عند الحدود مع تركيا في أقصى شمال محافظة دهوك العراقية تقع منطقة برواري بالا، وهي سهل جبلي يشتهر بالزراعة وبتفاح من نوع مميّز له أصول أميركية.
صديق لي كردي من سكان المنطقة، كلّما أسأله عن حالة تفاح برواري يردّ بأنها «سيئة»؛ لماذا؟ يجيب: لأن تفاح العولمة أزاحه من السوق. وتفاح العولمة هو المستورد من الخارج (تركيا في الغالب) ويباع بأسعار متدنية، ما تسبّب بكساد تفاح برواري، لأن سعر تفاح العولمة يقلّ حتى عن قيمة أجور جني أو نَقْل تفاح برواري. وعندما زرتُ المنطقة ذات مرة، كان تفاح برواري متروكاً للتلف في أشجاره أو تحتها.
ربما تلوح الآن الفرصة ليستعيد تفاح برواري وسائر الزراعات الكردستانية مجدها الغابر إذا ما نفّذت تركيا، ومعها إيران والعراق، التهديد بفرض حصار على إقليم كردستان العراق حتى يتراجع عن الاستفتاء الذي أجراه الأسبوع الماضي.
هذا الاستفتاء لم تُفلح تهديدات الحكومات العراقية والتركية والإيرانية في وقفه أو تأجيله، مع أن هذه التهديدات استُعمِلت فيها أقوى الكلمات وأشدّ العبارات، حتى خُيّل للبعض أن واحداً في الأقل من الأطراف الثلاثة سيستعمل القوة العسكرية لوقف عملية الاستفتاء، التي قيل إنها تهدّد الأمن الوطني في البلدان الثلاثة.
ومع أن العملية مرّت بسلام، فإن «الكلام الخشن» لم يزل سيد الموقف في كل من بغداد وأنقرة وطهران التي تواصل حكوماتها التهديد باتخاذ إجراءات «رادعة» ما لم تتراجع إدارة إقليم كردستان عن الاستفتاء.
ما الخيارات المتاحة أمام العواصم الثلاث لتحقيق ما تبغيه؟
على الأرض لم تكن للاستفتاء أية مترتّبات مادية، فما من خطوة نحو الاستقلال يمكن للجانب الكردي اتخاذها على المدى المنظور، وقد أكد الزعماء الكرد غير مرة أن الاستفتاء في حدّ ذاته لا يعني رسم الحدود أو إعلان الاستقلال، إنما هو لتأكيد الرغبة بالاستقلال الذي يتطلّب تحقيقه قبول حكومة العراق بفكرته والدخول في مفاوضات بشأنه مع الطرف الكردي. وبالطبع سيظلّ أمر الاستقلال محكوماً أيضاً بموقف الجارين الأقوى؛ التركي والإيراني، ومن الواضح أن أنقرة وطهران، كما بغداد، ليستا في وارد القبول بفكرة الاستقلال الكردي.
لجهة الخيار العسكري، لم تهدّد أي من العواصم الثلاث صراحة باللجوء إلى القوة العسكرية لحمل الكرد على اعتبار الاستفتاء وكأنه لم يكن. هذا الموقف نابع من إدراك الحكومات الثلاث عدم قدرتها على استخدام القوة، منفردة أو مجتمعة. دولياً سيكون الأمر مستنكراً بشدّة؛ التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الذي وفّر الحماية للكرد من نظام صدام في تسعينات القرن الماضي لن يقبل، والتحالف الدولي الذي يشنّ الحرب على «داعش» الآن بقيادة واشنطن أيضاً لن يقبل، والمجتمع الدولي لن يقبل بالتأكيد، أقله من منطلق إنساني.
داخلياً، الحكومة العراقية لا يمكنها استخدام القوة ضد الكرد، لسبب أخلاقي – سياسي قبل كل شيء، فأي حرب ضد الكرد ستُظهِر النظام العراقي الحالي، الذي تسيطر عليه الأحزاب الشيعية، في صورة نظام صدام حسين الذي اضطهد الكرد والشيعة على نحو مأساوي. باستثناء قلّة من السياسيين (هم إسلاميون في الغالب، أفصحوا في الأسابيع الأخيرة عن شوفينية تضاهي شوفينية نظام حزب البعث)، لن تحظى الحرب على الكرد بالتأييد في الأوساط الشعبية والسياسية.
