مشروع المساواة في الميراث في تونس جدل حقوقي بعمق سياسي

مشروع المساواة في الميراث في تونس جدل حقوقي بعمق سياسي

 

يرى متابعون للشأن التونسي أن مقترحي الرئيس التونسي حول المساواة بين المرأة والرجل في الميراث وتشريع قانون يسمح بزواج التونسية المسلمة برجل غير مسلم يندرجان ضمن حملة انتخابية مبكرة، لكن راضية الجربي رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة التونسية أكدت في حوراها مع “العرب” أن مشروع القانون يعد تتمة للتشريعات الخاصة بالنساء التي أقرها البرلمان التونسي وفي آجاله الاجتماعية المناسبة.

لم يكن اقتراح مشروع قانون للمساواة في الميراث بين الجنسين كما اقتراح زواج المرأة بغير المسلم مفاجئين لدى الأوساط الحقوقية في تونس، بل هما تتمة لجهود الدولة في هذا المجال منذ صدور مجلة الأحوال الشخصية في العام 1956 تحت إشراف الرئيس السابق الراحل الحبيب بورقيبة، على حد تعبير الجربي.

وكان الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي شدد في خطاب له بمناسبة العيد الوطني للمرأة في 13 أغسطس على ضرورة إجراء مراجعات قانونية من شأنها أن تساوي الجنسين في الميراث وأن تسمح للمرأة بالزواج من غير المسلم. واعتبر متابعون أن مشروع القانون الذي دعا إليه الرئيس التونسي محاولة لصرف الأنظار عن الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها تونس، وبداية حملة انتخابية مبكرة يحاول السبسي من خلالها كسب التأييد من قبل النساء، إلا أن رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة التونسية تفند في حوراها مع “العرب” هذه التخمينات.

وتشير الجربي إلى أن “مقترح مشروع قانون للمساواة في الميراث ورد في تاريخه وآجاله المناسبة من قبل رجل السياسة ورئيس الجمهورية”.

مبررات اقتصادية

تعيش تونس منذ اندلاع ثورة يناير عام 2011 أزمة اقتصادية خانقة ازدادت حدتها في السنوات الأخيرة ونتجت عنها احتجاجات شعبية في العديد من المحافظات التونسية مطالبة بنصيبها في التنمية والتشغيل.

وترى الجربي أن هذا الوضع الاقتصادي الذي آلت إليه البلاد اليوم يفرض تقدم المرأة في مستوى الشراكة مع الرجل. وتقول “المرأة التونسية تساهم وتساعد في اقتصاد الأسرة بشكل فعلي وبارز وهو ما يأخذنا باتجاه التفكير في تمكينها من المساواة الكاملة مع الرجل. كما أن هناك وضعية تعاني منها النساء ليس فقط في تونس بل في جل الدول العربية، فمثلا لدينا نسبة كبيرة من النساء العاملات في المجال الزراعي وأيضا نجد نسبة هامة من الفتيات الصغيرات في السن واللاتي يعملن معينات في المنازل”.

وأضافت “هؤلاء النسوة هن من يعتنين بأسرهن وأحيانا هن معيلاتها وهن في نهاية المطاف من يبنين المنزل أو يشاركن بقسط هام في بنائه ومنهن من يشترين العقارات وينمين كل ممتلكات الأسرة، لكنهن محرومات من الميراث كليا. وبالإضافة إلى غياب المساواة في حقوقهن مع الرجال يواجهن النظرة الدونية في المجتمع حتى لو كن يشاركن بقسط كبير في تنمية ثروة الأسرة”.

وأردفت الجربي أن “هذا الواقع يلاحظه الجميع والإحصائيات تقول إن الفتيات اللاتي يعملن معينات منازل هن اللاتي يعلن عائلاتهن، ونعلم أنهن في ما بعد محرومات من الميراث. وعند اقتسام الميراث يتم حرمانهن من نصيبهن الذي ساهمن به من مالهن وجهدهن الخاص”.

وتوضح أن هذه الوضعية الصعبة للمرأة التونسية وجدت منذ خروجها للعمل بالرغم من أن الدستور التونسي (دستور 2014) يكرس مبدأ المساواة ويكرس مبدأ الحقوق الفردية للأفراد ومبدأ المواطنة والتعامل مع المرأة كمواطن له نفس الحقوق وعليه نفس الواجبات.

