استيقظ العالم، صبيحة يوم بارد، على مشهد أمواج البحر المتوسط المختلطة بدماء عشرين مصريا ذبحهم تنظيم الدولة في ليبيا في الخامس من فبراير 2015، وسمع الملايين، عبر وسائل الاتصال والإعلام المختلفة، الإرهابي قائد فصيل الذبح، وهو يهدد ويتوعد بأنه وزملاءه قد أصبحوا على مرمى حجر من جنوب أوروبا، وأنهم سيحققون وعدا عمره أربعة عشر قرنا من الزمان بعبور المتوسط متجهين شمالا من أجل فتح –يزعم- أن الله قد وعدهم به.
لم يعد تنظيم “الدولة الإسلامية” خطرا بعيدا يهدد مصالح أوروبا الاستراتيجية في الشام والعراق، بل أصبح خطرا محققا على بعد بضعة مئات من الأميال في شمال إفريقيا. فهل يؤدي هذا التهديد الصريح والخطر المحدق إلى إعادة إطلاق مبادرات التعاون بين شمال وجنوب المتوسط، والتي كثيرا ما ركزت على الأبعاد الاقتصادية والثقافية دون تفعيل حقيقي للبنود الأمنية والسياسية؟، وهل يفتح مشهد أمواج المتوسط المختلطة بالدماء البريئة آفاق التعاون بين الشمال المترقب والجنوب المضطرب، أم تظل أوروبا على اعتقادها بأن جل علاقتها بالربيع العربي وتوابعه هى الأمور الاستراتيجية والاقتصادية البعيدة، وليس الأخطار الآنية المحدقة؟.
البنود الأمنية في الاتفاقات الأورومتوسطية
كانت الأجواء في الشرق الأوسط متسمة بتفاؤل كبير بفعل التقدم في مسارات عملية السلام بين العرب وإسرائيل في بداية تسعينيات القرن الماضي. وبحلول عام 1994، كانت إسرائيل قد وقعت اتفاق أوسلو مع الفلسطينيين، وكذلك اتفاق وادي عربة مع الأردن. وبدأت أطروحات جديدة في الظهور على السطح لدمج المنطقة في تعاون يجمع بين دول إقليم البحر المتوسط لاستغلال التقارب اللوجيستي، والميراث الحضاري، والواقع السياسي المبشر من أجل تأسيس تحالف أوروبي- عربي يرحب أيضا بإسرائيل وتركيا، ويجمع فرقاء القرن العشرين الأشهر في اتفاقية تعاون يقدمون من خلالها للعالم مثلا يحتذى ويحترم.
إلا أن تداعيات الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والتوترات على الجبهة اللبنانية، والاعتداءات الإسرائيلية السافرة على أراضي الجوار العربي لم تمهل هذه المشروعات المأمولة سوى بضع سنوات قصار؛ عادت بها المنطقة إلى المربع صفر دون تحقيق تعاون مثمر، أو حقيقي بين أي من أطراف النزاع الدامي.
ويظل إعلان برشلونة في 1994، ثم إطلاق عملية برشلونة في نوفمبر 1995 حجر الزاوية المرجعي الذي يعود إليه الأطراف المشاطئة للمتوسط، إن هم رغبوا في التعاون، وتنسيق الجهود مع بعضهم بعضا. وتضمن الإعلان الذي وقعته حكومات الدول المتوسطية تحقيق ثلاث مجموعات من الأهداف: سياسية أمنية، واقتصادية مالية، وأخيرا أهداف اجتماعية- ثقافية- إنسانية. ويجمع المحللون على أن الأولوية كانت – على مدى العقدين المنصرمين – لتنفيذ بنود المجموعة الثانية، من خلال حزمة من الاتفاقات والشراكات الاقتصادية والمالية، يليها نجاحات محدودة على مستوى المجموعة الثالثة، والتي قامت على مشروعات ثقافية.
