مع أن الحرب السورية الدموية المستمرة منذ أكثر من ستة أعوام ما تزال بعيدة عن الانتهاء، فإن إحدى النتائج التي تصبح واضحة مسبقاً هي: يبدو أن الرئيس بشار الأسد موجود هنا ليبقى.
في ميدان المعركة، لم يتبق أحد راغب -وقادر على الإطاحة به. قوات الثوار تضمحل، وألغى الرئيس ترامب برنامج المخابرات المركزية الأميركية الذي كان يزودهم بالأسلحة والدعم. و”داعش”، بأجندته الخاصة لحكم سورية كخلافة، يجري اجتثايث من آخر معاقله.
والقوى الإقليمية، والمسؤولون الأجانب، والسوريون أنفسهم، يذهبون باطراد إلى العمل كما لو أنه سيحكم لسنوات مقبلة، ولو في بلد مختزل إلى حد كبير. وقد شرع حلفاؤه بالترويج لما يرونه انتصارهم الوشيك، وتتحدث حكومته عن إعادة بناء البلد المحطم، وتستيضيف معرضاً تجارياً دولياً الشهر الماضي، وتوقع اتفاقاً مع إيران لإعادة بناء شبكة الطاقة لديها. وحتى بعض مؤيدي الثوار منذ فترة طويلة ضجروا من الحرب، وشرعوا في القبول بما لا مفر منه.
منذ تمكنت الحكومة من استعادة السيطرة على بلدة مضايا الجبلية بعد حصار مطوَّل، تحسنت الحياة هناك بالنسبة للذين بقوا هناك. القناصة غادروا، والتيار الكهربائي عاد، وظهر الطعام في الأسواق. وفُتِحت المقاهي، وشرع الناس في الخروج.
تقول معلمة مدرسة من خلال رسالة فورية، متحدثة شريطة عدم ذكر اسمها حتى لا تُستهدف بسبب معارضتها السابقة للحكومة: “لقد سئمنا من الحرب. نريد أن نعيش بسلام وأمان، ولن نتمكن من ذلك إلا إذا كنا مع النظام”.
لا تعني هذه التطورات أن لدى الرئيس الأسد أي طريق سهلة إلى الأمام. فهو ما يزال منبوذاً في الكثير من أجزاء العالم، ويمارس الرئاسة على أرض موزعة ومقسمة. وإذا انتهى به المطاف بالخروج منتصراً، فمن المرجح أن يُترك مع دولة ضعيفة تكون مرهونة للقوى الخارجية، وتفتقر إلى الموارد اللازمة لإعادة البناء.
لكن لبقائه تداعيات خطيرة على البلد وعلى الشرق الأوسط، والتي ستؤثر على آفاق سورية المستقبلية، وعلى عودة اللاجئين إلى ديارهم، وقدرة الحكومة على جلب التمويل الدولي اللازم لإعادة بناء مدنها المدمرة.
كما أنه يشكل أيضاً فصلاً متأخراً قاتماً من انتفاضات الربيع العربي التي اندلعت في العام 2011. ففي حين تمكنت الاحتجاجات والتمردات المسلحة من الإطاحة بقادة تونس ومصر وليبيا واليمن من سُدة السطلة، فإن الأسد يبقى، على الرغم من استخدامه العنف الهائل ضد شعبه.
وقد اعترف الأسد نفسه بالحصيلة المرعبة الحرب، لكنه قال إنها قامت بنتقية الدولة من خلال القضاء على التهديدات الموجهة للأمة وتوحيد السوريين حول مشروع مشترك.
وقال أمام مؤتمر عقد في العاصمة السورية، دمشق، في الشهر الماضي: “خسرنا خيرة شبابنا وبنية تحتية كلفتنا الكثير من المال والعرق لأجيال، صحيح؛ لكننا بالمقابل ربحنا مجتمعاً أكثر صحة وأكثر تجانساً”.
بدأت الأزمة السورية في العام 2011 بانتفاضة شعبية ضد الأسد، الذي سعت قواته الأمنية إلى قمع المحتجين بقوة هائلة. وحملت المعارضة السلاح، واعترفت الولايات المتحدة، والسعودية وآخرون بقضية الثوار، وقدموا لهم الدعم السياسي ومنحوهم الأسلحة والأموال.
والآن، نجح الأسد في تبديد تهديد الثوار، فيما يعود في جزء كبير إلى الدعم المالي والعسكري الثابت الذي تلقاه من داعميه الأجانب.
الآن، تسيطر حكومة الأسد على أكبر المدن السورية ومعظم الناس المتبقين فيها، الذين يعيشون بشكل عام في ظروف أفضل من تلك الموجودة في الأماكن الأخرى من البلد. وقد وقف حلفاؤه -روسيا وإيران وحزب الله- إلى جانبه، وعززوا جيشه المنضب وساعدوه على التقدم.
وفي المقابل، لم يتمكن الثوار، وهم مجموعة يائسة من الفصائل ذات الأيديولوجيات المتفارقة، من تشكيل جبهة موحدة، أو من إقناع كل السوريين بأنهم سيصنعون لهم مستقبلاً أفضل. وقد انضم المتطرفون المرتبطون بتنظيم القاعدة إلى صفوف الثوار، وتقلصت مناطقهم بينما تخلى عنهم داعموهم من أجل التركيز على محاربة “داعش”.
يقول بسام الأحمد، المدير التنفيذي لمجموعة “سوريُّون من أجل الحقيقة والعدل”، وهي مجموعة مراقبة لحقوق الإنسان تعمل في تركيا: “أصبح النظام السوري الآن أبعد ما يكون عن الإطاحة به. هناك قوى أقل مهتمة بجعل ذلك يحدث مقارنة بما كان عليه الأمر قرب بداية الحرب”.
