شكل صعود الرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) إلى قيادة منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية انعطافة ملحوظة في مسار القضية الفلسطينية. فقد رأى منذ البداية أن مهمته هي إعادة توجيه المشروع الوطني الفلسطيني. وركز برنامجه منذ توليه منصب الرئاسة في العام 2005 على تحقيق ثلاثة أهداف: “إنهاء الانتفاضة الثانية، وإصلاح السلطة الفلسطينية، والضغط من أجل استئناف عملية السلام”، كما يقول غرانت روملي وأمير تيبون. لكن سياسته عنَت في الممارسة تجريد النضال الفلسطيني نهائياً من خيار الكفاح المسلح، والتركيز الكامل على “عملية السلام” التي بدأها سلفه، ياسر عرفات، باتفاقيات أوسلو في العام 1993، باعتبارها الخيار الوحيد الواعد في تقديره.
الآن، بعد مرور أكثر من 12 عاما على توليه سلطاته الدستورية في كانون الثاني (يناير) من العام 2005، ما يزال عباس في السلطة على الرغم من انتهاء ولايته في العام 2009. وخلال هذه الفترة، لم تحقق “عملية السلام” التي عقد آماله عليها تقدّماً يُذكر، بل وأعلن الكثيرون موتها. كما فشلت “خريطة الطريق” التي أعلن منذ البداية تمسكه بها، في التحقق، ولم تسفر اتفاقيات أوسلو التي تابعها عن إقامة الدولة الفلسطينية في موعدها ولا بعد سنوات من انقضائه.
ما تزال حقبة عباس لما تنتهِ بعد، وما تزال النخبة التي يقودها تتحكم في الوجهات الفلسطينية وتحفر فيها علامتها الفارقة. ومع ذلك، وجد الكاتبان غرانت روملي وأمير تيبون أن في خبرة محمود عباس ما يكفي من التفاصيل التي تستحق التوثيق، والتي ضمناها كتابهما الذي صدر في الأيام القليلة الماضية بالإنجليزية عن “دار بروميثيوس” في نيويورك، بعنوان: “الفلسطيني الأخير: صعود وحكم محمود عباس” The Last Palestinian: The Rise and Reign of Mahmoud Abbas. وكانت مجلة The Atlantic قد نشرت المقتطف الذي ننشر ترجمته أدناه قبل أيام من صدور الكتاب.
نشير إلى أن الكاتبين استخدما في كلمة “الإرهاب” ومشتقاتها ليصفا بها شخصيات وحركات وطنية فلسطينية. وقد آثرنا الإبقاء على هذه المفردة حيثما وردت في النص، لغاية إبراز انحيازات الكاتبين والحفاظ على أصالة الترجمة، ولا يعبر هذا الوصف قطعاً عن رأي هذه الصحيفة وهذا المترجم.
عندما حاصرت الدبابات الإسرائيلية مقر ياسر عرفات في رام الله في العام 2002، دعا الرئيس الفلسطيني ربَّه أن يُميته شهيداً. وبعد سنتين ونصف من ذلك، تحققت رغبته، في جزء منها. في تشرين الثاني (نوفمبر) 2004، توفي “الختيار” في باريس بعد أن عانى من نزيف في الدماغ.
تركت وفاة عرفات حزبه، فتح، في حالة من التشوُّش والفوضى. كان الزعيم الفلسطيني فاقداً الوعي لأيام، ومع ذلك عندما توفي أخيراً، بدا الحزب الذي قاده لعقود غير مستعد لذلك. وفي منتصف الليل، بينما كان كبار الساسة الفلسطينيين يتجادلون حول مَن هو الذي يجب أن يخلف “الختيار”، جلس محمود عباس -المعروف أيضاً بكنيته، أبو مازن- في الزاوية، صامتاً. فمن الناحية الفنية، تملي اللوائح الداخلية لمنظمة التحرير الفلسطينية أن تذهب السلطة إليه، بما أنه يشغل منصب الأمين العام للمنظمة. ومع ذلك، كان بعض المسؤولين الفلسطينيين غير مقتنعين بأنه على مستوى النهوض بالمهمة.