ويتفق معظمهم أيضا على أن هذه الاتفاقات والتفاهمات الاقتصادية والمالية اتسمت باستغلال أوروبي أو- على الأقل- قدمت لأوروبا منافع أكبر، مقارنة بما قدمته للجنوب والشرق دون أن تحقق أي خطوات حقيقية على مسار التنمية المأمول. أما المجموعة الأولى من الأهداف – في الترتيب وليس التطبيق- فلم يحقق بشأنها أي نجاح يذكر، بل كثيرا ما تسبب طرح موضوعاتها وتفاصيلها في إنهاء اجتماعات، أو نشوب توترات دبلوماسية كبرى بين الدول الموقعة.
وبالنظر إلى تفاصيل المجموعة الأولى التي قامت على سبل ترسيخ التعاون السياسي والأمني بين دول المتوسط، نجد أن نص الإعلان يذكر ما يأتي:”إن الموقعين على الإعلان سيعملون على تدعيم التعاون بين بعضهم بعضا من أجل منع ومكافحة الإرهاب؛ تحديدا من خلال المصادقة والتنفيذ الفعلي للاتفاقات وآليات العمل الدولية التي وقعت عليها الدول الأعضاء مسبقا، وكذلك من خلال اتخاذ إجراءات جديدة يتفق عليها الدول الأعضاء من أجل محاربة الإرهاب بصورة أكثر فاعلية.”
ومن الملاحظ هنا أن الإرهاب قد ذكر كبند واحد أخير ضمن بنود عدة فيما يخص الشراكة السياسية والأمنية؛ حيث سبقته مواد تتعلق بتحقيق الديمقراطية، والتعددية السياسية، والالتزام بمعايير واتفاقات حقوق الإنسان، والحد من الممارسات العنصرية والتمييز ضد الأقليات، واتباع المعايير العالمية فيما يخص النظام القضائي والعدلي، والالتزام بمبادئ ومواد القانون الدولي فيما يخص النزاعات بين الدول الأعضاء، وكذلك الحد من التسلح، خاصة الأسلحة النووية، والكيميائية، والبيولوجية.
كما أن الإعلان لم يطرح مبادرة خاصة بالمتوسط لمكافحة الإرهاب، وإنما أكد ضرورة تنفيذ الاتفاقات الدولية والإقليمية السابقة واللاحقة، والعمل في إطارها على تنسيق الجهود، ومحاصرة الإرهاب، وهو ترتيب غير مفاجئ، ويتسق بشكل عام مع المنظور العالمي لقضية الإرهاب قبل أحداث سبتمبر 2001؛ والتي كثيرا ما رأت أن الحركات العنيفة المسلحة –خاصة الإسلامية- هي نتاج نزاعات داخلية في الدول العربية والإسلامية، وليست خطرا عالميا، أو إقليميا، يتطلب حراكا إقليميا أو دوليا لمكافحته.
لكن الملاحظ في الإعلان أنه عاد ليذكر خطر الإرهاب في مناقشة المجموعة الثالثة من الأهداف – الاجتماعية الثقافية- حيث ألحق الإرهاب بالحديث عن الهجرة غير الشرعية من الجنوب باتجاه الشمال. ونص الإعلان على أن الإتجار في البشر، والمخدرات، والجريمة المنظمة، وكذلك الإرهاب هي من أهم النتائج المترتبة على عدم تعاون الجنوب مع الشمال في الحد من الهجرة غير الشرعية.
أي أن صياغة الإعلان قد أولت اهتماما أكبر للإرهاب، بحسبانه خطرا محتملا مرتبطا بتدفق الهجرة غير الشرعية، يفوق الاهتمام بكونه مجالا للتنسيق السياسي والأمني. فتصبح ظاهرة الهجرة غير الشرعية بمنزلة الحالة الوحيدة التي تستوجب التعاون بين الشمال والجنوب في جمع المعلومات وتبادلها، والتنسيق بين الأجهزة الأمنية على شواطئ المتوسط .
