تتركز الأنظار حاليا على المناطق المتاخمة للحدود السورية العراقية، وسط تساؤلات حول من ستؤول إليه الغلبة لفرض السيطرة عليها؛ الولايات المتحدة وحلفاؤها على الأرض أم إيران وحلفائها؟فعلى وقع المعارك التي تشهدها مدينة الموصل ضد تنظيم داعش، تشهد الحدود العراقية السورية الممتدة عبر صحراء الأنبار وصولاً إلى مدينة الموصل، سباقاً وصراعاً محتدمين بين القوات الأمريكية وحلفائها من جهة وقوات الحشد الشعبي من جهة أخرى، وذلك للسيطرة عليها. في 28 أيار/مايو الماضي أعلنت قوات الحشد الشعبي، عن بلوغها منطقة الحدود مع سوريا على مستوى قرية أم جريص الواقعة ضمن قضاء سنجار. ويعتبر وصوله إلى الحدود تطوّرا مهمّا في مسار الحرب ضد داعش الذي انحسرت سيطرته على المناطق العراقية في عدد من الجيوب المعزولة بما فيها مساحة صغيرة بالجانب الغربي من مدينة الموصل حيث تضيّق عليه القوات العراقية الخناق يوما بعد يوم، فيما استعادة مناطق حدودية يقطع على مقاتليه طرق التواصل والإمداد بين معاقله ومواطن سيطرته على طرفي الحدود العراقية السورية. وقد وصف الحشد الشيعي في بيان على موقعه الإلكتروني تقدمه إلى الحدود مع سوريا بأنه “معجزة في رمضان”.
ومع وصول الحشد الشعبي إلى مناطق الحدود السورية، داخل حدود محافظة نينوى العراقية، أصبح بالإمكان القول إن هناك طريقا بريا مؤمّنا داخل الأراضي العراقية يربط إيران بسوريا. يبدأ الطريق من حدود العراق الشرقية مع إيران ليدخل محافظة ديالى، ثم يتجه نحو مناطق شمال محافظة صلاح الدين ويتجه نحو صحراء نينوى الغربية، وصولا إلى الحدود السورية. ويهدف الكوريدور الإيراني إلى إقامة ممر بري بوصل طهران ببيروت مرورا بمعبر الوليد إلى دمشق أو حمص وبالتالي البقاع ويكون طريقا تطال من خلاله إيران عنان البحر المتوسط.
تتولى قوات الحشد الشعبي الموالية لإيران هذه المهمة. وطيلة العامين الماضيين، تختار قيادة الحشد الشعبي المناطق التي تقاتل فيها بعيدا عن الخطط العسكرية المركزية التي تضعها الحكومة العراقية للحرب على ضد تنظيم داعش .وفرضت منظمة بدر وعصائب أهل الحق سلطة السلاح على العديد من مناطق محافظة ديالى الحدودية مع إيران، لتقلب الأغلبية السكانية فيها من الطائفة السنية إلى الشيعية، فيما قاتلت عصائب أهل الحق وكتائب حزب الله في مناطق بيجي وشمال صلاح الدين مطولا، لتفرض سيطرتها الكاملة عليها. وقد حمل ظهور قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني عند الحدود العراقية السورية دلالة خاصة أبعد من مجرد مواكبة تقدم ميليشيات الحشد الشعبي عند قضاء البعاج جنوب الموصل، فنجاح الحشد الشعبي في بسط سيطرته على معظم الشريط الحدودي ومعبر باب الوليد يمثل خطوة هامة ضمن المشروع الإيراني بفتح طريق اتصال مباشر بين بغداد ودمشق.
