في السابع من تشرين الأول/أكتوبر الحالي، صرح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن المعارضة السورية المدعومة من أنقرة باشرت عملية جديدة في محافظة إدلب، شمال غربي سورية التي تسيطر «هيئة تحرير الشام» التي تعد «جبهة النصرة» سابقاً أبرز مكوناتها، على الجزء الأكبر منها.وقال أردوغان في خطاب ألقاه خلال الاجتماع التشاوري والتقييمي لحزب العدالة والتنمية المنعقد في ولاية «أفيون» التركية: «اليوم تجرى عملية جدية في إدلب وستستمر خلال المرحلة القادمة. نتّخذ خطوة جديدة لتحقيق الأمن في إدلب في إطار مساعينا الرامية لتوسيع نطاق «درع الفرات».
أثار التدخل التركي تساؤلات حول خفايا المجازفة باجتياح شمالي سورية لو لم تكن تركيا قد تلقت ضوءا أخضر من روسيا وإيران، وسط تسريبات عن أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نجح في زيارته الأخيرة لإيران في الاتفاق مع المسؤولين الإيرانيين على خارطة طريق سرية لإدارة الصراع في سوريا والعراق، وخاصة ما تعلق بتحجيم الدور الكردي. واعتبر متابعون للشأن التركي أن أنقرة، التي تقول إن الهجوم يأتي تنفيذا لاتفاق أستانة بشأن إقامة منطقة خفض توتر في إدلب، تسعى لاستئناف ما فشلت في تحقيقه خلال الهجوم الذي شنته منذ أشهر لإقامة منطقة آمنة على حدودها مع سورية، وخاصة لمنع سيطرة الأكراد السوريين على أراض حدودية.
وكانت تركيا فشلت في تحقيق نتائج ذات قيمة في ذاك التدخل بسبب وقوف الولايات المتحدة إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تشكلت بدعم أميركي لطرد داعش من الرقة، وخاصة لتكون ورقة ميدانية قوية تفاوض بها واشنطن لتحديد شكل الحل السياسي المستقبلي في سورية قبل أن تتغير المعادلة على الأرض لفائدة روسيا ومن ورائها إيران وقوات الرئيس السوري بشار الأسد. وقال المتابعون إن الوضع الآن تغير بشكل كامل، فتركيا، التي اختلفت مع الحليف الأميركي رغم كونها وضعت بيضها في سلة واشنطن، ليست معزولة تماما، وعلاقتها صارت قوية مع روسيا وإيران بعد أن قبلت أن يكون تحركها في سوريا تحت المظلة الروسية التي مهدت لتلطيف الأجواء بينها وبين طهران وبين دمشق رغم ما يبديه الإعلام الموالي للأسد من هجوم على الدور التخريبي لتركيا شمالي البلاد. والسؤال الذي يطرح في هذا السياق: هل ينجح التدخل التركي الحديد في سورية؟
العملية العسكرية التركية سبقتها، كما هو واضح، عمليّة أخرى استخباراتية لا تقلّ أهمّية عنها، وهدفها هو تجنّب معركة دمويّة بين القوات التركية المتقدمة و«جبهة فتح الشام» (والفصائل الأخرى المتحالفة معها)، فهذه المعركة، إلى كونها ستكلّف الجيش التركيّ الكثير من الخسائر في الأرواح والمعدّات، فإنها ستضع تركيّا في موقف صعب بجعلها في مواجهة مع أطراف تقف على طرف نقيض مع النظام السوري، وهو ما سيضعها، في نظر الكثير من السوريين والأتراك، في خندق ضيّق يجمعها ليس مع روسيا وإيران، ضامني الاتفاق، بل كذلك مع النظام الذي كانت تناصبه العداء على مدى سنين طويلة.
المواجهة يمكن أن تؤدّي أيضاً إلى عدد من الاحتمالات المزعجة، فالاتفاق الذي سمح لتركيا بالتحرّك برّيّاً فحسب يعني أن روسيا ستكون الطرف المكلف بتأمين الحماية الجوّية للقوات التركية، وأن روسيا قد تستغل أي اشتباكات مع قوّات مناهضة لحليفها النظام السوري على الأرض ستؤدي لمشاركة روسية ـ تركيّة في القضاء على هذه القوّات، لكن الأسوأ من ذلك هو أن تتحوّل الضربات الجوّية، كما هو معتاد من روسيا، إلى عقاب جماعي للمدنيين في إدلب، وهو ما سيؤذي سمعة أنقرة ويؤلّب الكثيرين عليها، ليس في سوريا فحسب بل كذلك ضمن جماهيرها التركية أيضاً.
