتم إدماجها في جيش وشرطة وطنية، طبقاً للقواعد المهنية والحرفية المنظمة، بعد تفكيك هذه الفصائل ونقل تبعية الأفراد والقادة إلى الدولة بشكل كامل.
“المجلس الأعلى للتعليم هو المسمى الأمثل لوضع المنظومة التعليمية وضبطها، على أن يراعي الفروق في مستوى التعليم الناتجة عن التهجير، كما يراعي وجود عشرات الآلاف من الطلبة الذين تلقوا تعليما أيديولوجياً بعيدا كل البعد عن المحددات الوطنية، مثل التعليم في المناطق التي تسيطر عليها داعش”
من المؤكد أن دستور سوريا يجب أن يلبي احتياجات المستقبل كاملة، لذلك يجب عدم العجلة في إصدار دستور تحت القصف، بل يتم نضجه بشكل كامل حتى لا يخرج لنا دستور مشوه، موصوم بالتبعية أو يخدم مصالح فئة دون أخرى.
أما هيكل إدارة الدولة؛ فأرى أن كثرة الوزارات من أهم أسباب إعاقة التنمية لكونها تثقل ميزانية الدولة بالمخصصات المالية، فضلا عن تضارب الصلاحيات والمسؤوليات بين هذه الوزارات. كما أرى أن يشغل الوزارات التنموية وزراء تكنوقراط يتم، تأهيلهم واستكمال مهاراتهم الفنية بما ينقصهم من احتياجات إدارية وقيادية.
ويعد البحث العلمي قاطرة المستقبل فيجب دعمه ووضعه في المكانة اللائقة به. إن المجلس الأعلى للتعليم هو المسمى الأمثل لوضع المنظومة التعليمية وضبطها، على أن يراعي الفروق في مستوى التعليم الناتجة عن التهجير، كما يراعي وجود عشرات الآلاف من الطلبة الذين تلقوا تعليما أيديولوجياً بعيدا كل البعد عن المحددات الوطنية، مثل التعليم في المناطق التي تسيطر عليها داعش.
كما يتم ربط التعليم الجامعي بسوق العمل والاحتياجات المستقبلية للدولة السورية، وتوجيه الاهتمام بالعلوم الإنسانية التي تعمل على بناء الإنسان طبقاً للمحددات الوطنية النابعة من الشعب السوري.
وعلى المستوى الاقتصادي هناك عدة أدوات هامة يجب التركيز عليها، وهي:
– عودة الأموال المنهوبة من سوريا من قِبَل النظام السابق.
– الاستثمار الأمثل لثروات الدولة بما يضاعف الدخل القومي.
– التدقيق في الميزانيات ومراجعة البنود التي تهدر الأموال.
– ربط الدخل بحد أدنى وأقصى وبما يحقق الحد الأدنى من الحياة الكريمة للمواطنين.
– مراجعة التعاقدات والاتفاقات الاقتصادية التي قام بها نظام الأسد ودمرت الاقتصاد الوطني.
– تشجيع الشعب السوري في العالم على العودة والاستثمار داخل سوريا.
أتمنى أن يكون ما تقدم من أفكار بداية للنقاش، فأن نختلف الآن ونصل إلى حلول خير من أن نختلف في وقت العمل، فلن تقف عقارب الساعة على ما نحن فيه فالوقت يمضي ويمر والجميع يعمل، ولن نقف ونحن نرى سوريا الجديدة يتم تشكيلها وبناؤها بمعزل عن أبناء الشعب والثورة السورية.
لا يظنّنّ أحدٌ أنه سيأتي إلينا من يقول: تفضلوا تسلموا دولتكم وافعلوا فيها ما تشاؤون، فالمقدمات مرتبطة بالنتائج، والعطاء يرتبط بالاستحقاق المستقبلي. فاحموا ثورتكم واحموا مستقبلكم، واقطفوا ثمرتكم ناضجة قبل أن نأكل فُتات الموائد.
سلوى أكسوي
الجزيرة