هناك مناطق قليلة في العالم أكثر تعقيدا من البلقان على الصعيدين الثقافي والسياسي. ولتوضيح ماضي وحاضر المنطقة الغني؛ ليس هناك أحسن من إرث أحد أبنائها الاستثنائيين: الفيزيائي والمخترع نيكولا تِسلا.
رغم أنه وُلد لعائلة صربية أرثوذكسية عام 1856 في بلدة أصبحت الآن جزءا من كرواتيا، فإن جنسية تِسلا تظل موضع جدل في المنطقة. كان تِسلا يعتقد أن التقدم العلمي ينبغي أن يُستخدم لبناء الجسور بين البلدان، وذلك لتحقيق السلام العالمي. لكن البعض -في كل من كرواتيا وصربيا– يرغب في الاستيلاء على إرثه بطرق مخالفة للقانون.
وقد أثارت مساهمات تِسلا في مجال الفيزياء الديناميات السياسية المعقدة لوطنه الأم. وفي النظام الدولي للوحدات، يعدّ “تِسلا” قياسا لكثافة تدفق المجال المغناطيسي.
وكما أشارت -قبل بضعة أشهر- الممثلةُ السامية للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية فيديريكا موغيريني، فإنه “يمكن للبلقان أن تصبح بسهولة واحدة من ألواح الشطرنج، حيث يمكن لعب لعبة القوى الكبرى”. والواقع أن المنطقة كانت دائما تقع بين قطبين متنافسين، يرغب كل منهما في إبراز قوته عبر الروابط الاقتصادية والسياسية والتاريخية والثقافية المتداخلة.
“كما تقول الممثلةُ السامية للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية فيديريكا موغيريني، فإنه “يمكن للبلقان أن تصبح بسهولة واحدة من ألواح الشطرنج، حيث يمكن لعب لعبة القوى الكبرى”. والواقع أن المنطقة كانت دائما تقع بين قطبين متنافسين، يرغب كل منهما في إبراز قوته”
وبالنسبة للاتحاد الأوروبي، فإن الحروب التي رافقت تفكك يوغسلافيا في التسعينيات دلت على فشل تام. وبعد وقف العنف، حاول الاتحاد الأوروبي استخدام جاذبيته الخاصة لجمع الأراضي اليوغسلافية السابقة عبر عملية إعادة الإعمار والمصالحة. ولكن هذه الإستراتيجية أسفرت عن نتائج متفاوتة.
ورغم أن بعض البلدان ذات الأغلبية الأرثوذكسية الشرقية (وهي اليونان وبلغاريا ورومانيا) انضمت إلى الاتحاد الأوروبي، فإن البلدان اليوغسلافية التي انضمت إليه لاحقا (كرواتيا وسلوفينيا) هي في الغالب كاثوليكية، وهذا واقع يدل على رواية عكسية.
عندما اعترفت ألمانيا والفاتيكان بكرواتيا وسلوفينيا عاميْ 1991 و1992، فإنهما عززا فكرة العالِم السياسي الراحل صمويل هنتنغتون بشأن “صراع الحضارات”. بالنسبة لهنتنغتون، فإن الحروب اليوغسلافية تناسب نموذجه المبسط، للصراعات بين المسيحية الغربية (الكاثوليكية والبروتستانتية) من جهة، وبقية ديانات أوروبا من جهة أخرى.
طالبت كل من كرواتيا وسلوفينيا بدمج بلدان “البلقان الغربية الست” (ألبانيا والبوسنة والهرسك وكوسوفو ومقدونيا والجبل الأسود وصربيا) في الاتحاد الأوروبي. بيد أن التقدم قد أعيق بسبب النزاعات السياسية الثنائية بين دول البلقان الغربية ودول الاتحاد الأوروبي، على غرار قيام سلوفينيا بالاستفادة من عضوية الاتحاد، مما أعاق انضمام كرواتيا مؤقتا.
وعلاوة على ذلك، فإن الظروف داخل الاتحاد الأوروبي نفسه (الأزمات الاقتصادية وظهور الأحزاب السياسية المعادية للأجانب في السنوات الأخيرة) أوقفت سياسة توسيعه، كما أعلن رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود جونكر عام 2014 أنه لن يقبل أي أعضاء جدد قبل 2019.
وفي الوقت نفسه، فإن القواعد والمؤسسات الديمقراطية في غرب البلقان آخذة في التراجع. أما البلدان الأخرى التي لها تأثير قوي في المنطقة -مثل روسيا وتركيا والمجر التي فشل الاتحاد الأوروبي في منع انجرافها نحو الاستبداد في ظل رئيس الوزراء فيكتور أوربان- فهي تقدم نماذج سياسية بديلة لدول غرب البلقان.
