يُعد قرار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مطلع ديسمبر 2014 بإلغاء تنفيذ مشروع “السيل الجنوبي” South Stream لنقل الغاز إلى جنوب ووسط أوروبا بمثابة نقطة تحول محورية في العلاقات الروسية بالاتحاد الأوروبي في ظل التوترات المهيمنة على التفاعلات بين الطرفين عقب دعم روسيا للانفصاليين في أوكرانيا سياسيًّا وعسكريًّا، وفرض الاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادية على روسيا؛ إذ لم ينقطع الجدل حول تداعيات إلغاء المشروع على العلاقات الروسية بدول البلقان ووسط أوروبا في الوقت الذي تسعى فيه روسيا إلى الالتفاف حول سياسات فرض العزلة التي تسعى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إلى تطبيقها في مواجهة روسيا منذ تدخلها في أوكرانيا.
تسييس تدفقات الطاقة
يُمكن اعتبار مشروع خط غاز “السيل الجنوبي” أحد أبعاد التغير في سياسة الطاقة الروسية في القارة الأوروبية؛ حيث إن المشروع كان يستهدف الاستغناء عن أوكرانيا كحلقة وصل وسيطة في عملية تصدير الغاز بين روسيا والقارة الأوروبية من خلال إنشاء خطين للغاز، الأول يُسمى “السيل الشمالي” وينقل الغاز إلى دول الجوار الروسي في الشمال، أما الخط الثاني فيُسمى “السيل الجنوبي” وكان من المفترض الانتهاء من تأسيسه بحلول عام 2016، ويمر بدول بلغاريا وصربيا والمجر وسلوفينيا وإيطاليا، ويوصل خطوطًا فرعية لتصدير الغاز إلى كلٍّ من البوسنة والهرسك وكرواتيا والنمسا.
ويشارك في تأسيس المشروع عدة شركات، أهمها شركة “غاز بروم” الروسية التي تحوز 50% من أسهم المشروع، وشركة إيني ENI الإيطالية التي تحوز نسبة 20%، وشركة EDF الفرنسية وتسيطر على نسبة 15% من المشروع، وشركة وينترشال الألمانية Wintershall التي تسيطر على نسبة 15% من المشروع. وعلى الرغم من بدء العمل بالمشروع فإن الحكومة البلغارية قد قررت وقف العمل به في أغسطس 2014 بعد تحفظات المفوضية الأوروبية على المشروع لأنه يتعارض مع قواعد حزمة الطاقة الثالثة للاتحاد الأوروبي التي تقضي بمنع الجمع بين إنتاج الغاز وامتلاك أنابيب التصدير العابرة لدول الاتحاد الأوروبي في آن واحد.
وعلى الرغم من الارتباط بين تجميد العمل بمشروع “السيل الجنوبي” والصدام بين الاتحاد الأوروبي وروسيا حول الأقاليم الانفصالية في أوكرانيا؛ فإن تضاعف تكلفة إتمام المشروع منذ أكتوبر 2014 قد دفعت الحكومة الروسية لإعادة تقييم جدوى استكماله؛ حيث ارتفعت تكلفة إتمام الجزء البحري من مشروع السيل الجنوبي من 10 مليارات إلى 14 مليار يورو، بينما ارتفعت تكلفة الجزء البري منه من 6.6 مليارات إلى 9.5 مليارات يورو، ومن ثمّ انتقلت الحكومة الروسية لمراجعة البدائل الأقل تكلفة في ظل الأزمة الاقتصادية التي تعصف بالاقتصاد الروسي.
تداعيات تحويل المسار
استعاضت روسيا عن تأسيس خط “السيل الجنوبي” بمشروعٍ آخر تحت اسم “السيل التركي” Turk Stream أقل تكلفةً يمر بتركيا بدلا من دول البلقان ووسط أوروبا، وهو ما أعلنه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال زيارته لتركيا، مُرجِعًا قرار إلغاء مشروع “السيل الجنوبي” إلى موقف الاتحاد الأوروبي “غير البنّاء” وفرضه شروطًا تعجيزية وصفها بوتين بأنها ضغوط سياسية للتأثير على موقف روسيا حول الأزمة في شرق أوكرانيا.