في نهاية المطاف، كان الأعضاء من الفصائل الأصغر في منظمة التحرير الفلسطينية هم الذين وجهوا القرار في اتجاه عباس. ويتذكر عضو اللجنة التنفيذية عبد ربه: “لقد تشاجروا (فتح) معنا، ولذلك قلنا إنهم إذا لم يفعلوها، فإنها سنفعلها نيابة عنهم. قلنا لهم إن اختيار اللجنة التنفيذية هو أبو مازن. ويجب أن يوافقوا عليه. قلنا لهم ‘مرشحنا هو أبو مازن، وإذا كنتم تريدون شخصاً آخر، اذهبوا واجتمعوا في الغرفة المجاورة واجلبوا لنا اسماً آخر’، لكننا لم نستطع أن ننتظر ثلاثة أيام. كان علينا أن نقول للناس اليوم إن هناك قائدا”.
في الصباح الباكر من يوم 11 تشرين الثاني (نوفمبر) 2004، عندما استيقظ الفلسطينيون العاديون على الأخبار الدراماتيكية عن وفاة عرفات، كانت فتح قد قررت أخيراً بشأن خليفته: “إنه أبو مازن”.
قبل عام واحد فقط، كان عباس قد استقال من العضوية وكان يعيش في منفى سياسي. وكان قد استعاد موقعه بوصفه الرجل الثاني في منظمة التحرير الفلسطينية من الناحية الفنية. ومع ذلك، اعتقد الكثيرون أن حياته السياسية كانت قد انتهت عملياً. ولكن، وبينما يخف وقع حقيقة وفاة عرفات، كان الشيء الوحيد الذي استطاع قادة فتح ومنظمة التحرير الفلسطيني المذعورون الاتفاق عليه هو أن البروتوكول يجب أن يُتَّبع، وعنى البروتوكول أن عباس سيكون الرجل.
اعتبرت واشنطن أن تعيين عباس جاء نتيجة لعملية متعددة السنوات لإضعاف عرفات. وقال بوش في خطاب له في حزيران (يونيو) 2002: “إنني أدعو الشعب الفلسطيني إلى انتخاب قادة جدد. قادة ليسوا موسومين بالإرهاب”. وبالنسبة لبوش ومسؤولي الإدارة، عنى ذلك عباس.
في القدس، تذكر رئيس الوزراء الإسرائيلي آرئيل شارون جيداً ما انتهت إليه الأمور آخر مرة شغل فيها عباس منصباً قيادياً؛ ولم يكن متأكداً كيف ستجري الأمور هذه المرة. وقرر أن تستمر إسرائيل في تنفيذ خطتها لفك الارتباط من جانب واحد، من دون الاعتماد على عباس. ومع ذلك، قال مستشار رفيع سابق لشارون إن عباس كان بوضوح مفضلاً على عرفات، الذي “لم يكن موته حدثاً محزناً جداً، من وجهة نظرنا”.
الآن، أصبح كل ما على عباس عمله هو الفوز فعلياً في انتخابات.
* * *
في العام 1994، أراد نادر سعيد، الباحث في مركز العالم العربي للبحوث والتنمية في الضفة الغربية، أن يقيس آراء الفلسطينيين العاديين في قادة منظمة التحرير الفلسطينية العائدين حديثاً. وأظهر الاستطلاع الأول الذي أجراه أن معظم الفلسطينيين يدعمون ياسر عرفات كرئيس. وبعد أن أكد الاستطلاع الثاني أنهم يفضلون عرفات على الشيخ أحمد ياسين، قائد حركة حماس الإرهابية، تلقى سعيد مذكرة مكتوبة باليد من عرفات، والتي ضمت أربع كلمات: “إيه دَه، يا سعيد!”.
هذه الجملة التقريرية أكثر من كونها استفهامية، كانت مكتوبة بلهجة عرفات المصرية التقليدية. ولم يتخلَّ “الختيار” أبداً عن تنشئته اللغوية. ثم سألت استطلاعات سعيد الناس عمّن يجب أن يكون نائب رئيس لعرفات. وحتى مع أن ذلك المنصب لم يكن موجوداً، ولم يكن هناك حديث يُذكر عن استحداثه، أراد الباحثون معرفة شيء عمن يراه الفلسطينيون عرفات رقم 2. وبعد الاطلاع على النتائج، أرسل عرفات ملاحظة أخرى: “إيه دَه يا سعيد!!!!!!!!!!”.