ووفقا لما ورد في الدستور فإن الدولة هي من يضمن المساواة وتكافؤ الفرص بين الجنسين وهي التي تسهر وتعمل وتلتزم بتحقيق المساواة وتحمي حقوق الأفراد.وتعتبر رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة التونسية مشروع قانون المساواة في الميراث “تتمة للتشريعات الأخيرة التي صادق عليها البرلمان التونسي في يوليو الماضي والمتمثلة في قوانين مناهضة كل أشكال العنف المسلط على النساء بما في ذلك العنف الاقتصادي في ما يخص التمييز في توزيع الثروات.

كما أن تونس صادقت على اتفاقية السيداو والتي ترفض كل أشكال العنف المسلط على النساء بما في ذلك العنف الاقتصادي في الأجر، أي أن تقوم بنفس مهام الرجل لكنها تحصل على أجر أقل لمجرد كونها امرأة”.

وتقول الجربي إن “كل هذه الترسانة من القوانين والتشريعات وهذا التوجه للمشرع التونسي تخلق مجتمعا متوازنا يكرس مبدأ المواطنة بين الأفراد نساء ورجالا”، مشيرة إلى أن هنالك خاصية أخرى تونسية بامتياز وتتمثل في أن تونس كانت دائما ذات نظرة استشرافية. ففي عام 1956 كان الوضع الاجتماعي والسياسي وحتى الفكري للتونسيين غير جاهز لتقبل مجلة الأحوال الشخصية خصوصا في فصولها التي تتعلق بمنع تعدد الزوجات والطلاق على المستوى القضائي، ومنع الزواج العرفي، إلى غير ذلك من المسائل التي لم تكن تطرح ولم يكن التونسيون يفكرون فيها، ومع ذلك تم إقرار المجلة. وأصبحت مجلة الأحوال الشخصية الآن جزءا من حياة التونسيين اليومية، وباتت لدى الجميع قناعة بأنها جزء من “هويتنا كتونسيين ولا نقبل أي نمط عيش يحيد عما ورد في مجلة الأحوال الشخصية” على حد قول الجربي التي لفتت إلى أن “تونس ترى أن مسألة المساواة في الميراث يمكن النظر فيها وطرحها للنقاش، ولا يوجد موضوع يمنع الحوار أو النقاش فيه”.

وتؤكد رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة التونسية أن هناك جرأة في طرح مثل هذا القانون، لكن هذه الجرأة متوازنة، منوهة بأنه “بقدر حرصنا على احترام النساء واحترام القوانين الدولية أيضا نحرص على احترام خصوصياتنا كمسلمين وعلى احترام الشريعة الإسلامية لأن الإسلام دين التونسيين وهو دين عدل وعدالة”.

وعلقت الجربي على الجدل الذي أثاره مشروع القانون المقترح من قبل الرئيس التونسي خاصة لدى رجال الدين في تونس وفي العالم العربي الذين يرون أنه تجاوز للنص القرآني بما أن آيات الميراث واضحة لا تتطلب الاجتهاد من وجهة نظرهم، بأن “هناك ثورة قامت بها الرسالة المحمدية في الجزيرة العربية في ذلك الوقت، وأعطت الكثير من الحقوق للنساء وأيضا للمواطنين وعاملتهم بالمساواة بين العبد والسيد مثلا. وأعطت حقوقا للنساء ونظمت الحياة بحيث خلقت ثورة لم تقبلها العقول في تلك الفترة”.

وتضيف الجربي “اليوم مر على ذلك العصر أكثر من ألف وخمسمئة سنة، إذن فلا بد للعقليات أن تتطور، يعني إذا كان سيدنا سيد الرسل قد كان فعلا رجلا ثوريا وأعطى حقوقا للمرأة وقال إن لها الحد الأدنى وهو النصف فلماذا هناك تمييز ضد المرأة اليوم؟”. وتساءلت في السياق ذاته “لماذا لا تتغير الأوضاع إلى حد يسمح لنا بالحديث عن المساواة التامة؟ ولا أعتقد أن مشروع قانون المساواة في الميراث يتعارض مع روح الدين الإسلامي وروح الرسالة المحمدية وما أتت به من قيم ومن إجراءات وسلوكيات مفروضة على المسلمين”.