ويرتكز مشروع السيل التركي على تأسيس خطٍّ لنقل الغاز عبر البحر الأسود إلى تركيا بمحاذاة الخط المُسمى “السيل الأزرق” والذي ينقل الغاز الروسي لتركيا منذ عام 2004، بحيث تصبح تركيا دولة العبور الوحيدة للغاز الروسي للدول الأوروبية مستقبلا عقب إنهاء ضخ الغاز الروسي لأوكرانيا، وإنهاء وضعيتها كدولة ترانزيت لتصدير الغاز الروسي للدول الأوروبية؛ حيث ستزيد روسيا من صادراتها من الغاز إلى تركيا عبر أنبوب السيل الأزرق من 16 إلى 19 مليار متر مكعب سنويًّا بالتوازي مع تأسيس خط الغاز الجديد الذي يمر عبر البحر الأسود إلى تركيا.
ومن ثمّ وقّعت شركة غاز بروم مذكرة تفاهم مع شركة بوتاش التركية لتأسيس خط الغاز الجديد بطاقة استيعابية تقدر بحوالي 63 مليار متر مكعب، منها 14 مليار متر مكعب للاستهلاك المحلي التركي، وحوالي 50 مليار متر مكعب للتصدير لأوروبا عبر خط أنابيب بري يمتد عبر الأراضي التركية وحتى الحدود اليونانية.
وعلى الرغم من تحمل شركة غاز بروم الروسية لخسائر تقدر بحوالي 5 مليارات دولار نتيجة إلغاء خط السيل الجنوبي، فإنها حققت مكاسب متعددة عبر تأسيس خط بديل يمر بتركيا، أولها يتمثل في قبول تركيا تأسيس مركز لإنتاج الغاز المسال على أراضيها مما يجعل روسيا قادرةً على الاستغناء عن محطات تسييل الغاز في أوكرانيا ودول الاتحاد الأوروبي، وثانيها يتمثل في عوائد الاستثمار في تركيا التي تعد ثاني أكبر مستورد للغاز الروسي بعد ألمانيا، ويتفوق حجم استهلاكها للغاز على إجمالي الصادرات الروسية من الغاز لكلٍّ من بلغاريا والمجر والنمسا مجتمعين، فضلا عن موقع تركيا كحلقة وصل بين القارتين الأوروبية والآسيوية، وسعي روسيا مستقبلا للتوسع في التصدير للأسواق الآسيوية الأكثر استهلاكًا للطاقة، لا سيما الصين الشريك الاستراتيجي الأهم لروسيا.
في السياق ذاته، عززت تركيا من مكانتها كنقطة ارتكاز عالمية لخطوط انتقال الطاقة؛ حيث يفترض أن يمر بها خط الغاز المسمى “باكو – تيبليسي – جيهان” الواصل بين أذربيجان وتركمانستان، بالإضافة إلى خطي الغاز الروسيين العابرين لإقليمها، فضلا عن موقع تركيا في طريق الحرير الجديد الذي تسعى الصين لتأسيسه، ولا تقتصر المكاسب التركية على الحصول على فائض من الغاز يفوق استهلاكها بأسعار تفضيلية، وإنما تشمل أيضًا تقوية المكانة التركية في مواجهة الاتحاد الأوروبي من خلال التقارب مع منظمة شنغهاي للتعاون من خلال تعزيز الشراكة مع روسيا.
في المقابل، تواجه الدول الأوروبية خاصةً في وسط وجنوب أوروبا خسائر نتيجة إلغاء مشروع “السيل الجنوبي”، إذ ستتحمل الشركات الأوروبية المشارِكة في المشروع خسائر تقدر بحوالي 2.5 مليار يورو، أما بلغاريا التي جمّدت المشروع فستفقد عوائد متوقعة تُقدر بحوالي ما يتراوح بين 400 و600 مليون يورو، فضلا عن فقدان 6000 وظيفة يُمكن أن تساهم في دعم الاقتصاد البلغاري، وهو ما دفع رئيس الوزراء البلغاري بويكو بوريسوف إلى التأكيد على عزمه بحث السيل الجنوبي مع مؤسسات الاتحاد الأوروبي، ومحاولة إحياء المشروع، كما أنّ نائب رئيس المفوضية الأوروبية ماروس زيفكوفيتش دُعي في مطلع يناير الجاري لإيجاد حل للمشروع يتوافق مع تشريعات الاتحاد الأوروبي بما يحول دون الإلغاء الكامل للمشروع.
