يعتبر انقلاب 15 يوليو/ تموز 2016 إحدى المحاولات الانقلابية العسكرية القليلة التي أفشلت في المشرق، منذ أول انقلاب عسكري في المنطقة، الذي قادته جمعية الاتحاد والترقي في 1908. ولكن هذا لا يقلل من أهمية المحاولة، لا من جهة الحكم على مصير الديمقراطيات وقدرتها على الصمود، أو من جهة القراءة التاريخية لديناميات ووسائل تنظيم انقلاب عسكري في جيش كبير وبلد بالغ التعقيد. والمؤكد، بالرغم من حجم الكتابات التي كرست لاستطلاع المحاولة التركية، أن ثمة الكثير من جوانبها لم يزل غامضاً، وربما سيصعب فهمه بصورة يقينية في هذا الجيل. أحد أبرز هذه الجوانب، يتعلق بمدى علاقة الأمريكيين بالانقلابيين الأتراك. وتأتي أهمية هذا السؤال ليس فقط من حقيقة إقامة فتح الله غولن، الذي تشير جملة الأدلة حتى الآن إلى مسؤولية جماعته عن المحاولة الانقلابية، في الولايات المتحدة منذ نهاية التسعينات، ولكن أيضاً، من العلاقة الوثيقة بين العسكريين الأتراك والأمريكيين، من جميع أفرع وأسلحة الجيشين.
ما أثار اهتمام الأتراك، في البداية، حول صلة أمريكية ما بالانقلابيين، كان سجل هاتف عادل أوكزوس، أستاذ الثيولوجيا في جامعة سكاريا، أحد الغولانيين البارزين، والذي يوصف بإمام القوات الجوية، أي مرشد الشبكة السرية لجماعة غولن في سلاح الجو التركي. كان أوكزوس أحد المدنيين القلائل الذين تواجدوا في قاعدة أوكنجي الجوية، قرب العاصمة أنقرة، التي اتخذت مقراً قيادياً للمحاولة الانقلابية. وقد قبض عليه في الحقول المحيطة بالقاعدة صباح يوم 16 يوليو/ تموز، بعد ساعات من فشل الانقلاب. ولكن قاضي التوقيف، الذي عرض عليه أوكزوس، قبل ادعائه بأنه جاء من سكاريا إلى ريف أنقرة للبحث عن قطعة أرض يشتريها، وأفرج عنه. قبض على القاضي، بعد ذلك، بتهمة الانتماء لشبكة تنظيم غولن، أما أوكزوس، فاختفى، ولم تنجح السلطات التركية في القبض عليه إلى اليوم. المثير، أن أوكزوس، وقبل تخلصه من هاتفه، استلم اتصالاً من موظف بالسفارة الأمريكية. أكدت مصادر السفارة الأمريكية حقيقة الاتصال، وقالت إنه تعلق بقرار إلغاء فيزا كان أوكزوس حصل عليها مسبقاً لزيارة الولايات المتحدة، بعد أن قررت السلطات الأمريكية إلغاء جميع التأشيرات التي منحت للمشتبه بهم في المحاولة الانقلابية. المهم، وبالرغم من أن الرواية الأمريكية تبدو مقنعة، فإن السفارة في أنقرة لم تقم حتى الآن بالإفراج عن سجل المكالمة مع أوكزوس.
بيد أن هذا ليس كل شيء، لأن ثمة خيطاً آخر للعلاقة بين الانقلابيين والأمريكيين، سجل في قاعدة إنجرليك الجوية. تواجد الانقلابيون في سلاح الجو، أو تمتعوا بسيطرة كاملة أو جزئية، في قواعد أكنجي (المركز القيادي للانقلاب)، إركيليت بالقرب من قيصرية، إنجرليك بالقرب من أضنة، كما في قواعد بيلكسير، ودينزلي ـ شارداك. من حيث حجمها، تعتبر قاعد إنجرليك الجوية أقرب إلى مدينة صغيرة، وتضم مقرات لسلاحي الجو التركي والأمريكي، وأي قوات جو من دول الناتو الأخرى، التي يسمح لها باستخدام القاعدة في أوقات محددة. كما إنها مركز تنسيق عملياتي بين الأتراك والأمريكيين، ودول الناتو الحليفة. وبالنظر إلى وجود الأمريكيين القديم في إنجرليك، لم يكن غريباً أن تصبح القاعدة مجالاً للتعارف وبناء علاقات شخصية، أحياناً، بين الضباط الأتراك ونظرائهم الأمريكيين.
