الجزائر – تغيب الجزائر عن لقاء حكومات دول منطقة الساحل المنعقد في باماكو المالية، بحضور الرئيس الفرنسي إمانويل ماكرون، لدراسة الوضع في المنطقة وتفعيل آليات التعاون المشترك، لحلحلة الأزمة المتجددة بالمنطقة وهو ما يؤشر إلى الخلافات الحادة بين القوى الفاعلة في ملف الساحل الصحراوي، خاصة بين فرنسا والجزائر وبين بعض حكومات دول الساحل وما كان يعرف بمبادرة دول “الميدان”.
وتلتقي اليوم الأحد في العاصمة المالية حكومات دول الساحل بحضور الرئيس الفرنسي الجديد، لتفعيل الآليات الميدانية لتأمين المنطقة من التهديدات الإرهابية بالمنطقة، وذلك في غياب الجزائر التي تشكل إحدى القوى الفاعلة ممّا يوحي بخلافات عميقة حول تصورات الحل.
ويعترض الاتفاق المبرم العام 2015 في العاصمة الجزائرية بين سلطات باماكو وفصائل مسلحة تنشط شمال مالي عدة عوائق تهدد بعودة الوضع في المنطقة إلى المربع الصفر، وهو ما دفع بالرئيس الفرنسي منذ وصوله قصر الاليزيه في الأسابيع الأخيرة إلى القيام بزيارة إلى باماكو في أول خروج رسمي له خارج التراب الفرنسي.
كما دفع الوضع الأمني المتدهور في المنطقة والتهديدات الإرهابية في الساحل الصحراوي حكومات دول المنطقة إلى تحويل تعاونها تجاه باريس من أجل تفعيل آليات ميدانية لملاحقة التنظيمات الجهادية والعصابات الإجرامية، وهو ما يعتبر سحبا غير مباشر للملف من الأيادي الجزائرية.
ويرى مراقبون للشأن السياسي والأمني في المنطقة أن بوادر الخلاف بين حكومات المنطقة بدأت منذ تراجع بعض الحكومات عمّا عرف بمبادرة دول الميدان التي أطلقت في الجزائر في السنوات الأخيرة، واتخذت من مدينة تمنراست الحدودية مقرا للمبادرة، حيث احتضنت عددا من لقاءات وزراء الدفاع ورؤساء أركان جيوش المنطقة.
وأدى التراجع إلى وأد المبادرة ودفع حكومات الساحل الصحراوي للبحث عن بدائل بعيدا عن الدور الجزائري، وتوجهت أنظارها إلى الحكومة الفرنسية باعتبارها راعي النفوذ التاريخي في القارة السمراء وخط الدفاع الأول عن مصالح باريس المهددة بأجندات قوى إقليمية ودولية فاعلة.
وتشكل القوة العسكرية المشكلة من خمسة آلاف جندي من جيوش حكومات المنطقة وغلاف الخمسين مليون دولار لتمويل القوة المقترحة صلب النقاش والمشاورات المنتظرة بين قادة حكومات الساحل والرئيس الفرنسي في العاصمة المالية باماكو.
ويكون رفض الجزائر للمشاركة البشرية في القوة المقترحة انسجاما مع مبادئها الأساسية في عدم مغادرة جيشها لتراب الجمهورية إلا في الحالات الإنسانية وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين، السبب الرئيس وراء الخلاف الذي نشب بينها وبين بعض حكومات المنطقة حول التصورات الميدانية في محاربة الإرهاب.
وفي رسائل مبكرة لطمأنة الطرف الجزائري من أبعاد الحراك الدبلوماسي والميداني في المنطقة لم يتأخر الرئيس الفرنسي في الاتصال بالرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة لإطلاعه على التطورات في المنطقة، وطمأنته بشأن دور بلاده.
الوضع الأمني المتدهور في المنطقة دفع حكومات دول الساحل إلى تحويل تعاونها تجاه باريس من أجل تفعيل آليات ميدانية لملاحقة التنظيمات الجهادية وهو ما يعتبر سحبا غير مباشر للملف من الجزائر
ورغم ما لخطوة دول الساحل من مخاطر على سحب ملف الساحل والوضع في مالي من الجزائر ووضعه بين أيدي باريس في سياق براغماتية أفريقية تريد مقايضة المصالح الفرنسية في بلدانها بتكلفة وتداعيات الملف الأمني، فإن ملاحظين لا يستبعدون أن الحضور الجزائري سيكون عبر تمويل القوة العسكرية عبر آليات وهيئات الاتحاد الأفريقي، خاصة وأن بعض حكومات المنطقة أبدت عدم قدرتها على التمويل.