فضلاً عن هذا فإن القوات العراقية منخرطة الآن في الحرب مع «داعش»، التي تشارك فيها أيضاً قوات البيشمركة الكردية، و«داعش» لم يزل يشكّل تهديداً خطيراً للأمن الوطني العراقي. كما أن القوات العراقية ليست مؤهلة لخوض حرب ثانية.
تركيا وإيران هما أيضاً غير قادرتين على استعمال القوة المسلحة، ففضلاً عن العامل الدولي، ستتعرّض الدولتان على الأرجح، إذا ما قامتا بعمليات عسكرية في كردستان العراق، لاضطرابات في أقاليمهما الكردية التي تضمّ كرداً يعادلون أضعاف كرد العراق عدداً، وتركيا وإيران ليستا في وضع يسمح لحكومة أي منهما بالإقدام على مخاطرة من هذا النوع ومواجهة اضطرابات داخلية.
في تحديد الموقفين التركي والإيراني هناك عامل قوي آخر هو العامل الاقتصادي، فعلى مدى ربع قرن، منذ قيام الإدارة الذاتية الكردية في 1991، نسج كرد العراق علاقات وشراكات اقتصادية واسعة مع تركيا وإيران، والسوق في إقليم كردستان تعتمد الآن على سلع الدولتين اللتين لهما استثمارات بمليارات الدولارات في الإقليم. ويُقدّر ما تحقّقه تركيا من التبادل التجاري مع الإقليم بعشرة مليارات دولار سنوياً فيما تحقّق إيران خمسة مليارات دولار، فضلاً عن التجارة غير الرسمية (التهريب).
وبحسب المعطيات التركية، يحتلّ إقليم كردستان المركز الثالث بين مستوردي السلع التركية بعد ألمانيا وبريطانيا. والإقليم هو بوابة مرور السلع التركية والإيرانية إلى سائر أنحاء العراق. واستثمارات البلدين في الإقليم تشمل مجالات النفط والغاز والصناعة والطرق والنقل والاتصالات والسدود، ويُقدّر عدد الشركات التركية والإيرانية العاملة في الإقليم بنحو 2000 شركة، معظمها تركية. ولتركيا بالذات مصالح استراتيجية أخرى في الإقليم الذي يمرّ نفطه بالكامل إلى تركيا أو عبرها.
سيصعب، والحال هذه، أن تنفّذ أنقرة وطهران عقوبات صارمة على الإقليم لأنهما ستتضرّران أكثر من غيرهما، وهذا مغزى ما ردّده مسؤولون من البلدين في اليومين الأخيرين بأن إجراءاتهم لن تستهدف السكان. وبغداد من جانبها ستواجه وضعاً مماثلاً، فالسلع التركية كلها، ومعظم الإيرانية، تمرّ بإقليم كردستان، وحصّة معتبرة من النفط العراقي تمرّ به إلى ميناء جيهان التركي، فضلاً عن وجود استثمارات مشتركة للعرب والكرد في الإقليم كما في سائر أنحاء العراق، وهي ستتأثر بالتأكيد بأي عقوبات.
أكثر ما تحقّقه العقوبات الصارمة من العواصم الثلاث أنها ستدفع بالكرد للعودة إلى اقتصادهم التقليدي، الزراعة. في تسعينات القرن الماضي تحمّل الكرد حصاراً قاسياً من جانب نظام صدام شمل كل شيء، ولم تكن لديهم آنئذ بنية تحتية، لكنّهم اليوم يتمتّعون ببنية أفضل مستوى مما في سائر أنحاء العراق الذي لم يسمح الفساد الإداري والمالي المفرط بوجود مثل هذه البنية.
مجمل القول إن بغداد، وكذا أنقرة وطهران، ستجد بعد حين أن العقوبات الاقتصادية لن تكون فعّالة، ما يفتح الباب من جديد للتفاوض مع أربيل، وهو باب ليس مغلقًا الآن في الواقع. حينذاك ستكتشف هذه العواصم أيضاً أن العقوبات ستدفع بكرد العراق للتمسّك أكثر بخيار الاستقلال!
عدنان حسين
صحيفة الشرق الأوسط