وتوضح الجربي أنها تتفهم من يعارض هذه العقلية، ولكنه في نظرها صاحب فكر تقليدي يتشبث بظاهر الأمور ولا ينظر في باطنها ولا في روح الإسلام ولا في روح الرسالة المحمدية.

وتقول “في تصوري اقتراح مشروع المساواة في الميراث مسألة مهمة للغاية وإيجابية جدا، ولن نسمح كاتحاد وطني للمرأة التونسية، إذا ما تم اعتماد هذا المقترح وتم إقرار نص قانوني يجيز التوريث والمناصفة في الميراث، بأن نذهب إلى معاقبة من يخالف القانون بل ستترك المسألة اختيارية بين أفراد الأسرة”.

وتشير إلى أن اعتماد هذا القانون لا يشكل عملا يتعارض مع الدين، لأن في تونس هنالك العديد من الأسر التي تقتسم تركاتها بين الأبناء دون تمييز بين الإناث والذكور سواء في حياة المورّث أو بعد وفاته.

وفي ما يخص اقتراح مشروع يقر بزواج التونسية بغير المسلم تقول الجربي “في نهاية المطاف التونسية ممكن أن تكون مسلمة أو غير مسلمة، لماذا نقيد زواجها بغير مسلم ونمنع تسجيلها في سجل الحالة المدنية ونمنع أبناءها من أن يكونوا تونسيين؟ هذا غير منطقي في اعتقادي”.

تونس ترى أن مسألة المساواة في الميراث يمكن النظر فيها وطرحها للنقاش، ولا يوجد موضوع يمنع الحوار أو النقاش فيه

وتشير الجربي إلى العديد من التساؤلات العالقة في ما يهم مسألة زواج التونسية من غير مسلم من بينها: هل يحرمها هذا الزواج من الجنسية التونسية؟ وهل يحرمها من الميراث؟ وهل يحرمها من أن تكون مواطنة تونسية؟ وهل يحرمها من أن تعيش في وطنها؟ وهل يحرمها من أن تكون على حالتها المدنية (إشارة أو ذكر أنها متزوجة من فلان)، ثم إن مسألة العلاقات تظل مسألة شخصية بالأساس.

وترى رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة التونسية أن “لكل تونسية الحق في أن تفعل ما تراه صالحا لها شريطة أن لا تضر بالأمن العام للبلاد، كما لا يجب أن نتدخل في شؤونها الخاصة، فهذا خيار شخصي للغاية. أعتقد أن هذه خطوة مهمة قام بها رئيس الجمهورية وأتمنى أن نتوجه نحو تطبيقها وتحقيقها”.

توقيت اقتراح مشروع المساواة في الميراث وزواج التونسية بغير مسلم غير مناسب سياسيا، لكنه مناسب اجتماعيا من وجهة نظر الجربي التي أشارت إلى أن مقترح المشروع كان جاهزا منذ أكثر من سنة. وهو موضوع قائم على مستوى الإجراءات وأعتقد أن توقيت اقتراحه ممتاز بسبب إقرار التشريعات الأخيرة الخاصة بالعنف ضد النساء التي تزامنت معه.

ولا تستبعد راضية الجربي احتمال توظيف مشروع قانون المساواة وزواج المرأة برجل غير مسلم في سياق حملة انتخابية استباقية قبل الانتخابات البلدية المزمع إجراؤها في شهر ديسمبر المقبل، قائلة “نحن مقبلون على انتخابات بلدية وتشريعية ورئاسية، ومن المؤكد أنها حملة انتخابية، ومن الممكن أن الرئيس الباجي قائد السبسي أراد أن يأخذ موقعا مختلفا عن غيره من رجال السياسة في مسألة المساواة في الميراث يؤكد من خلاله أنه مناصر لحقوق المرأة ويحترم الدستور كما يحرص على تطبيقه”.

وتضيف أن السبسي “أراد أن يلفت النظر إلى أن هنالك حركية كبرى من أجل تنقيح بعض القوانين المعتمدة في تونس منذ العشرات من السنين، فهو بذلك يقوم بدوره كرئيس جمهورية، كما يكشف عن قناعاته في قضايا المرأة خاصة في مستوى المساواة. ولعله أراد أن يقول إنه على علم ودراية بالواقع التونسي، لذلك اقترح الحلول في محاولة منه لتجديد التأييد الشعبي له ولحزبه باعتباره حداثيا تقدميا”.

