لندن – قلبت الانتخابات التشريعية الأخيرة والنكسة التي ألمّت بحزب المحافظين بقيادة تيريزا ماي بفقدانه الأغلبية المطلقة في البرلمان، أمر موقف لندن من مسألة الخروج من الاتحاد الأوروبي رأسا على عقب، بحيث يظهر الموقف البريطاني مرتبكا مترددا، فيما يطل موقف المفوضية الأوروبية في بروكسل أكثر قوة وحزما وتطلبا.
وبعد شهور من التكتم على أسلوب الخروج الذي تريده الحكومة البريطانية، كشف وزير الخزانة فيليب هاموند أن وزراء كبارا بحكومة ماي مقتنعون تماما بالحاجة إلى إجراءات انتقالية لتقليل الاضطرابات في الوقت الذي تستعد فيه بريطانيا للخروج من الاتحاد الأوروبي.
وفرضت الواقعية السياسية للغالبية من الوزراء في الحكومة البريطانية والموقف الرافض لرجال الأعمال والشركات الكبرى، على ماي سيناريو “الخروج السلس″ من أوروبا.
ويلاحظ المراقبون أن معظم أعضاء حكومة ماي يميلون إلى البقاء في أوروبا رغم أنهم يعملون على تنفيذ إرادة الشعب الذي صوت بأكثر من النصف، ولو بمقدار ضئيل، على الخروج من الاتحاد.
وينظر لهاموند الذي أيد البقاء داخل الاتحاد الأوروبي في استفتاء العام الماضي، باعتباره الصوت الداعي إلى “خروج سلس″، والذي يعطي الأولوية للعلاقات التجارية داخل الاتحاد على الحد من أعداد المهاجرين.
ومن المقرر أن يبدأ ديفيد ديفيز وزير شؤون الخروج من الاتحاد الأوروبي في بروكسل، الاثنين، أول جولة كاملة من محادثات الخروج.
وقال ميشيل بارنييه كبير مفاوضي الاتحاد الأوروبي الأسبوع الماضي إن “العمل الشاق يبدأ الآن” مكررا لهجة تحذيرية من أن لندن لم تقدم بعد مقترحات مفصلة عن العديد من القضايا في حين لم يتبق سوى عام واحد للتفاوض.
وأضاف بارنييه أن “الوقت يمضي” مظهرا درجة من نفاد الصبر تجاه الوزراء البريطانيين الذين يواصلون تجاهل مطالب الاتحاد بالاتفاق أولا من حيث المبدأ على أن لندن ستكون مدينة للتكتل بمبلغ كبير-ربما بعشرات المليارات من اليورو- لتغطية التزاماتها القائمة.
وقال مسؤول كبير بالاتحاد الأوروبي “أول اختبار جاد للمفاوضات سيكون الاتفاق على دفع الفواتير” وستكون الأسابيع المقبلة حاسمة في إقامة روابط بين كبار المسؤولين الحكوميين الذين سيتعاملون مع ما يعتقد أنه أعقد اتفاق دبلوماسي في العصر الحديث.
وينقل عن برلمانيين بريطانيين أن تصويت البريطانيين الأخير أكد المنحى العام نحو تنظيم الخروج من الاتحاد الأوروبي على نحو يبقي بريطانيا مرتبطة بأوروبا وفق اتفاقيات جديدة تبعد الطلاق القاسي الذي كانت ماي تبشّر به بصفته رغبة البريطانيين.
وقال هاموند إن الحكومة تحتاج إلى إظهار أكبر قدر ممكن من الوضوح في أقرب وقت ممكن من أجل الحفاظ على ثقة الشركات والمستهلكين ودفع الاقتصاد قدما.
وتابع “من الواضح تماما أن الشركات (…) تنتظر المزيد من الوضوح بشأن ما ستكون عليه العلاقة المستقبلية مع أوروبا”.
وأوضح أن “طول أي فترة انتقالية سيعتمد على المدة اللازمة لوضع أنظمة جديدة للتعامل مع أمور مثل الجمارك والهجرة، ولكن يجب أن تكون فترة محددة ومن المرجح أن تكون عامين على الأقل”.
ويعتبر خبراء الاقتصاد أن المزاج السياسي العام أتى ليرفد تقارير صدرت عن هيئات اقتصادية بريطانية ودولية تحذر من أن القطع مع الاتحاد الأوروبي سيعود بالوبال على الاقتصاد البريطاني، وأن محاولة الادعاء بأن اتفاقات ثنائية مع دول من خارج الإطار الأوروبي كفيلة بإعادة بريطانيا إلى أمجادها.
وفيما لم تعد أصوات كبار السياسيين البريطانيين المؤيدين للبقاء داخل الاتحاد الأوروبي خافتة، فإن المفاوضات التي ستجري مع بروكسل على وقع تعجّلها لندن لتقديم اقتراحات واضحة لمجموعة من ملفات الانفصال ستشهد تطورا نوعيا بات إجباريا في بريطانيا لصالح خروج سلس يحمي حقوق الأوروبيين في بريطانيا كما حقوق البريطانيين في أوروبا، ويطلق دينامكية جديدة لمسألة تنقل الأفراد إذا ما أرادت بريطانيا الاستفادة من مزايا السوق الأوروبي الواسع.
ومن بين أبرز القضايا التي يسعى الجانبان لتسويتها في اتفاق الخروج، حقوق المغتربين وحجم دين بريطانيا لموازنة الاتحاد الأوروبي وكيفية إدارة الحدود بين بريطانيا والاتحاد خاصة الحدود مع أيرلندا.
ويقول بارنييه إنه يجب الانتهاء من ذلك بحلول أكتوبر ليتمكن الطرفان من التصديق عليه قبل مغادرة بريطانيا في مارس 2019.
ورغم أن موقف بعض الساسة البريطانيين لم يرق إلى مستوى التراجع عن بريكست والعودة الكاملة إلى أوروبا، إلا أن خبراء بريطانيين في الشؤون الأوروبية يعتبرون أن لندن ستذهب إلى إفراغ بريكست من مضمونه من خلال اتفاقات قد لا تكون بعيدة عما هو معمول به بين الاتحاد الأوروبي وسويسرا والنرويج مثلا، على نحو يطيح بأسس استفتاء يونيو 2016.
ويعزو المحللون الاهتمام الشديد بتصريحات هاموند إلى أن الأوساط الإعلامية في بريطانيا مازالت تتسقط أخبار بريكست وتخمن كيف ستسير الأمور.
وصار الاعتماد على الحدس واللغط ضروريا لأن الساسة البريطانيين يستطيعون ببراعة نادرة أن يمارسوا حياة سياسية ممتلئة وعريضة دون الحاجة إلى الكشف عما يظنون وعما يريدون.
ويرى محللون أن التكتم البريطاني على ما تريده الحكومة بالتحديد، أمر تفرضه مراعاة الناخب بأكثر مما تفرضه متطلبات “الغموض التفاوضي” والإمساك بأوراق اللعبة ملتصقة بالصدر. ففي حزبي الحكومة والمعارضة هناك حلقات تضيق ذرعا بأوروبا وتريد انفصالا واضحا عنها.
العرب اللندنية