إذن، فالإرهاب -الذي كانت دول الجنوب تعانيه بالفعل وقت صياغة الإعلان في منتصف التسعينيات- هو شأن داخلي يخص تلك الدول وحدها، ولا يرقي هذا الخطر لتهديد أوروبا إلا من خلال المهاجرين الذين قد يأتون إلى شواطئها محملين بأفكار هدامة أو خطط عنيفة. وفي كلتا الحالتين، يقع العبء الأكبر على دول الجنوب في مكافحة الإرهابيين، سواء أكانوا فاعلين على أراضيها، أم كمهاجرين محتملين نحو الشمال.
وبعد مرور عشر سنوات، أعادت الدول المتوسطية بقيادة فرنسية- مصرية إطلاق مبادرة التعاون الأورو متوسطي تحت عنوان “عملية برشلونة: اتحاد من أجل المتوسط” في ظل استفحال خطر الإرهاب، وتداعيات أحداث سبتمبر، واحتلال العراق، والتطورات الدامية في الأراضي الفلسطينية. وشهدت قمة باريس في يوليو 2008 تبني المبادرة لتوجه براجماتي شامل أقر صعوبة بل واستحالة القيام بمشروعات متعددة الأطراف، أو صياغة مجموعة من الأهداف الجماعية التي ترضي الفرقاء المتوسطيين.
وقرر المجتمعون أن يكون التعاون الأورومتوسطي تعاونا نوعيا يعتمد على صياغة مشروعات محدودة مرحلية في أمور مثل الطاقة المتجددة، والتنسيق اللوجيستي، والتعليم الإلكتروني وغيرها. أما فيما يخص التعاون السياسي والأمني، فقد أدرك المجتمعون أن مناخ الأمل الذي ساد التسعينيات لم يعد مطروحا، فقرر المجتمعون تأكيد مبادئ عامة مثل حق تقرير المصير، والاحترام المتبادل بين شعوب المتوسط .
وحدد الإطلاق الجديد للمبادرة ستة نطاقات تعاون رئيسية، هي: تنمية المشروعات والأعمال، والمواصلات والتنمية الحضرية، والطاقة، وقضايا المياه والبيئة، والتعليم العالي والبحث العلمي، وأخيرا التعاون الاجتماعي والمدني. ولم تشر البيانات التأسيسية، ولا نطاقات المشروعات الرئيسة لموضوع الإرهاب من قريب أو من بعيد. وظل موضوع الهجرة غير الشرعية هاجسا شماليا، وعجزا جنوبيا يؤدي لتبادل الاتهامات دون حل أو معالجة.
ويرى المهتمون بتاريخ المبادرة وتطورها أن التوتر المصاحب لتصاعد اتهامات الإسلاموفوبيا الأوروبية، والنظرة الشمالية الدونية إلى شعوب شرق وجنوب المتوسط، ذات الأغلبية المسلمة، جعلا موضوع الإرهاب أمرا حساسا يمكن تفسيره بأنه يحمل اتهامات لدول الجنوب، وهو ما أدى إلى تجنب الخوض فيه، والاكتفاء بتأكيد مبدأ عام، هو ضرورة تبادل المعلومات، والتنسيق الأمني بين الشمال والجنوب بما يضمن حماية وأمن الإقليم وسكانه.
كما أن تعريف الإرهاب، في ظل التوترات العربية- الإسرائيلية، والخلط بين محددات ما هو إرهاب، أو مقاومة مشروعة ضد محتل، قد جعل من قضية تعريف العنف السياسي بشكل عام أمرا غير ممكن بين الأطراف المتوسطية التي كانت –ولا تزال- تبحث عن نقاط اتفاق، لا اختلاف.