لكن الرئيس الأسد يظل زعيم دولة محدوداً بالعديد من الطرق. ما تزال الكثير من المناطق السورية خارج متناول يده، وقد نحتت القوى الأجنبية مناطق للنفوذ بطريقة تقوض ادعاءه بحكم كل سورية. وتحتفظ القوات التركية المتحالفة مع الثوار المحليين بمناطق في الشمال، بينما تعمل الولايات المتحدة مع المقاتلين الأكراد والعرب ضد “داعش” في الشرق.
وحتى المناطق الخاضعة اسمياً لسيطرة الأسد، تمارس فيها كل من روسيا وإيران وحزب الله والميليشيات المحلية التي مكَّنتها الحرب قدراً من السيطرة أكثر من الدولة السورية. وقد تولت روسيا زمام المبادرة في الدبلوماسية الدولية السورية، وهي التي تتفاوض على المناطق الآمنة مع القوى الأجنبية في أنحاء البلد في إطار محاولة وقف العنف.
وبالإضافة إلى ذلك، كانت حصيلة خسائر الحرب هائلة، ويمكن أن تشكل عبئاً على كاهل الأسد وحلفائه لعقود مقبلة.
يقول تقرير حديث للبنك الدولي إن الناتج الاقتصادي المفقود في البلاد خلال السنوات الست الأولى من الحرب بلغ 226 مليار دولار أميركي؛ أي ما يعادل أربعة أضعاف ناتجها المحلي الإجمالي في العام 2010 قبل بدء الصراع. وفي حين أصبحت صور مدن سورية المدمرة رمزاً رائجاً لخسائر الحرب، فإن كلفة العوامل غير المرئية، مثل الثقة الاجتماعية المكسورة والشبكات الاجتماعية المحطمة يمكن أن تفوق الأضرار المادية بعدة أضعاف، كما قال هارون أوندر، المؤلف الرئيسي للتقرير، في مقابلة خاصة.
وأضاف أوندر: “بينما يستمر الصراع، فإن الأمر لا يقتصر على الدمار المادي، وإنما يتفاقم التدهور في النسيج الاجتماعي أيضاً”.
بقاء الأسد في السلطة يمكن أن يعيق إعادة الإعمار
ما يزال المسؤولون في الولايات المتحدة وأوروبا يأملون في أن يغادر الأسد المنصب بموجب اتفاق سياسي لاحق، لكنهم تعهدوا بأن لا يكافئوه على وحشيته وانتهاكاته الكبيرة لحقوق الإنسان إذا بقي، من خلال المساعدة على إعادة بناء البلد.
في المقابل، يمكن للبلدان الأخرى التي تدعم السيد الأسد أن تساعد، ولكن مواردها محدودة، حيث تخضع إيران وروسيا لعقوبات دولية، وتعاني اقتصاداتهما من أسعار النفط المنخفضة.
في الشهر الماضي، أقام البلد معرضاً تجارياً دولياً في دمشق للمرة الأولى منذ العام 2011، والذي رحب بشركات من إيران والعراق وروسيا وفنزويلا وأماكن أخرى. ومن بين الصفقات الجديدة، كانت هناك اتفاقيات لاستيراد 200 حافلة من بيلاروسيا وعقود لتصدير 50.000 طن من المنتجات.
كما أن احتفاظ الأسد بالسلطة يمكن أن يؤثر أيضاً على عودة اللاجئين، وهي قضية حساسة بالنسبة للدول الجارة. وقد شردت الحرب نحو نصف الشعب السوري، والذين يسعى خمسة ملايين منهم إلى اللجوء في الخارج. وهرب الكثيرون من هجمات قوات الأسد ولم تعد لديهم بيوت يعودون إليها. ويقول آخرون أن الوضع ليس آمناً أو يخشون الاعتقال أو التجنيد على يد قوات الأسد الأمنية.
بعد سنوات من العيش في المنفى، حاول بسام المالك، رجل الأعمال والعضو السابق لمجموعة المعارضة الرئيسية في المنفى، أن يعود إلى سورية هذا العام ليبيع بعضاً من ممتلكاته. لكن الحكومة حذرته، من خلال وسيط، وطلبته منه أن لا يعود وإلا تعرض للاعتقال. والآن أصبح عالقاً، كما يقول، بين “النظام والمعارضة”.
بعض السوريين تخلوا عن معارضتهم وعقدوا سلامهم مع الحكومة التي يبدو أنها تكسب. وعلى سبيل المثال، في العام 2012 قال فراس الخطيب، نجم كرة القدم، لجمهور من المعجبين الصارخين إنه لن يلعب للفريق الوطني السوري “طالما ظلت المدفعية تقصف أي مكان في سورية”.
وفي الشهر الماضي، عاد الخطيب إلى دمشق وتلقى استقبال الأبطال في المطار. وقال: “اليوم، نحن على أرض وطننا، وفي خدمة وطننا”. وما يزال الفريق الوطني، الذي يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالأسد، يلعب من أجل التأهل لنهائيات كأس العالم المقبلة في العام 2018.
وهناك مواطنون آخرون، مثل المعلمة من مضايا، والذين أصبحوا سعداء بدعم أي طرف يمكن أن يوفر الأمن والخدمات الأساسية. وتقول المعلمة: “نحن أناس نسير حيث تأخذنا الريح. خلال الحصار، كنا مع الثورة. والآن أصبحنا نعلق صور الأسد ونغني له”.
بن هوبارد
صحيفة الغد