“عشر علامات استفهام”، كما يتذكر سعيد ضاحكاً. وقال: “وهكذا، كان لا بأس به بالنسبة له أن نستطلع عن المرشحين الرئاسيين، وإنما ليس عن نائب الرئيس”. ثم ظهر ارتياب عرفات بشكل أكبر: إن تسمية الرجل رقم اثنين سوف تمنح الجمهور زعيماً طبيعياً آخر إذا وعندما يتعثر عرفات. وقد رفض عرفات حتى مجرد مناقشة مثل هذا الاحتمال.
مع ذلك، عندما اختلس نظرة على نتائج الاستطلاع، استطاع عرفات أن يرى بسهولة أن هناك رجلا واحدا ليس لديه أي سبب إطلاقاً للقلق منه: مستشاره ومفاوضه منذ وقت طويل، محمود عباس، الذي جمع نسبة بائسة من الأصوات لم تتجاوز 1.5 في المائة. ويتذكر سعيد: “في ذلك الوقت، لم يكن أحدٌ يعرف عباس. كان عباس دائماً في الخلفية. لم يكن أبداً شعبوياً. ولم يكن شخصاً للشعب. لم يكن يهتم -ليس بطريقة سيئة- لكن ذلك لم يكن أسلوبه فقط. على العكس من عرفات الذي كان دائماً حاضراً هناك، ويقول الأشياء الصحيحة دائماً، ويصوغ الشعارات. لم يكن عباس أي شيء من ذلك. لم يكن يهتم مطلقاً بذلك”.
* * *
كان يوم 28 كانون الأول (ديسمبر) 2014 أول يوم ينخرط فيه عباس في حملة انتخابية في حياته. لم يكن مرشح فتح البالغ من العمر 69 عاماً قد خاض أي حملات من أجل منصب، وأصبح يترشح فجأة لشغل أعلى منصب في الضفة الغربية وغزة. وقد عرف مستشاروه ذلك. ولكي يفوز، كان على مفاوض السلام هادئ الحديث أن يروق لكل فتح، وليس لنخبتها البيروقراطية فحسب. وعنى ذلك أن على عباس أن يذهب إلى القلب النابض للانتفاضة الثانية حتى يكسب قاعدة فتح المتشددة: مخيم جنين للاجئين في شمال الضفة الغربية. كانت جنين، التي تضم أكثر من 30.000 فلسطيني، مركزاً للاشتباكات العنيفة مع إسرائيل منذ بداية الانتفاضة. وعنى كسب دعم حزبه ذهابه إلى منطقة غير مألوفة. ويتذكر مدير حملته، محمد اشتية: “2005 كان استمراراً للانتفاضة الثانية”. وكان عباس على وشك دخول بطن الوحش، وأن “يدعو إلى تجريد الانتفاضة من السلاح”.
لكنه واجه معركة شاقة. لم يكن قائد فتح المسن قد خاض سابقاً خبرة تعبئة الحشود الكبيرة أو أسر انتباه الجمهور في القاعات المكتظة. ويقول اشتية: “أبو مازن رجل نخبة، وله جمهور منتقى. ربما كانت أكبر مجموعة تحدث إليها هي المجلس الوطني الفلسطيني. ولم يذهب أبداً إلى التجمعات أو المظاهرات”.
كانت التوترات عالية في جنين في ذلك الوقت. وكان جناح فتح المسلح، كتائب شهداء الأقصى، قد ملأ ملعب كرة قدم بالأنصار الذين يلوحون بالبنادق الرشاشة، ولم يكن هؤلاء متقبلين تماماً لنهج عباس غير العنيف. ودخل عباس الملعب بحذر، آمناً داخل موكبه. وعندما ظهر أخيراً، كان ذلك من أجل العناق بالغ الأهمية مع زكريا الزبيدي، أبرز زعيم للإرهاب في جنين وحبيب وسائل الإعلام. وربما لم تكن هناك أي شخصية في السياسة الفلسطينية أكثر اختلافاً منه عن عباس، سواء في السيرة أو المزاج. ومع ذلك، كان عباس يحتاج إلى كسب جنين، وكان كسب جنين يحتاج إلى كسب الزبيدي.