عواصف الربيع العربي وأثرها على شمال المتوسط
جاءت التطورات المتلاحقة في شمال إفريقيا (جنوب المتوسط) في كل من مصر، وليبيا، وتونس، منذ عام 2011، وكذلك في شرق المتوسط، تحديدا في سوريا، لتلقي بظلال جديدة، ومسئوليات أكبر على الشركاء الشماليين. وبعيدا عن المجالات الاقتصادية، تأتي الأشباح الرئيسية التي تسيطر على نظرة الشمال إلى الجنوب لتلقي بظلها الخانق على شواطئ المتوسط، متمثلة في الهجرة، وتهريب الأسلحة، والمخدرات، والانفلات الأمني، وكذلك الإرهاب.
فزوارق المهاجرين التي تتدفق من تونس وليبيا باتجاه الموانئ الأوروبية -وأشهرها ميناء لامبيدوزا الايطالي الأقرب إلى الساحل الأفريقي- تطرح سؤالا صعبا حول مسئولية أوروبا الإنسانية في استيعاب المهاجرين الذين أصبحوا في حكم اللاجئين المحتاجين إلى جهود الإغاثة، والخوف من تسلل العناصر الإرهابية بين صفوف هؤلاء. وجدير بالذكر أن تحلل بنية الأنظمة الأمنية بالجنوب قد سبب استحالة في تبادل المعلومات بشأن العناصر الخطرة. كما أن طبيعة حالة اللجوء، والالتزام الإنساني المتوقع من الدول الأوروبية تجاه من تضرروا بفعل المد “الديمقراطي” الذي بشرت به أوروبا، ووضعته على رأس أولوياتها في التعاون مع جيرانها، قد جعلت أي تصرف من شأنه محاولة التثبت من شخصية أو اتجاهات المهاجرين/اللاجئين أمرا مستحيلا عمليا بالإضافة إلى كونه غير لائق إنسانيا.
وليست أوروبا وحدها من تشكو من تسلل المتطرفين ضمن موجات اللجوء، فقد تكررت هذه الشكوى على ألسنة مسئولين في الأردن وغيره من الدول التي تستضيف المتضررين من الصراع الدامي في سوريا. إلا أن تنظيم الدولة، على وجه الخصوص، قد أتى بظاهرة جديدة، ألا وهي تدفق المقاتلين الأجانب في موجة من التنقل العكسي من أوروبا والغرب بشكل عام للانضمام إلى صفوف “داعش” في سوريا، والعراق، وليبيا. وتواترت الأنباء عن عناصر شديدة الخطورة استغلت معابر متوسطية للانتقال إلى تنظيم الدولة، ومن أشهر هؤلاء حياة بومدين، الفرنسية، جزائرية الأصل، والتي شاركت في هجمات يناير الدامية في العاصمة الفرنسية، ثم انتقلت عبر تركيا لتلتحق بالتنظيم. وأعلنت بريطانيا أن ثلاثا من الفتيات القصر البريطانيات قد غادرن أراضيها من أجل الانضمام إلى التنظيم عبر المسار نفسه.
تأتي المفارقة هنا متمثلة في شكوى دول الشرق والجنوب هذه المرة من أن أوروبا لا تبذل مجهودا كافيا للتحقق من المسارات التي يتخذها مواطنوها، وتتركهم دون محاسبة أو منع لينضموا إلى التنظيم الذي أصبح خطرا واقعا على الجنوب، وتهديدا حقيقيا ضد الشمال. وتقدم عشرات المراكز البحثية والتقارير المخابراتية المهتمة بالموضوع إحصاءات وتقارير تفيد بأن أعداد الأجانب المنضمين إلى التنظيم في تزايد مستمر.