الرئيس الباجي قائد السبسي أراد أن يأخذ موقعا مختلفا عن غيره من رجال السياسة في مسألة المساواة في الميراث يؤكد من خلاله أنه مناصر لحقوق المرأة ويحترم الدستور

اختبار للتحالف الحاكم

أكدت الجربي أن السبسي ربما أراد أن يحافظ على موقع شركائه في الحكم بسبب الجدل الذي أحدثه الائتلاف الحاكم باعتباره غير متجانس لأنه تحالف بين المنهج الحداثي التقدمي الليبرالي وبين المنهج الديني المحافظ. وهذه التركيبة تبدو غير منسجمة في تونس.

لقد أحدث هذا التحالف قلقا كبيرا في الشارع التونسي ولدى الكثير من السياسيين والمفكرين التونسيين. لذلك وجه الرئيس رسالة طمأنة يقول من خلالها إنه مازال يكرس الشق الإصلاحي ومازال على المنهج البورقيبي في نظرته الإصلاحية.

وردا على أن طرح موضوع المساواة في الميراث بين الجنسين في تونس اليوم يعد وسيلة لإلهاء الشعب والمفكرين التونسيين عن القضايا الهامة المطروحة على الحكومة اليوم خاصة وأن مثل هذا الموضوع مثير للجدل بين مختلف التيارات السياسية والدينية وبين مختلف فئات الشعب التونسي، ما يجعله يستغرق وقتا طويلا، تقول الجربي “ربما تكون هذه الفرضية جائزة لكن أظن أن السبسي أراد أن يقول إنه قادر على الدخول في المسائل التي لم تثر في تونس منذ سنوات، وربما في ما عدل عنه بورقيبة ليبيّن أنه يتزعم الخط الإصلاحي البورقيبي بنفس جرأة الرئيس المؤسس”.

وتعتقد الجربي أن السبسي أراد أن يكشف هذا النهج ويبدد مخاوف المشككين أكثر من رغبته في إلهاء الشعب، فالمسالة موقف سياسي أكثر من كونها وسيلة لغض النظر عن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية في تونس.

وتضيف أنه رغم حكم السبسي مع حزب النهضة إلا أنه بمجرد اقتراب موعد الانتخابات عاد إلى موقعه الأساسي وأراد أن يثبت أنه ضامن للدستور وضامن للحقوق وضامن لحماية المرأة وهو لم يبحث عن استعطاف النساء لأن النساء لا يستعطفن بالميراث بل بتحسين واقعهن وظروفهن وعلاقاتهن الأسرية وإصلاح إجراءات الطلاق والتقاضي وغيرها من الهموم والقضايا النسوية.

ولا تعتقد الجربي أن مشروع قانون المساواة في الميراث سوف يخلق انقسامات في الشارع التونسي والوسط السياسي، بل إنه سوف يكشف من فعلا متشبث بمسألة الحقوق والمساواة وبقيم العدل والعدالة ومن مع حقوق الأفراد وحقوق المرأة. وتقول “إنه اختبار للتحالف الحاكم خاصة للجانب المحافظ منه حيث سيكشف مدى قدرته على تأييد مدنية الدولة ونهجها الحداثي”.

وتخلص الجربي في ختام حوارها مع “العرب” إلى أن “التونسيين لن يقعوا في فخ الانقسام بين إسلاميين وحداثيين ولا في فخ التكفير، بحيث لم نلحظ أن هنالك شيطنة وصلت إلى التكفير بعد اقتراح مشروع القانون”، مشيرة إلى أن “النقاش أجبر السياسيين على عرض مواقفهم بالتساؤل هل أنت مع أو ضد؟ وليس هل أنت كافر أو مسلم؟ أو هل أنت تقدمي أو رجعي؟ وهذا الطرح يكشف ما إذا كانوا بالفعل داعمين لحقوق النساء وللعدالة الاجتماعية وللعدل كإحدى القيم الإلهية”.

آمنة جبران

صحيفة العرب اللندنية