في اعترافاته للنيابة، قال ضابط الصف محمد إمرى كوزو، السائق والحارس الخاص للجنرال بكير إرجان فان، قائد قاعدة إنجرليك، أنه نقل الجنرال فان إلى المبنى الخاص بالأمريكيين في القاعدة حوالي الثامنة صباح يوم 16 يوليو/ تموز، أي بعد أن تيقن الجنرال من فشل المحاولة الانقلابية. ذهب الجنرال فان داخل البناية، والتحق به بعد ذلك الكولونيل ركن، إرهان قاضي أوغلو، قائد العمليات في القاعدة، بينما انتظر السائق في السيارة زهاء نصف الساعة. بعد خروج الضابطين، عادا معاً إلى مقر القيادة التركي في القاعدة، ليتم القبض عليهما بعد قليل بتهمة المشاركة في الانقلاب. ما ذكره الجنرال فان للمحققين أنه ذهب للمقر الأمريكي ليبحث مع الكولونيل جون والتر، أعلى ضابط أمريكي رتبة في القاعدة، بعض المسائل المتعلقة بعمليات مشتركة. ما أفادت به نيويورك تايمز، 17 يوليو/ تموز 2016، أن الجنرال فان تقدم بطلب للجوء السياسي في الولايات المتحدة، ولكن طلبه رفض.
مرة أخرى، لم يتحدث الكولونيل والتر للمحققين الأتراك، وليس للأخيرين سلطة استدعاء الضابط الأمريكي للتحقيق. ولكن رواية نيويورك تايمز تبدو معقولة إلى حد كبير. فليس من المستبعد أن يكون الجنرال فان، وقائد عملياته، قد خطر له محاولة اللجوء السياسي للولايات المتحدة، بعد تيقنه من فشل المحاولة الانقلابية، سيما أن علاقات شخصية ربطت بينه والكولونيل والتر، بعد عملهما معاً في القاعدة الجوية ذاتها لفترة طويلة نسبياً. وليس من المستبعد أن والتر استشار رؤساءه في وشنطن، الذين أمروه برفض طلب اللجوء والنأي بنفسه عن زملائه الأتراك المتورطين في المحاولة الانقلابية. بيد أن أمراً آخر يدعو إلى مزيد من الشك في العلاقة بين الجنرال فان والكولونيل والتر في تلك الليلة الحاسمة.
تواجد في قاعدة أنجرليك ليلة الانقلاب، أيضاً، الكولونيل ركن خليل إبراهيم أوزدمير، قائد سرب 152 الجوي، الذي كان ألحق بالقوة الجوية في القاعدة بصورة مؤقتة قبل ذلك. يقول أوزدمير في إفادته للمحققين، طبقاً لصحافي حرييت، سعدات إرغين، أحد القلائل في تركيا ممن يتابعون التفاصيل الصغيرة للمحاولة الانقلابية، أنه تلقى الأمر من مركز التحكم الجوي الأعلى في إسكي شهر، الذي بقي موالياً للدستور والحكومة، في الخامسة فجراً، بإطلاق عدد من طائرات إف 16 التابعة لسرب 152 في إنجرليك لمواجهة الطائرات التابعة للانقلابيين، التي كانت لم تزل تحلق في سماء أنقرة واسطنبول، وإخماد نشاطاتها. وما إن صعد الطيارون الموالون إلى طائراتهم، حتى توجه الجنرال فان، قائد القاعدة إلى الكولونيل أوزدمير، وقادة طائرات أف 16 التي كانت تستعد للمغادرة، في محاولة لإقناعهم بعدم تعهد مواجهة مع زملائهم الطياريين الانقلابيين.
وصل الجنرال فان إلى مقر الكولونيل أوزدمير، وطلب منه الالتحاق به في سيارته. يقول اوزدمير أنه وجد مع الجنرال فان ضابطاً أمريكياً كبيراً، يعتقد أنه الكولونيل جون والتر، وأن الجميع اتجهوا إلى حيث طائرة أف 16 التي كانت في طريقها للإقلاع. توقف الجنرال فان إلى جانب الطائرة ووجه حديثه إلى قائدها، الملازم أورهان هارمان، قائلاً: «لماذا تقلع الآن، إلى أين أنت ذاهب، ولأي هدف؟ هل ستقوم بإطلاق النار على أصدقائك (من الطياريين الآخرين)؟» ما تقوله هذه الإفادة، إن صح تقدير الكولونيل أوزدمير لهوية الضابط الأمريكي المرافق للجنرال فان، أن ثمة صلة وجدت بين العسكريين الانقلابيين الأتراك ونظرائهم الأمريكيين منذ الخامسة فجراً، على الأقل، بغض النظر عن هوية الضابط الأمريكي وما إن كان هو جون والتر أو أي ضابط أمريكي آخر. هذه الصلة تسبق لقاء الجنرال فان بالكولونيل جون والتر في الثامنة صباحاً، الذي تقول المصادر الأمريكية إنه تعلق بطلب فان اللجوء العسكري للولايات المتحدة. كما أن هذه الصلة وثقت، في الحقيقة، أثناء العملية الانقلابية.
بشير موسى نافع
صحيفة القدس العربي