وكانت دول الساحل المشكّلة من كل من موريتانيا ومالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد قد قررت في قمتها الأولى المنعقدة في فيفري الماضي تأسيس قوة عسكرية مشتركة قوامها خمسة آلاف عنصر لاستعادة المبادرة الأمنية في المنطقة وملاحقة التنظيمات الجهادية والمسلحة، لكن بقيت مسألة توفير مبلغ 50 مليون دولار لتمويلها عائقا أمامها لذلك توجهت للاتحادين الأفريقي والأوروبي لطلب الدعم المالي.
وفي هذا الشأن هدّدت الحكومة التشادية بالانسحاب من المبادرة بسبب الصعوبات المالية التي تعتريها وعدم قدرتها على المساهمة البشرية والمالية في آن واحد، وهو ما يكون قد دفع بعض مسؤولي الاتحاد الأفريقي بالاتصال بالرئيس التشادي لطمأنته باضطلاع الاتحاد الأفريقي بمسألة التمويل وبجهود شركاء القارة في هذا المجال.
وأظهر الرئيس الفرنسي اهتماما لافتا بمصالح بلاده في المنطقة وبمصير الدعم المادي والعسكري الذي تسخّره بلاده لدعم جهود محاربة الإرهاب في الساحل الصحراوي، والاطمئنان على مصالحها الطاقوية في النيجر والعمل على استعادة الاستقرار السياسي والأمني في مالي.
ويعوّل الإليزيه على ديناميكية ماكرون لتأمين مصالح باريس في القارة السمراء وحماية نفوذها التاريخي من المنافسة حيث كانت باماكو أول وجهة خارجية لماكرون فور تنصيبه، وهو ما أكّده بيان الرئاسة الفرنسية بالقول “قمة الثاني من يوليو ستشكل مرحلة جديدة مع إطلاق القوة المشتركة التي ستتعقب الإرهابيين عبر الحدود”.
ويرى مراقبون أن المساعي الحثيثة للرئيس ماكرون في سبيل تفعيل وتنويع الآليات الميدانية في الساحل الصحراوي تأتي في سياق براغماتية فرنسية تؤمّن مصالح باريس بأخف التكاليف، ولذلك يعكف الرجل على دعم جهود إطلاق قوة مشتركة والبحث عن مصادر تمويل من أجل تخفيف عبء الوضع الأمني في المنطقة على كاهل القوة الفرنسية “برخان” المنهكة بشريا وماديا في الساحل الصحراوي ومالي.
وينتظر أن تنضم القوة العسكرية الأفريقية المشتركة الجديدة إلى قوة “برخان” الفرنسية وبعثة الأمم المتحدة في مالي، لتوحيد جهود محاربة الإرهاب ووضع حدّ للانفلات الأمني في المنطقة خاصة وأنّ الجيش الجزائري المرابط على الحدود البرية المشتركة يقدم خدمات غير مباشرة لتلك الجهود، بعمله الدؤوب في تعقّب المجموعات والعناصر المتسللة إلى حدوده ويجفف منابع التموين والتمويل عبر ملاحقة عصابات التهريب والتجارة غير الشرعية.
وإن لم يتسرّب أي شيء عن مضمون الاتصال الذي أجراه ماكرون مع نظيره بوتفليقة عشية توجهه إلى باماكو فإن مراقبين لم يستبعدوا طلبا للدعم المالي في صلب المحادثات خاصة وأن الرئيس الفرنسي أبدى نواياه لطرح مسألة التمويل على دول أوروبية على غرار ألمانيا وهولندا وبلجيكا وحتى الولايات المتحدة الأميركية في إطار الجهود الدولية لمحاربة الإرهاب.
وقال الإليزيه في هذا الشأن “سنقوم بكل ما يلزم لتكون هذه القوة جاهزة ميدانيا مع اقتراب الخريف، وفي ذلك الوقت يمكن البدء بالتمويل الأوروبي وبحلول نهاية هذا العام أو بداية العام المقبل نرغب في تدخل آخرين”.
ومع ذلك يبقى اتفاق السلام المالي المبرم في الجزائر خلال العام 2015 محل تجاذب فاعلي المنطقة، خاصة في ظل تضارب الرؤى بينهم، فالجزائر تبقى متمسّكة بالوثيقة المتوصل إليها بين الفصائل المسلحة على أراضيها، بينما تسرع باريس الخطى لتوسيع الفاعلين في الاتفاق لدول المنطقة والتهديد باستعمال القوة ضد الفصائل المترددة بنقل وحدات من القوة المشتركة و”برخان” إلى محافظات الصراع في الشمال المالي.
العرب اللندنية