كل الاوقات ملائمة لاستقلال الشعوب. وكل الاوقات ملائمة لاستفتاء الشعوب حول كل قضية تخصها. وكل الاوقات غير ملائمة لاحتلال أي شعب لارض أي شعب آخر واخضاعه لاستعماره. وكل الاوقات غير ملائمة لاستفتاء أي شعب حول حقوق أي شعب آخر، كما تلمح وتخطط وتسعى حكومة اسرائيل لفرض ضرورة استفتاء الاسرائيليين حول ارض الفلسطينيين وحقوقهم، وحول مستقبل هضبة الجولان السورية التي تحتلها اسرائيل.
حقوق جميع الأمم والشعوب والدول معروفة، وهي حقوق طبيعية ازلية، لا تحول ولا تزول، وعندما يحصل أي خلاف حول هذه الحقوق بين أي شعبين او دولتين، فإن الْبَتَّ في الخلاف معقود للنظام الدولي السائد في حينه، وهو في زماننا الراهن، نظام الشرعية الدولية، ممثلة بميثاق وقرارات هيئة الأمم المتحدة، وريثة «عصبة الأمم» التي افرزتها نتائج الحرب العالمية الاولى، بمبادرة ودعوة من الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون، صاحب وثيقة النقاط العشر،واهمها: «حق جميع الشعوب (دون استثناء) في تقرير مصيرها بنفسها». وعندما تتناقض قرارات الشرعية الدولية مع «الحق الطبيعي» في الحرية والاستقلال لأي شعب، ينشب الصراع الذي يمكن له ان يبدأ بـ«حرب عصابات» و»عمل فدائي»، (تقره الشرعية الدولية)، ويمكن له ان يتطور إلى حرب قد تنتشر وتتسع، إلى درجة استحقاقها اسم حربا عالمية.
هكذا هو الحال المتفجر في اقليم كردستان العراق، وهكذا هو الحال المزمن في فلسطين.
تتبارى هذه الايام دول عظمى ودول قوية ودول متوسطة، بل ودول مارقة، اضافة إلى منظمات دولية واقليمية، يقتصر دورها وتخصصها، (مثل تنظيمات وفصائل فلسطينية)، باصدار بيانات وتعميم نصائح، تتضمن مناشدة قادة اقليم كردستان العراق، تأجيل الاستفتاء على استقلال الاقليم، (رغم الاعلان المسبق لهؤلاء انه «استفتاء غير ملزِم)، بحجة ان «الوقت غير ملائم».
الا يحق لابناء وقادة الشعب الكردي في اقليم كردستان العراق وفي سوريا إيران وتركيا، ان يسألوا هؤلاء «الناصحين»:
ـ متى يكون الوقت ملائما للاستقلال، ولإجراء الإستفتاء عليه؟.
ـ ألم نمُرّ، على مدى قرن من الزمان حتى الآن، هو عمر اتفاقية سايكس بيكو، التي وزعت ابناء الأُمة والشعب الكردي الواحد على اربعة كيانات سياسية، خاضت فيما بينها حروبا عديدة، كان ابناء الشعب الكردي خلالها موزعين على جبهتي القتال، يقاتِلون ويقتَلون بعضهم بعضا، في حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل، بـ»وقت ملائم»؟.
صحيح ان المنطقة كاملة، حتى وجوارها وبعض البعيدين ايضا، تمر في مرحلة صراعات دموية محزنة، لكن هذا ليس مبررا لتأخير استقلال أي شعب كان، والاكراد والفلسطينيين اولا، ولو لساعة واحدة فقط. هذا حق طبيعي لهما. وبعد انجازه على ارض الواقع، يصبح من الطبيعي ان يطالِبوا، وان يطالَبوا، بالمساهمة في الحرب على الإرهاب وعلى كل ظلم وخلل في المنطقة، وغيرها، سعيا إلى عالم يسوده السلام والاستقرار.
لمن فاتته تفاصيل هذه القضية، او نسي بعضها او كلها، يمكن التذكير بحقائق لا بد من معرفة دقائقها لتتوضح الصورة. اولى هذه الحقائق ان التوجه الجدي لاستقلال الاقليم اصبح بحكم الامر المتوقع في «مستقبل منظور»، منذ غزو العراق للكويت، وما آلت اليه مغامرة الزعيم والرئيس العراقي الاسبق، صدام حسين، في مطلع العقد الاخير من القرن الماضي، وظل الوضع يتطور باتجاه الاستقلال، إلى ان تشكك البرلمان الكردستاني، وتمكن من بدء تسيير اموره بقرارات ذاتية، واقر الستور العراقي الجديد للعام 2005، اعتبار ان الاقليم يرتبط بالعراق بعلاقات فيديرالية. وكان من المتوقع اجراء الاستفتاء الذي نحن بصدده، صيف العام الماضي، وكانت الاحداث، من دموية وغير دموية، لكنها فرضت ظلالها الثقيلة على مجمل الاحوال في الاقليم وفي العراق وفي محيطهما ايضا، تحول دون ذلك.