نظرة إلى المستقبل.. هل من آلية متوسطية موحدة لمحاربة الإرهاب؟
إن التطورات المتلاحقة على الساحتين الليبية والسورية، والتهديد المباشر لأوروبا عبر المتوسط قد جعلا حكومات شمال المتوسط تعيد التفكير في حجم الخطر الذي يمثله الإرهاب المستشري في الجنوب. وأعلنت دول مثل إسبانيا أن أراضيها في الشمال الإفريقي في مدينتي سبتة ومليلة قد أصبحت مصدرا للإرهابيين، بعد أن كانت دوما مصدرا للمهاجرين الأفارقة الفقراء. كما أعربت كل من فرنسا وايطاليا عن تأييدهما للقصف المصري الجوي لمواقع “داعش” في ليبيا، حيث لم تنتظر الحكومات الأوروبية رد الفعل الأمريكي، أو حسابات المصالح المؤجلة، بل عبرت مباشرة عن قلق بالغ مما يحدث على بعد بضع مئات من الأميال إلى الجنوب من حدودها.
هل تكون التهديدات القادمة من الشمال الإفريقي سببا في دفع التعاون من أجل مكافحة الإرهاب إلى مقدمة مصفوفة المشروعات والمجالات التي يحتاج شاطئا المتوسط إلى التعاون لحلها؟، هل يمكن توقع بداية تأسيس آلية متوسطية لتدارك الخطر المحدق الذي تمثله التنظيمات المتطرفة على السواحل المتوسطية الجنوبية، بحيث نشهد تنسيقا أمنيا عسكريا لا يتوقف عند حد تبادل المعلومات، بل يتخطى ذلك إلى أن يصل- ربما- إلى طلعات عسكرية جوية أو برية مشتركة لدحر خطر لم يعد متوقعا، بل واقعيا وحقيقيا؟.
إن الإجابة على هذا التساؤل تكمن في تحليل مواقف اللاعبين الرئيسيين الذين وقعوا يوما اتفاقات فضفاضة لم تفسح المجال سوى لإشارات عامة عن خطر ظنوا أنه يخص الجنوب وحده.حيث إنه بعد مرور أكثر من عشرين عاما على توقيع إعلان برشلونة، تغيرت العديد من الوجوه على الساحة المتوسطية. ولأن الشمال قد حافظ على طابعه المؤسسي الديمقراطي العريق، سنجد أن معظم التغيرات التي طرأت على سياساته ارتبطت بالتزايد في حجم خطر الإرهاب، واقترابه من أوروبا، وبالتالي تقدير المواقف وتعديلها، بناء على التغيرات على الأرض، واقتراب المجموعات الإرهابية من القلب الأوروبي. أما في شرق وجنوب المتوسط، فقد عصفت التغيرات السياسية بالقيادات التي وقعت إعلان برشلونة لتأتي بوجوه جديدة تسعى لتطبيق أجندتها الخاصة التي ترتبط بعوامل داخلية.
فتركيا اليوم، التي يقودها أردوغان، تختلف اختلافا كبيرا عن تركيا سليمان ديميريل، وتانسو تشيلر في منتصف التسعينيات، حيث إن رجب طيب أردوغان الذي يسيطر على سياسته الخارجية رغبته المحمومة في السيادة الإقليمية، ودعمه لحركات الإسلام السياسي في المنطقة، لن يقبل أن تشارك تركيا في آلية لا متوسطية ولا غيرها لمحاربة تنظيم الدولة، أو غيره من الجماعات المتطرفة المسلحة. وأعلنت تركيا- العدالة والتنمية- رفضها الانضمام إلى التحالف الدولي الذي يحاول تصفية التنظيم، بل ورفضت استخدام قادة أنجرليك الجوية لأغراض الحملة العسكرية. كما دانت بقوة ما سمته التدخل العسكري المصري في ليبيا، وعدته انتهاكا للسيادة، وليس دفاعا شرعيا عن النفس، كما أعلنت مصر، ورحبت الحكومة الليبية الشرعية.