كان الزبيدي صعب الإقناع. وكان في البداية قد دعم مروان البرغوثي، الزميل السابق في جناح الإرهاب في حركة فتح، والذي كان قد أعلن ترشحه للرئاسة من سجن إسرائيلي، حيث يقضي خمسة أحكام بالسجن مدى الحياة. ولكن، عندما انسحب البرغوثي من السباق على الرغم من شعبيته الهائلة في الشارع الفلسطيني، قرر الزبيدي أن ينسجم مع نخبة فتح. وقد رحب بعباس بحرارة في جنين ورفعه فوق حشد من المؤيدين. وبينما يرتدي وشاحاً عليه عبارة “أبو مازن لمنصب الرئيس” ملفوفاً حول عنقه، سار الزبيدي مع عباس عبر المدينة بينما يلوح عباس للمؤيدين. وعاد عباس من جنين منتصراً: على الرغم من معارضته للكفاح المسلح، كان أولئك الذين شاركوا فيه يصطفون خلفه.
يتذكر أشرف العجرمي، عضو مجلس الوزراء في عهد عباس: “وعد بأن يواصل إصلاحات القطاع العام التي كان قد بدأها في العام 2003 وأوقفها عرفات. وعندما ترافق ذلك الوعد مع أقدميته في فتح وسمعته الدولية، كان ذلك كافياً لإقناع الناس. كان الناس يتوقون إلى مشاهدة تغيير بعد حكم عرفات. وكان هناك شعور بأن الكفاح المسلح قد انتهى على أي حال، وبذلك، كان ذاك وقتاً جيداً للتركيز على أشياء مثل الحكم اللائق، والاقتصاد ونظام التعليم، وهي أشياء لم يهتم بها عرفات أبداً”.
كان هناك سبعة مرشحين على الأقل لمنصب رئيس السلطة الفلسطينية خلال الحملة التي استمرت شهرين. لكن التهديد الوحيد الجدِّي لمحمود عباس جاء من مصطفى البرغوثي، الطبيب والسياسي المستقل منذ وقت طويل. وكان البرغوثي، وهو قريب من بعيد لزعيم الإرهاب مروان، قد ترشح لبرلمان السلطة الفلسطينية في العام 1996، لكنه فشل في الحصول على مقعد بفارق ضئيل. وفي حمأة الانتفاضة الثانية، شكل البرغوثي وعدد من الأكاديميين الفلسطينيين البارزين حزباً ثالثاً جديداً يسمى “المبادرة”، أو المبادرة الوطنية الفلسطينية. وكان برنامج الحزب بسيطاً: عارَض الاحتلال الإسرائيلي وتعهَّدَ بالدعم الكامل للاجئين الفلسطينيين في الخارج. والآن، أصبح الحزب منصته للترشح الرئاسي.
بينما يخوض البرغوثي حملته في القدس وعبر الضفة الغربية، كان عباس يحدُّ من ظهوره العلني ويسمح لفتح بالتحشيد نيابة عنه. كانت فتح أفضل وسيلة سياسية منظمة في الضفة الغربية؛ فإذا صادق الحزب على مرشح، فإن ذلك المرشح يحصل على دعم كوادر الحزب في كل قرية ومدينة. وفي الأثناء، تعرض البرغوثي للمضايقة في الخليل من الأحزاب المنافسة، واعتقله الإسرائيليون لفترة وجيزة بسبب خوض حملته في القدس. هل واجه عباس مثل هذه القيود؟ “كلا. طبعاً لا. لم تكن هناك أي قيود. لكنه لم يذهب إلى القدس على أي حال”.
لكن عباس وفتح أدارا حملة ذكية. أجروا استطلاعات خاصة بكل مدينة معنية وتأكدوا من أن يخاطب جماعتهم في كل مدينة أكثر القضايا أهمية بين الفلسطينيين. وبينما كان شعار البرغوثي “لنضع القضية في أيد أمينة”، كان شعار عباس “السلام والحد من الفقر”. ولاحظ مدير حملته أنه اعتاد على تكرار آية من القرآن في كل خطاب ومقابلة: “الذي أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوف”. وبدت هذه الآية شعاراً طبيعاً للرجل المفاوض طوال حياته والمُصلح.
اعتُبرت انتخابات 9 كانون الثاني (يناير) 2005 حرة ونزيهة إلى حد كبير. وخلصت بعثة مراقبة ترأسها الرئيس الأميركي السابق جيمي كارتر إلى أنها كانت “تعبيراً واضحاً عن الإرادة الديمقراطية للشعب الفلسطيني”. ومع ذلك، لاحظ المراقبون أن تغييرات القواعد في اللحظة الأخيرة، والتي سمحت للفلسطينيين بالتصويت ببساطة بمجرد إبراز الهوية من دون أن يكونوا قد سجلوا مُسبقاً، كانت “إشكالية”. وخلصوا إلى أن “بعض الناس استفادوا من تغيير القاعدة للتصويت أكثر من مرة”.