في السابع من حزيران/يونيو الماضي، دعا رئيس اقليم كردستان العراق، مسعود البارزاني، إلى اجتماع في العاصمة، اربيل، حضره الحزب الديمقراطي الكردستاني، (الذي يرأسه البارزاني)، والاتحاد الوطني الكردستاني، (الذي يرأسه جلال طالباني)، وهما التنظيمان السياسيان الكرديان الاكبر، اضافة إلى الغالبية الساحقة من التنظيمات الكردية الأخرى قي الاقليم وخارجه في العراق، [اقليم كردستان العراق يتكون من ثلاث محافظات، هي: اربيل، السليمانية ودهوك، ومناطق اخرى متنازع عليها، اهمها كركوك]، كما حضر الاجتماع: قائمة اربيل التركمانية، الجبهة التركمانية العراقية، حزب التنمية التركمانية، قائمة الأرمن في برلمان كردستان، الحركة الديمقراطية الآشورية والمجلس الشعبي الكلداني السرياني الآشوري، وصدر عن هذا الاجتماع قرار اجراء الاستفتاء (غير المُلزِم) على الاستقلال، وقرر المؤتمرون ان يكون الاستفتاء متاحا بثلاث لغات اخرى غير الكردية، هي العربية، السريانية والتركمانية، وان تكون صيغة سؤال الاستفتاء: «هل تريد ان يصبح اقليم كردستان والمناطق الكردية التي هي خارج الاقليم كدولة مستقلة؟».
أمران مقلقان في تعاطي الحكومة العراقية في بغداد والدول المحيطة باقليم كردستان العراق، مع ملف الاستفتاء الكردي على استقلال اقليمهم، وفي تعاطي وطنيين وقوميين عرب مع هذا الملف:
الامر الاول هو تحركات وتلميحات وايحاءات وصل بعضها حد التهديد المبطن او السافر بعمل عسكري مباشر ضد الاقليم وسكانه وقادته. فمسلسل زيارات عسكريين إلى اربيل، عاصمة اقليم كردستان العراق، وليس وزراء خارجية او تعاون دولي او وسطاء مدنيين مثلا؛ ونشر انباء عن استعداد هذا الطرف او ذاك لشن هجوم عسكري على مناطق الاستفتاء؛ وتكذيب «مُمِغمغ» لهذه التسريبات؛ وتحشيد معلن لقوات عسكرية على حدود الإقليم؛ كلها احداث وتطورات مثيرة لقلق مشروع. ويمكن تسجيل بعض هذه الاحداث والتحركات والتسريبات على النحو التالي:
ـ زيارة رئيس هيئة الاركان المشتركة الإيراني، محمد حسين باقر، للعاصمة التركية انقرة، منتصف الشهر الماضي لبحث موضوع استفتاءاستقلال اقليم كردستان العراق، وانعكاس ذلك على الاقليات الكردية الكبيرة جدا في البلدين (وخاصة في تركيا).
ـ تزامن هذه الزيارة مع تسريب انباء من إيران عن تحشيد قوات إيرانية في مناطق تتواجد فيها عناصر من تنظيم سياسي كردي إيراني، هو تنظيم «الحياة الحرة في كردستان»، وهو ما يعتبره كثيرون الفرع الإيراني لحزب العمال الكردي في تركيا، المعروف باسمه: بي كي كي، والذي اسسه عبدالله اوجلان، الأمر الذي يوحي باحتمال تنسيق عملية عسكرية تركية- إيرانية، ضد الاهداف الكردية، برغم كل الخلافات الهائلة بين البلدين حول الغالبية العظمى من شؤون المنطقة،وتكاد لا تلتقي الا عند نقطة توافق البلدين والقوميتين العثمانية التركية والفارسية الإيرانية محاربة تحرر ابناء الامة الكردية، وربما نقطة تمكين الدول العربية من استقرار دولها واستفادة شعوبها من خيراتها.
ـ رافق ذلك ايضا تسريب انباء من إيران، ان الحكومة العراقية «تخطط لهجوم عسكري على اربيل»، وهذا ما سارعت حكومة بغداد إلى نفيه.
قبل ان نصل إلى الامر المقلق الثاني في هذا الملف، يجدر بنا التذكير بحرص إيران، (واسرائيل ايضا)، ان سبب انزعاج إيران من موضوع الإستفتاء، وربما لاحقا»، إستقلال اقليم كردستان العراق، ليس نابعا من هذا التطور بحد ذاته فقط، وانما يعود ايضا إلى علاقة اسرائيل بكردستان.
هنا نصل إلى بيت القصيد الأخير: وهو ادعاء كثيرين من الوطنيين والقوميين العرب، ان موقفهم السلبي، بل والمعادي لاستقلال اقليم كردستان العراق، يعود إلى «خيانة» بعض القيادات الكردية، وقبولها نسج تحالف سري، (او كان سريا على الاقل)، بين الحركة الصهيونية قبل قيام اسرائيل، ثم مع اسرائيل لاحقا.
يتناسى هؤلاء، وغالبيتهم بحسن نية، ان ما لقيه الاكراد من ظلم واجحاف بحقوقهم من قبل قيادات عربية في العراق وسوريا، على مدى عشرات العقود، هو المسؤول الأول والأخير عن هذا التحالف المرفوض، وجدير بهم ان يتمعنوا بمقولة تشرشل الشهيرة، بانه مستعد للتحالف مع الشيطان في مواجهة هتلر والنازية.
اخيرا، ان تصرفا عربيا حكيما مع الاكراد، وحقهم في التحرر والاستقلال، هو مفتاح اقامة تحالف عربي كردي مثمر ومستمر، وهو مفتاح اقفال باب التحالف الاسرائيلي الكردي. لا يمكن للمرء ان يكون صادقا وعادلا في تأييده لتحرر الشعب الفلسطيني واستقلاله، وان يكون في الوقت ذاته رافضا ومعاديا لتحرر الأكراد واستقلالهم.
عماد شقور
صحيفة القدس العربي