الحقيقة أن الموقف الليبي الرسمي نفسه سيشهد تغيرا كبيرا عما حدث في عام 1994 نتيجة لعاملين رئيسيين، أولهما يرجع إلى أن معمر القذافي قد نأى بليبيا عن المشاركة في جميع المبادرات الأورومتوسطية، والتي عدّها دعاوى إمبريالية استعمارية تحاول من خلالها أوروبا وإسرائيل فرض سطوتهما على العالم العربي، وهو الفكر الذي لم تعد طرابلس تتبناه بعد تغييرات عام 2011. أما العامل الآخر، فيتمثل في أن ليبيا هي المتضرر الأكبر من خطر الإرهاب في شمال إفريقيا بعد ازدحام أراضيها بمجموعات مسلحة تراوحت بين قبائل تسعى للثأر من بعضها لبعضا، وتنظيمات إسلامية مسلحة، وحكومتين تتنازعان السلطة في البلاد. وبإضافة تجربة التدخل العسكري الغربي مرة، والعربي المصري مرة ثانية، سنجد أن ليبيا، متمثلة في حكومتها الشرعية، سترحب كل الترحيب بأي مبادرة متوسطية – أو غير ذلك- هدفها محاصرة الإرهاب على أراضيها، بل وستكون الدولة الأكثر تقبلا لإجراءات عسكرية كبرى.
يأتي الموقف التونسي والجزائري مضطربا نتيجة لترتيبات داخلية لها علاقة بتوازنات تنتهجها الحكومات لترتيب علاقاتها بالجماعات الإسلامية في هذين البلدين. فتونس التي لا يزال حزب النهضة، وكذلك الجماعات السلفية المتشددة يمثلان ثقلا سياسيا واجتماعيا كبيرا بها، تشهد حالة من التردد في توصيف الإرهاب في المنطقة، وترتيب علاقاتها بجارتها الشرقية. ورغم أن عددا من الحوادث الإرهابية قد وقع على مدى الأشهر الماضية، وراح ضحيته مدنيون وعسكريون في تونس، فإن الحكومة لا تزال ترى أن ما يحدث في ليبيا هو اضطرابات داخلية لا تستدعي استنفارا يتطلب توحيد الجهود الإقليمية لمواجهة خطر حقيقي. كما أن الجزائر –رغم تفاهماتها الأمنية مع مصر، وتنسيقها بشأن الصحراء الكبرى مع فرنسا- تحاول أن تنأى بنفسها عن صراع جديد يحيي ذكرى المواجهات الدامية التي عاشتها أكثر من عشر سنوات ضد جماعات أصبحت الآن مرهقة ومدجنة إلى حد كبير. إلا أن تنسيقا مع قوى أجنبية وإقليمية، من خلال الآلية المتوسطية المقترحة أو غيرها، قد يقود إلى تحفيز هذه الجماعات على الانفجار في وجه الحكومة الجزائرية، واستدعاء الصراع مرة أخرى.
أما إسرائيل، التي كان إدماجها في المنطقة بصورة سلمية وتطبيعية أحد أهم الأهداف غير المعلنة لتدشين المشروعات متعددة الأطراف منذ 1994، فمن المفهوم أنه لن يكون مرحبا بها ضمن أية عمليات أو تنسيقات قد تتضمن حشدا عسكريا أو أمنيا في الإقليم الأورومتوسطي. فحساسيات الصراع الممتد بين العرب وإسرائيل لن تسمح بإشراك الأخيرة في هذه الآلية، إن وجدت.
كما أن التنسيق الأمني والعسكري مع إسرائيل سيعيد طرح جميع الأسئلة التي يدور حولها الجميع دون أن يجرءوا على طرحها حول ماهية الإرهاب، وشرعية المقاومة، والخطوط الفاصلة بينهما. فواقع الأمر أن الاحتلال الإسرائيلي يمنح شرعية للعديد من الحركات المسلحة، بحسبانها حركات مقاومة. كما أن التصدي لما تمثله إسرائيل من عدوان مستمر على الكرامة العربية والإسلامية- في بعض التفسيرات- يمثل تبريرا أو تكئة تظهر بقوة في أدبيات الحركات المسلحة، وهو ما يجعل من إسرائيل إجمالا طرفا غير مرحب به في مجالات التنسيق العسكري والأمني، أو على الأقل فيما هو مباشر منها.