بوضوح، لم تكن لدى فتح النية للسماح بأي حزب آخر بمحاولة خلافة عرفات، مؤسسة الحركة ذات التوجهات القومية. هل كان هناك أي اعتقاد بأن عباس يمكن أن يخسر الانتخابات. “كلا”، يقول اشتية.
أثبتت أول استطلاعات الرأي أن ثقة عباس كانت مبررة: فقد أظهرته وهو يفوز بنسبة 66 % من الأصوات في مقابل 19 % نالها البرغوثي. وكان عباس مستعداً لإطلاق تنهيدة ارتياح، وقال للصحفيين: “الانتصار جميل، لكن الأجمل هو الوفاء بالتعهدات”. وأصر عباس على أن أولويته كرئيس ستكون الاجتماع مع شارون في أقرب وقت ممكن. وبعد وقت قصير من إعلان فوزه، تلقى رسالة تهنئة من الرئيس بوش. وفعل بوش في ذلك الحين ما لم يفعله أبداً مع عرفات: دعا عباس إلى واشنطن.
* * *
بعد أسبوع واحد من انتصاره، ألقى عباس خطاب توليه سلطاته الدستورية أمام برلمان السلطة الفلسطينية. وأعلن عباس: “إنني أهدي هذا الفوز باسم كل الشعب إلى روح وذكرى القائد الخالد، رمز مسيرتنا وبطلها، الأخ ياسر عرفات، الذي زرع البذرة الأولى لهذه التجربة الديمقراطية، ورفع رايتها وكرس تقاليدها. فتحية الإجلال والإكبار إلى روحك الطاهرة يا أبا عمار في يوم الديمقراطية الفلسطينية”.
بعد ذلك، اتجه عباس إلى العمل على الأساسيات. كانت أهدافه كرئيس بسيطة: إنهاء الانتفاضة الثانية، وإصلاح السلطة الفلسطينية، والضغط من أجل استئناف عملية السلام. ولكي يفعل ذلك، سيكون على المفاوض منذ فترة طويلة أن يعيد توجيه المشروع الوطني الفلسطيني. وقد اعتبر انتخابة استفتاء على الدعم الشعبي لمهمته. وقال خلال خطاب تنصيبه: “ولتحقيق هذه الأهداف؛ فإن نهجنا سيبقى النهج الذي اتخذته منظمة التحرير الفلسطينية خياراً استراتيجياً، خيار السلام العادل الذي يمكن التوصل إليه بالتفاوض… أما الطريق نحو هذا الهدف؛ فهو ما اتفقنا والعالم حوله في خطة خريطة الطريق… إننا سننفذ التزاماتنا حرصاً على المصلحة الوطنية الفلسطينية، وبالمقابل فعلى إسرائيل أن تنفذ ما عليها”.
كانت الولايات المتحدة وإسرائيل أكثر من سعيدتين بتغيير القيادة. وكتبت كوندوليزا رايس أن الولايات المتحدة “رحبت بانتخاب عباس عن طريق عرض تقديم منحة قدرها 200 مليون دولار سنوياً للفلسطينيين”، بالإضافة إلى حث الرئيس بوش “دول الخليج الفارسي الغنية على زيادة مساعداتها بشكل كبير”. وبعد أسبوع من خطاب عباس بمناسبة توليه سلطاته الدستورية، قرر شارون تنفيذ عملية عسكرية واسعة في غزة لقمع إرهاب الانتفاضة. ووفقاً لمسؤول حكومي إسرائيلي، فقد أرادت إسرائيل “أن تعطيه (عباس) فرصة للعمل”.