بينما اعتبر وزيرُ الخارجية الصربي إيفيكا تاديتش، أن إلغاء مشروع بناء خط أنابيب الغاز “السيل الجنوبي” لن يضر صربيا وحدها، وإنما كافة دول الاتحاد الأوروبي، مؤكدًا أن صربيا لم تشكل أبدًا عائقًا أمام تنفيذ المشروع، خاصةً وأن مشروع خط الغاز الواصل بين بلغاريا وصربيا لن يكون بديلا لإمدادات الغاز التي كان يفترض أن يوفرها خط “السيل الجنوبي”، أما المجر فتعد الدولة الأكثر حرصًا على إتمام مشروع السيل الجنوبي نظرًا لإشكاليات الإمداد بموارد الطاقة التي تواجهها في حالة قطع روسيا إمدادات الغاز عن أوكرانيا مستقبلا، وتجلى موقف المجر المستقل عن الاتحاد الأوروبي في إقرار البرلمان المجري في منتصف نوفمبر الفائت مشروع قانون يسمح بالبدء في بناء خط “السيل الجنوبي” على الرغم من معايير حزمة الطاقة الثالثة للاتحاد الأوروبي.
وفي المقابل، يُشير جوناثان ستيرن Jonathan Stern وسيمون بيراني Simon Pirano في تقريرهما الصادر عن معهد أوكسفورد لدراسات الطاقة Oxford Institute for Energy Studies في يناير 2015، إلى أن روسيا لن تتمكن من تلبية التزاماتها التعاقدية على الغاز إلى عام 2020 سوى بالاعتماد على أوكرانيا، حتى يكتمل تأسيس خط الغاز الجديد في تركيا. لكن في ظل تراجع إيرادات شركة غازبروم على إثر العقوبات الأوروبية والأمريكية المفروضة على روسيا؛ حيث تراجعت إيراداتها في عام 2014 إلى 39.7 مليار دولار في مقابل 46.3 مليار دولار عام 2011 – تتصاعد الشكوك حول قدرة روسيا على الانتهاء من مشروعات خطوط الأنابيب التي تعهدت بالانتهاء منها خلال المرحلة المقبلة. ولا تقتصر هذه المشروعات على خطوط الغاز الواصلة لتركيا، وإنما تشمل أيضًا خط ألتاي لتصدير الغاز الواصل بين روسيا والحدود الصينية والذي يفترض أن ينتهي إنشاؤه بحلول عام 2020.
سياسات الاحتواء المضاد
لا تنفصل التحولات في مسارات تصدير الغاز في القارة الأوروبية عن التحولات السياسية الصاعدة في العلاقات الروسية مع دول البلقان في ظل السعي الروسي للضغط على الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي في بؤر التوترات الإقليمية التي تمثل منطقة البلقان أحد نماذجها؛ حيث إن أغلب دول البلقان تمر بمراحل التأهيل التدريجي للانضمام للاتحاد الأوروبي، فضلا عن إرث الصراعات العرقية بالمنطقة التي تسعى روسيا لاستغلالها.
وتستند روسيا في اختراقها للبلقان على عدة دعائم، أهمها الروابط الثقافية بين روسيا والشعوب السلافية في منطقة البلقان، خاصةً في صربيا والبوسنة والهرسك، فضلا عن مركزية مكانة الكنيسة الروسية لدى الجاليات الأرثوذكسية في دول البلقان، أما العامل الأهم فيتمثل في إمدادات الطاقة، وهو ما يرتبط بمشروع “السيل الجنوبي” الذي استهدف تعزيز صادرات الغاز لدول البلقان، وهو ما دفع الاتحاد الأوروبي إلى عرقلة التمدد الروسي عبر تعطيل المشروع، بيد أن الدور الروسي المتصاعد في البلقان يستند إلى عدة عوامل أخرى يتمثل أهمها فيما يلي:
1- دعم القوميين في البلقان: حيث أشار إبي سبايو Ebi Spahiu الباحث بمؤسسة جيمس تاون The Jamestown Foundation في 17 ديسمبر، إلى أن روسيا تسعى إلى توطيد علاقاتها مع النخبة القومية في صربيا اعتمادًا على تلاقي المواقف حول رفض استقلال كوسوفو الذي فرضته الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وتجلى ذلك خلال زيارة بوتين لصربيا في نوفمبر 2014 التي حظيت باستقبال شعبي غير مسبوق، والدعم الروسي المتصاعد للأحزاب القومية الممثلة لصرب البوسنة الساعية للانفصال عن البوسنة والهرسك خاصةً حركة “جمهورية الصرب” Republika Srpska التي تدعو لانفصال المناطق الصربية في البوسنة والهرسك وترفض انضمام البوسنة للاتحاد الأوروبي أو حلف شمال الأطلسي، وهو ما دفع منسقة السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي فيديريكا موجيريني إلى دعوة روسيا في 5 ديسمبر 2014 لإبقاء البلقان بعيدًا عن التوترات بين روسيا والاتحاد الأوروبي خوفًا من تفجير الصراع الدامي بين صربيا وكوسوفو.