يمثل وصول الحشد الشعبي إلى مناطق غرب نينوى، تحديا لنفوذ رئيس إقليم كردستان مسعود البارزاني، ويرغب الأكراد في ضم منطقة سهل نينوى وسنجار إلى إقليم كردستان، ويرفض الحشد الشعبي والحكومة الاتحادية أن تستقطع البيشمركة تلك المناطق.وفي طريقه نحو تحقيق هدفه على الحدود، حرر الحشد الشعبي عددا من القرى التي يسكنها إيزديون، لكنه أعلن أنه سيسلم مسؤوليتها إلى مجموعات من هذه الأقلية الدينية موالية له، وليس للمجموعات الموالية لكردستان، وهو ما مثل استفزازا مباشرا للحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة البارزاني. حيث بلغت التوترات بين الحشد الشعبي الشيعي والبيشمركة الكردية، مستوى غير مسبوق، ما ينذر بتفجر نزاع مسلح بين الطرفين، بسبب خلافات حول أمن منطقة سنجار في محافظة نينوى. وتتخوف أوساط عراقية من أن تؤدي أجواء التوتر والمناوشات إلى مواجهة عسكرية بالوكالة في ظل مساعي الحشد للسيطرة على مناطق نفوذ كردية لتأمين عبور الأسلحة والمقاتلين من إيران إلى سوريا، فيما يحظى الأكراد بدعم أميركي قوي. ومع إعلان الحشد عن وصول طلائع قواته إلى مناطق حدودية في نينوى، بين العراق وسوريا، صدرت تصريحات عن قياداته تتحدث عن دخول بلدة سنجار، وتكليف قوة إيزيدية بمسك الأرض فيها، ما أثار حفيظة قوات البيشمركة.ويتحالف مقاتلون إيزيديون مع الحشد الشعبي، وعادة ما تطلق عليهم قوات البيشمركة لقب “الخونة”. كما يمتلك حزب العمال الكردستاني (بي كا كا) وجودا عسكريا مهما في المنطقة، وهو حليف للحشد، ويتلقى تمويلا من إيران. وتحرّك الحشد الشعبي صوب سنجار هو جزء من محاولات إيران تطويق المشروع الأميركي، الذي تم الإعلان عنه خلال زيارة تاريخية للرئيس الأميركي للرياض هذا الشهر، قبل أن تكتمل ملامح المشروع، الذي يحظى بتوافق عربي وإسلامي واسع. ولا يبدو الحشد الشعبي مهتما بالتحذيرات الكردية في الوقت الذي يعتبر فيه محللون سياسيون أن هدفه من هذا التمدد هو منع الأكراد العراقيين والسوريين، المدعومين من واشنطن، من إغلاق الحدود السورية العراقية أمام إيران.
وتخشى الولايات المتحدة الأمريكية أن تستفيد قوات الحشد الشعبي من منطقة الفراغ العسكري التي تنشأ على جانبي الحدود بين العراق وسوريا، لا سيما مع انشغال أكثر من طرف عسكري في سوريا بعمليات تحرير الرقة، أهم معاقل تنظيم داعش في سوريا. ويؤكد قيام الطائرات الأميركية باستهداف الأرتال العسكرية التابعة للنظام وحلفائه من الميليشيات الشيعية عند قاعدة التنف العسكرية صرامة واشنطن في تأمين الحدود بالنظر إلى ما يمثله وصول الميليشيات الإيرانية من تهديد لقوات المعارضة المتواجدة بالقاعدة إلى جانب نخبة من الضباط والمستشارين العسكريين الأميركيين. وبحسب خبراء عسكريين، فإنّ الضربة التي لم تكن سوى عمل محدود يراد من خلاله توجيه رسائل للفاعلين المحليين والإقليميين، أظهرت مدى أهمية المناطق الحدودية في التفكير الاستراتيجي الأميركي الذي يمتد إلى مرحلة ما بعد تنظيم داعش في سوريا والعراق، وعملية ترتيب النفوذ داخلهما، كما أظهرت مدى جدية واشنطن في منع أي قوى عاملة بالوكالة لمصلحة إيران من السيطرة على مناطق الحدود ونقاط التواصل بين بلدان الإقليم. وأصبح قادة الحشد الشعبي يستشعرون مدى خطورة الاندفاعة غير المحسوبة صوب الحدود، حيث الامتدادات الصحراوية الشاسعة والأماكن المكشوفة ما يجعل مقاتليها تحت رحمة الطيران الأميركي. وقال أمين عام ميليشيا “سيد الشهداء” أبوآلاء الولائي، إنّ الطائرات الأميركية قامت بقصف قوات من الحشد الشعبي في منطقة البوكمال قرب الحدود العراقية السورية. ويقول مراقبون إن وصول قوات الحشد الشعبي إلى الحدود السورية٬ وإعلان عزمها التوجه جنوبا نحو منطقة القائم، ربما يجبر القوات الأميركية على فرض منطقة حظر عسكري لضمان حماية قواتها في المنطقة.
ويعتقد المحللون السياسيون أن اندفاعة الحشد الشعبي إلى الحرب أمر متوقع في ضوء تركيبته كفصائل مهيأة للحرب بالوكالة لفائدة إيران، وهذا ما يفسر عرضه المستمر للتدخل في سوريا إلى جانب قوات الرئيس السوري بشار الأسد. وحذّر المحللون من أن غرور الحشد، الذي استمده من “نجاحه” في الحرب على داعش بعد تهميش القوات العراقية، قد يقود إلى حرب طويلة في ظل تحوّز الأكراد على خبرات كبيرة ووجود دعم أميركي وتركي لهم في مواجهة التمدد الإيراني.