في المدى القصير، كان على عباس تطويق العناصر العنيفة للانتفاضة في داخل حزبه وفي كامل الطيف السياسي الفلسطيني. وكانت الخطوة الأولى هي الدفع بالموالين لعرفات إلى خارج الحكومة. كان عباس يريد إعادة توجيه السلطة الفلسطينية من موقف محاربة إسرائيل إلى موقف الحكم وبناء الدولة. ولكي يفعل ذلك احتاج إلى تطهير فتح من عناصرها المتشددة. وبعد شهر من توليه المنصب، طرد 17 من أصل 24 عضواً في مجلس وزراء عهد عرفات، واستبدلهم بحلفاء. وكانت الرسالة واضحة: إما الانضمام إلى عربة الاستراتيجية الجديدة أو الخروج.
اختار العديد من المتشددين الفلسطينيين الخيار الثاني. وحاول عباس على الفور تنظيف المنزل بالانتقال عند إحدى النقاط إلى مقرات السلطة الفلسطينية، أو المقاطعة. وعندما حاول عباس إخراج ستة مسلحين كانوا قد لجأوا إلى المقاطعة منذ العام 2002، ردوا بإطلاق النار على المجمع قبل مهاجمة مطعم محلي. وفي تجمع في رام الله ضم الآلاف من ناشطي فتح في آذار (مارس)، اقتحم مسلحون من كتائب شهداء الأقصى القاعة وفرقوا الاجتماع بإطلاق نيران بنادقهم في الهواء.
ربما كان عباس رئيساً، لكن فوضى فترة ما بعد الانتفاضة كانت ما تزال تلقي بظلالها على المشهد. كانت الفصائل ما تزال تهيمن على المخيمات في أنحاء الضفة الغربية، وكانت قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية متقلصة، وكانت الهيئات الحاكمة منضبة أو غير موجودة.
لحسن حظ عباس، فهم الأميركيون والإسرائيليون وضعه المعقد. وفي 13 آذار (مارس)، حلت قوات الأمن الفلسطينية محل الجيش الإسرائيلي في مدينة أريحا في الضفة الغربية؛ حيث حولت إسرائيل السيطرة على المدن الفلسطينية الرئيسية إلى السلطة الفلسطينية. وبعد أسبوع من ذلك، استعادت السلطة الفلسطينية السيطرة على طولكرم. وفي غضون أسابيع، عادت رام الله وبيت لحم وقلقيلية أيضاً إلى سيطرة السلطة الفلسطينية. وفي أيار (مايو) زار عباس واشنطن في أول زيارة يقوم بها رئيس فلسطيني إلى البيت الأبيض في خمس سنوات. وأشارت هذه الأحداث مجتمعة إلى أن الأمور كانت تتحرك في الاتجاه الصحيح. كانت أشهر عباس الأولى في الحكم وقتاً للتفاؤل الحذِر.
* * *
في أيار (مايو) 2005، قال بوش لعباس: “سوف نقف معكم، السيد الرئيس، بينما تحاربون الفساد، وتصلحون أجهزة الأمن الفلسطينية ونظام العدالة لديكم، وتحيون اقتصادكم”. ولتحقيق ذلك، أعلن بوش عن ضخ 50 مليون دولار لتمويل مشاريع الإسكان في غزة. وبدا استثمار النقود في غزة منطقياً؛ حيث كانت إسرائيل ماضية في خطتها للانسحاب من جانب واحد من الجيب الساحلي. وكان من المقرر أن تنفذ خطة شارون لفك الارتباط، التي كان قد أعلنها في نهاية العام 2003، بحلول صيف العام 2005 بعد أن صادق عليها الكنيست. وفي البداية، كانت إدارة بوش متشككة في الخطة، خاصة بسبب طبيعتها أحادية الجانب. وكانت سياسة البيت الأبيض ما تزال تفضل تنسيق الجانبين معاً. ولكن، مع الوقت، غيرت الإدارة موقفها، ولم تكتفِ بالإعراب عن دعمها للخطوة الإسرائيلية أحادية الجانب، وإنما أعطت إسرائيل أيضاً مكافأة دبلوماسية كبيرة في شكل رسالة من الرئيس، والتي تعترف بأن الحدود المستقبلية بين إسرائيل والدولة الفلسطينية ستأخذ بعين الاعتبار التغييرات على أرض الواقع في الضفة الغربية.