2- تكثيف المناورات المشتركة: لم تكن المناورات العسكرية الضخمة التي أجرتها روسيا مع صربيا لمواجهة الهجمات الإرهابية في نوفمبر 2014 سوى بداية لتوجه عام لتكثيف المناورات العسكرية المشتركة بين روسيا وحلفائها في منطقة البلقان؛ حيث أكد المتحدث باسم القوات الخاصة الروسية يفجيني ميشكوف في مطلع يناير 2015 أن روسيا سوف تزيد من كثافة مناوراتها المشتركة مع دول البلقان بحيث يتجاوز عددها حوالي 20 مناورة عسكرية خلال العام الجاري خاصةً في الدول المتاخمة لكرواتيا المنضمة إلى حلف الناتو، وتنطوي المناورات التي سوف يتم تنفيذها العام الجاري على تعزيز التحالف بين روسيا وحلفائها في البلقان والدول المستقلة عن الاتحاد السوفيتي السابق في محاولة لتعزيز مناعتها تجاه توسعات الناتو المستقبلية والتصدي للاختراق المتصاعد للمجال الحيوي لروسيا.
3- عرقلة توسعات الناتو: تحاول روسيا احتواء توسعات الناتو والاتحاد الأوروبي في البلقان من خلال دعم القوى السياسية الداخلية الرافضة للانضمام للناتو في تلك الدول والموالية لروسيا خاصةً التيارات والأحزاب الممثلة للأعراق السلافية والأرثوذكسيين في دول البلقان، وهو ما تجلى في الدعم الروسي لحركة “جمهورية الصرب” Republika Srpska الممثلة لصرب البوسنة، وحزب تحالف الديمقراطيين الاشتراكيين المستقلين، لعرقلة كافة مشروعات الإصلاح التشريعي في البرلمان بالبوسنة والهرسك لتأجيل الوفاء بمعايير الانضمام للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وتجلى هذا الموقف الروسي في تحفظ روسيا على تمديد مهمة القوات الأوروبية لحفظ السلام في البوسنة والهرسك لعام إضافي بدعوى أن التدخل الخارجي في شئون البوسنة قد يستغل لدفعها للانضمام للناتو وفق تصريحات الممثل الروسي الدائم في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة “فيتالي تشوركين” في نوفمبر 2014.
4- تصعيد الضغوط الاقتصادية: حيث عمدت روسيا إلى تصعيد الضغوط الاقتصادية على دول البلقان المتحالفة مع حلف الناتو والساعية للانضمام للاتحاد الأوروبي ردًّا على العقوبات الأوروبية؛ حيث بدأت روسيا في مراجعة وارداتها من تلك الدول تحت دعوى فرضها حظرًا على منتجات الدول التي تفرض عقوبات على روسيا. ومن ثم، فقد منعت روسيا استقبال واردات زراعية من مقدونيا والبوسنة وألبانيا، وكلها تعتمد بشكل رئيسي على السوق الروسية في تسويق منتجاتها الزراعية، مما سبب ضغوطًا داخلية على حكومات تلك الدول خاصةً من جانب المعارضة التي تضم حركات وأحزابًا مدعومة من روسيا، مما يهدد بتكرار الأزمة الأوكرانية في تلك الدول.
وإجمالا يمكن القول إن الإلغاء الروسي لمشروع “السيل الجنوبي” قد يكون مرحليًّا وقابلا للمراجعة في ظل سعي روسيا للهيمنة على أمن الطاقة في وسط وجنوب القارة الأوروبية، وإيجاد مسارات بديلة لتدفقات الطاقة لإنهاء اعتمادها على أوكرانيا، واحتواء توسعات حلف الناتو في مجالها الحيوي. لكن تردي حالة الاقتصاد الروسي وضعف الثقة في قدرة روسيا على تجاوز الأزمة الاقتصادية قد يؤديان إلى تأجيل التوسعات في خطوط تصدير الغاز الروسي، خاصةً في ظل العقوبات الأوروبية والأمريكية المفروضة عليها. في المقابل من المرجح أن تعزز روسيا من اختراقها لمنطقة البلقان من خلال التحالف مع الدول ذات الأغلبية السلافية الأرثوذوكسية مثل صربيا، ودعم الحركات الانفصالية في دول أخرى مثل الحركات الممثلة لصرب البوسنة، والضغط اقتصاديًّا على حكومات الدول المتحالفة مع الناتو والاتحاد الأوروبي، بالتوازي مع تعزيز العلاقات مع التيارات والأحزاب الموالية لروسيا في تلك الدول لتعزيز فرصها للوصول للسلطة.
محمد عبد الله يونس
المرصد الإقليمي