يجب الأخذ بعين الاعتبار العلاقة بين صربيا وروسيا؛ فخلال زيارته لبلغراد 2014، قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إن “روسيا ستبقى دائما -كما كانت في الماضي- تعتبر صربيا أقرب حليف لها”.
وبالإضافة إلى علاقاتها الثقافية الطويلة مع روسيا، فإن صربيا تعتمد على إمدادات الطاقة الروسية، فضلا عن حق النقضالروسي كعضو دائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وطالما ظلت صربيا تتمتع بدعم روسيا، فإنها قد تمنع كوسوفو من الانضمام إلى الأمم المتحدة.
وتفسر هذه العوامل سبب عدم انضمام صربيا إلى الاتحاد الأوروبي وفرض عقوبات على روسيا بعد ضمها شبه جزيرة القرم في مارس/آذار 2014. كما اختارت البوسنة ومقدونيا عدم المشاركة في العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي، بينما شارك فيها أعضاء حلف الناتو (ألبانيا والجبل الأسود).
ومع ذلك، فإن دول البلقان ليست مجرد أدوات تُسحب بشكل سلبي نحو القطبين المغناطيسيين حولها. فصربيا مثلا تجد الإلهام في تراث المارشال جوزيف تيتو، الذي كان رئيسا ليوغسلافيا في فترة الحرب الباردة. وبعيدا عن كونه حليفا مقربا للاتحادالسوفياتي، كان تيتو مؤسسا لحركة عدم الانحياز، وتفوق في الإيقاع بين الولايات المتحدةوالاتحاد السوفياتي.
“القواعد والمؤسسات الديمقراطية في غرب البلقان آخذة في التراجع. أما البلدان الأخرى التي لها تأثير قوي في المنطقة -مثل روسيا وتركيا والمجر التي فشل الاتحاد الأوروبي في منع انجرافها نحو الاستبداد في ظل رئيس الوزراء فيكتور أوربان- فهي تقدم نماذج سياسية بديلة لدول غرب البلقان”
وبالمثل، فإن صربيا اليوم تعتبر دولة محايدة بصفة رسمية. ولكنها تتعاون بشكل وثيق مع حلف الناتو عبر الشراكة من أجل السلام، بينما تستضيف -في الوقت نفسه- تدريبات عسكرية مع الجيش الروسي. وبالمثل، عندما يدعي الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش تأييده القوي للاندماج الأوروبي، فإنه لم يبد أي رغبة في الابتعاد عن روسيا.
وبالإضافة إلى روسيا، عارضت الصين الاعتراف بكوسوفو. ومن خلال “مبادرة الحزام والطريق”، عززت الصين قدراتها الاقتصادية، واستثمرت ملايين الدولارات في مشاريع البنية التحتية في صربيا وأجزاء أخرى من المنطقة. وتتمثل إحدى هذه المبادرات في خط سكك حديدية فائق السرعة بين بلغراد وبودابست، يهدف إلى ربط ميناء بيرايوس اليوناني بأوروبا الوسطى.
وتقوم المفوضية الأوروبية حاليا بالتحقيق في احتمال انتهاك خط بلغراد وبودابست لقواعد المناقصات داخل الاتحاد الأوروبي. ويشير التحقيق إلى اتجاه ضمني: رغم أن الصين لا تؤوي طموحات روسيا التخريبية، فإن أعمالها قد تترك غرب البلقان في تساؤل بشأن حافزه ليقارب النموذج المؤسسي للاتحاد الأوروبي والقواعد المصاحبة له.
ورغم هذه التحديات، فإن الاتحاد الأوروبي يحتفظ بموقف إيجابي تجاه غرب البلقان. وباستثناء كرواتيا، 74٪ من إجمالي تجارة دول البلقان الغربية هي مع الاتحاد الأوروبي، مقابل 6٪ فقط مع الصين و5٪ مع روسيا و4٪ مع تركيا.
وفي هذا السياق، ينبغي ألا يسمح الاتحاد الأوروبي بالتحديات الحالية لإضعاف إستراتيجيته الشاملة للتوسع. وكانت قمة غرب البلقان المنعقدة في يوليو/تموز الماضي خطوة إيجابية، شريطة ألا تغفل البلدان التي لا تزال حريصة على الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي عن ضرورة إجراء إصلاحات كبيرة.
ولا ينبغي التخلي عن توقعات وآمال تِسلا من أجل أوروبا. ويجب منح جميع الأوروبيين فرصة المشاركة في المشروع الأوروبي والاستفادة من إمكانياته التحويلية. وهذا بالضبط ما يريده عدد كبير من سكان البلقان. ولا يمكن لقادة الاتحاد الأوروبي ضمان سهولة وسرعة عملية الانضمام إلى الكتلة، ولكن يمكنهم ضمان نجاح الرحلة.
خافيير سولانا
الجزيرة