وبالإضافة إلى دراسة توقعات ردود أفعال الدول المتوسطية، بعد تغير حكوماتها، نجد أن تحليل إمكانيات استخدام القوة المسلحة والتدخل العسكري، والذي يعد خيارا مطروحا وغير مستبعد، يفرض طرح تساؤل عن قبول الدول الجنوبية لتدخل عسكري قد تتبناه الآلية المتوسطية المقترحة لتفتيت بؤر الإرهاب في شمال إفريقيا، وكذلك أطراف الصحراء الكبرى.
والحقيقة أن تدخل أوروبا في الشأن الليبي لم يعد أمرا مستنكرا، حتى إن العديد من المعلقين السياسيين داخل ليبيا وخارجها يتحدثون صراحة عن أن الناتو وأوروبا لم ينهيا عملهما الذي بدآه في ليبيا عام 2011 كما ينبغي. وهي الصيغة المخففة لمقولات واتهامات أوسع بأن الأسلحة التي تركتها قوات التحالف الدولي- بالإضافة إلى أسلحة القذافي- هي الوقود المتجدد للصراع، سواء القبلي أو السياسي بين الفرقاء في ليبيا.
أي أن ثمة واجبا –لا فضلا- يحتم على القوى الغربية أن تضع حدا للنزاع الأهلي، ولنشاط الجماعات المسلحة في ليبيا. أي أن الخطر المحدق، والتجربة التي مرت بالفعل من تدخل عسكري، قد يسمحان بأن تكون ليبيا بمنزلة مسرح العمليات الأول لآلية متوسطية عسكرية أمنية لدحر التنظيمات المسلحة بما لا يخل بطبيعة الحال بالسيادة الليبية، أو الاستقلال الوطني الليبي.
لقد أصبح من نافلة القول الحديث عن خطر مشترك يهدد الشمال الإفريقي والجنوب الأوروبي، متمثلا في مجموعات إرهابية عالية التنظيم، والتمويل، والتسليح . ويبقى السؤال الأهم عن رغبة حقيقية في تحقيق ما وعد به القادة المتوسطيون شعوبهم منذ عشرين عاما، ألا وهو إقليم البحر المتوسط الآمن والمزدهر. لم يعد بإمكان أوروبا أن تسعى نحو تحقيق أهدافها الاقتصادية، متجاهلة الخطر الحقيقي الذي حمله إرهابي “داعش” على طرف سكينه، وهو يتوعد الأوربيين باقترابه وزملائه من أراضيها.
كما أن القيادات في الجنوب والشرق، والتي كثيرا ما حرصت على تأمين مقاعدها ومكاسبها، إما أنها قد تغيرت، وإما أنها قد استفاقت على واقع مؤلم، وهو أنه لا تغيير ولا تنمية، ما دامت الجماعات المسلحة- على اختلاف مسمياتها- تزعزع أركان الدولة، وتضعف الثقة في بنيانها، بل واحتمالات بقائها في بعض الأحيان.
يظل التساؤل مشروعا ومأمولا حول إطلاق ثالث لعملية برشلونة، يعلن صراحة، ودون مواربة أو مجاملة، أن أولوية الشركاء المتوسطيين هي علاج أمني عاجل لخطر الإرهاب، يتوازى مع تعامل استراتيجي، وخطة طموح للتنمية الاقتصادية والاجتماعية في الإقليم الذي أرهقته صراعات لا تنتهي، على أن يدرك الجميع أن أمواج المتوسط الدامية ستكف عن حمل الدماء، والمهاجرين، والمتطرفين، عبر شواطئه فقط، عندما يعترف الجميع بأن المصير مشترك، وأن مجابهة خطر الإرهاب، وتحقيق آمال التنمية واجب على الجميع.
د. أماني صلاح الدين سليمان
مجلة السياسة الدولية