يقول خبراء غربيون إن المواجهة بين قوات التحالف الدولي والمحور الإيراني باتت علنية للسيطرة على الحدود السورية العراقية ويرى هؤلاء أن المواجهة بالنسبة لطهران حتمية لجهة ارتباطها بمستقبل نفوذها في البلدين، وأن محاولاتها التقدم على مستوى هذا الجانب ستستمر على الرغم من أن التدخل الغربي لمنع ذلك بات مباشرا. ويرى مراقبون للشؤون الإيرانية أن طهران عازمة على الهروب إلى الأمام واستخدام سياسة حافة الهاوية مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب وجر الأميركيين إلى مواجهة حول الشأن الحدودي السوري العراقي، لما للأمر من أهمية قد تحدد مستقبل النفوذ الإيراني في المنطقة برمتها.
على ضوء ما تقدم، تبدو ملامح نشوب مواجهة بين القوات الأميركية وحلفاء إيران واردة بحسب المراقبين الذين يفسرون موقف واشنطن بكونه تحركا متأخرا للتصدي لأذرع إيران العسكرية بعد أن كانت في وقت سابق ورقة استراتيجية في مواجهة داعش داخل العراق نتيجة إصرار حكومة العبادي على منح هذه الحشد الشعبي غطاء سياسيا لشرعنة وجوده. وتطرح فرضية الصدام العسكري بين حلفاء إيران والقوات الأميركية عدة احتمالات ممكنة، حيث يرى بعض الخبراء أن حلفاء إيران ستمنى بخسائر كبيرة نظرا لافتقارها لغطاء جوي وستضطر إلى الانسحاب إلى الوراء بعيدا عن خط الحدود، فيما يرجح آخرون أن تتمسك هذه القوات بمواقعها بشراسة حتى وإن فشلت في التقدم إلى داخل سوريا.
بينما رأي آخر يستبعد فرضية المواجهة مباشرة في المرحلة الراهنة، فطالما ما تزال الحرب جارية تحت يافطة مكافحة الإرهاب فإن حاجة واشنطن إلى استخدام قوات الحشد الشعبي ضد داعش ستضل قائمة ما يفترض الإبقاء على حد أدنى من الترابط والتنسيق بين الجانبين وتلافي التصعيد حول الحدود. فالهدف الأميركي هو “استنزاف الطاقات المسلحة في العراق وسوريا ولذلك فإن الأمر منوط مرحليا بالانتهاء من تصفية وجود داعش حتى تبدأ الولايات المتحدة في إنهاء المشروع الإيراني ولن تجد عندها طهران طريقا أو حدودا لها مع سوريا”.وتذهب بعض الآراء إلى القول إن الضربتين اللتين وجهتهما قوات التحالف إلى ميليشيات طهران كفيلة بلجم محاولاتها في الوقت الراهن وإحجامها عن أي تقدم نحو الحدود بالنظر إلى إدراك الإيرانيين وحلفائهم أن المعركة لن تكون متكافئة وقد تؤدي إلى استتباعات سياسية سلبية في المرحلة الراهنة. تجتمع مختلف هذه التقديرات على اعتبار ميليشيات الحشد الشعبي سلاحا مأجورا تنتهي صلاحياته بانتفاء الحاجة إليه ما يجعل من محاولة توظيفه من طرف إيران لفرض معادلتها الإقليمية محاولة فاشلة باعتبار أنه سيواجه بدور أميركي لتصفية هذه الميليشيات ضمن خطتها الهادفة إلى إنهاء وجود أي قوات وميليشيات في المنطقة الغربية والشمالية من العراق، ما يجعل الكوريدور الإيراني خطة مرسومة على خارطة غير قابلة للتطبيق.
ويتضح من ذلك أن التنافس بين ايران والولايات المتحدة على الحدود العراقية السورية سيكون شديدا بعد معركة الموصل، وسيستخدم كل طرف حلفاءه المحليين في هذا التنافس، تستخدم ايران حلفاءها في العراق، بينما تستخدم الولايات المتحدة حلفاءها. وعليه يبدو أن معركة الحدود ليست عسكرية فحسب وانما سياسية ايضا ، اذ تسعى ايران لايجاد طريق بري بينها وبين حليفتها سورية منذ سنوات، بينما تعمل الولايات المتحدة وحلفائها على منع حصول ذلك بأي ثمن. بينما يلعب سلاح الطيران والرقابة عبر الأقمار الصناعية دورا حاسما، الأمر الذي يجعل ميزان القوى في معركة التحكّم بالمناطق الحدودية يميل لمصلحة الولايات المتحدة على حساب إيران.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الإستراتيجية