كان الذي عناه ذلك، في جوهره، هو أن الرئيس الأميركي أصبح يتبنى الآن فكرة إجراء تبادلات في الأراضي، والتي تسمح لإسرئيل بضم “الكتل الاستيطانية” الكبيرة القريبة من حدود العام 1967، على أن تعوض الفلسطينيين بأراضٍ من داخل إسرائيل. وبالإضافة إلى ذلك، كان بالوسع تفسير الرسالة باعتبار أنها تضفي الشرعية على جدار أمني كانت حكومة شارون قد شيدته بين إسرائيل والكثير من مناطق الضفة الغربية، رداً على الانتفاضة. وكان رد الفعل الفلسطيني على هذه الرسالة قاسياً؛ حيث وصفها الفلسطينيون بأنها “موت عملية السلام” واتهموا بوش بإضفاء الشرعية على المستوطنات.
مع ذلك، بحلول صيف العام 2005، كانت رسالة بوش قد أصبحت أقل شواغل عباس. كان يمكن أن تشكل صور إسرائيل وهي تسحب جنودها وتخلي مستوطنيها من غزة لحظة انتصار له وللسلطة الفلسطينية، لكنها أصبحت بدلاً من ذلك أداة تجنيد لفصيل حماس الإرهابي المنافس. ويقول العجرمي: “الانسحاب الإسرائيلي أحادي الجانب تسبب بالكثير من الضرر للسلطة الفلسطينية. فلأكثر من عقد، استثمرت السلطة الفلسطينية في المفاوضات مع إسرائيل. ثم عندما انسحبت إسرائيل أخيراً، حازت حماس الفضل عن الأمر كله. قالوا للناس أن يروا بأم أعينهم: طريقة أبو مازن في المفاوضات استطاعت بالكاد أن تجعل الإسرائيليين ينسحبون بضع بوصات، ومع ذلك، فإن الكفاح المسلح، الانتفاضة وتفجيرات الحافلات -كل هذه الأشياء هي التي جعلت إسرائيل تهرب من غزة. وقدموا ذلك على أنه انتصار على شارون، لكنه كان فوق كل شيء انتصاراً على أبو مازن بالنسبة إليهم”.
إصرار شارون طوال العام 2005، حتى بعد انتصار عباس الانتخابي، على تنفيذ خطة فك الارتباط فقط مع حد أدنى من التنسيق مع السلطة الفلسطينية، ما يزال يشكل نوعاً من الغموض حتى اليوم. وقد وصف ديفيد لانداو ذلك في كتابه لسيرة شارون بأنه “شاذ تقريباً”. لكن البعض لا يتفقون مع هذا التشخيص. ويقول دوف فيسغلاس، رئيس موظفي شارون في ذلك الوقت: “القول إنه لم يكن هناك تنسيق مع السلطة الفلسطينية خلال فك الارتباط خاطئ تماماً. لقد تحدثت أنا شخصياً مع أبو مازن عن عناصر مختلفة من الخطة. وكانت هناك أيضاً اتصالات مستمرة بين المسؤولين الأمنيين من كلا الجانبين، وكنا نعمل على خطط لمبادرات اقتصادية في المستقبل. الناس الذين يقولون إن ذلك تم من دون تنسيق وجدوا صعوبة في قبول حقيقة أن شارون، وليس محبوبهم شيمون بيرز، هو الذي قام في نهاية المطاف بإزالة المستوطنات. لكن هذا لا يغير الحقائق”.
كان عباس يعرف أيضاً أن غزة شكلت بالنسبة لشارون مجرد البداية فحسب. كانت إسرائيل ما تزال ملتزمة بخريطة الطريق، وما تزال المرحلة النهائية هي إقامة دولة فلسطينية في غزة والضفة الغربية. وفي أعقاب فك الارتباط، دفعت ضغوط اليمين شارون إلى ترك حزب الليكود وتأسيس حزب وسطي جديد سُمي “كاديما” (“إلى الأمام” بالعبرية)، وذهبت إسرائيل إلى انتخابات جديدة، وكان من المتوقع أن يتخذ شارون بعد فوزه القادم الخطوة الجريئة التالية، هذه المرة في الضفة الغربية. لكن شارون -الذي كان في السابعة والسبعين من عمره- أصيب في 4 كانون الثاني (يناير) 2006 بسكتة دماغية ودخل في غيبوبة لم يستيقظ منها أبداً. وأصبح معسكر السلام في إسرائيل الآن محاصراً، وتُرك عباس صفر اليدين. وكانت تلك هي الأولى بين نكسات عديدة سوف يعاني منها في ذلك العام.
غرانت روملي؛ وأمير تيبون
صحيفة الغد