الأخبار المتداولة تشير إلى أن أجهزة تركيا السياسية والأمنية نجحت في ضمان اقتراب آمن لقواتها من إدلب لكنّ أخباراً أخرى عن اشتباكات محدودة بينها وبين «جهاديين» تدلّ على أن الطريق ليس سالكاً تماماً وأن دخول الجيش التركي إلى إدلب لن يكون رحلة مأمونة الجانب وسهلة في كل مفترقاتها.
لا تتعلّق الأمور بقدرات أجهزة الأمن التركية في «إقناع» «جبهة فتح الشام» بالخطورة الهائلة للمواجهة مع جيشها، فالجبهة أيضاً تعلم أنها غير قادرة على خوض معركة كبرى مع تركيا، وأن تكاليف ذلك ستكون كارثية عليها وعلى سكان إدلب أيضاً الذين سيصبحون مرشحين لتجربة شبيهة بتجربة تدمير الرقة والموصل وبلداتها وقراها، وهو خيار انتحاريّ لا يتناسب مع بعض معالم الواقعية السياسية التي أبدتها الجبهة في مرات ماضية، كما فعلت حين أعلنت تخلّيها عن العلاقة مع تنظيم «القاعدة»، وحين سعت أكثر من مرة لإعلان تمايزها عن «الدولة الإسلامية» وتبرئها من أي تحالف معها.
الإعلام الرسميّ التركيّ ركّز على دور استراتيجي آخر للعملية يستهدف خلق «حزام أمني» حول عفرين الكرديّة يمنع اتصالها بالحسكة والقامشلي، وهو المخطط الذي اشتغل عليه حزب العمال الكردستاني التركي لسنوات عبر فصيل «الاتحاد الديمقراطي» في سوريا، والذي يسعى لربط المدن والمناطق الثلاث المذكورة تحت إطار ما يسمى «روجافا»، أو دولة كردستان سوريا.
لذلك جاء التدخل التركي في شمالي سورية هدفه لحماية أمنها القومي. وهذا ما يؤكده تصريح وزير الدفاع التركي نور الدين جانيكلي الذي قال إن تركيا يجب أن تظل في محافظة إدلب شمالي سورية حتى زوال التهديد الذي تتعرض له أنقرة. ويعتقد محللون أن هدف أنقرة الأساسي من إرسال قواتها ومسلحين موالين لها من بعض فصائل المعارضة السورية إلى إدلب هو الحيلولة دون إمكان قيام إقليم كردي في شمال سورية. وشدد جانيكلي على أن وجود قوات بلاده في إدلب ضروري في الوقت الحاضر، وإلى حين انتهاء الخطر الذي يهدد تركيا. وتعتبر أنقرة أن «وحدات حماية الشعب» الكردية المنتشرة في الشمال السوري قرب الحدود مع تركيا، تدعم حزب العمال الكردستاني الذي يقاتل ضد تركيا منذ عقود. وتعمل أنقرة من أجل عزل مدينة عفرين في ريف حلب الشمالي والتي تقع تحت سيطرة الوحدات الكردية.
ويرى الخبراء العسكريون فمن أجل تحقيق تركيا أهدافها القومية في سورية فهي تلعب على مختلف الواجهات لتحقيق استراتيجيتها في خلق حزام حدودي موال لها ويكون أداة لخدمة أجندتها سواء ما تعلق بالضغط على الأسد، والمشاركة في تحديد مستقبل سوريا، أو ما تعلق بقطع الطريق على الحلم الكردي في سوريا قبل أن يمتد لأكرادها. وأشاروا إلى أن تركيا نسقت لأجل تمرير استراتيجيتها مع جهات متناقضة المصالح مثل الجماعات الإسلامية المتشددة المصنفة إرهابية، ومع فصائل وقيادات من الجيش الحر أغلبها انشقت عن النظام وتحمل أفكارا ليبرالية، فضلا عن تنسيق أنقرة مع طهران، والذي تدعم خلال زيارة أردوغان الأخيرة لإيران، والتي تم فيها وضع خارطة طريق للعمل الإيراني التركي المشترك في سوريا والعراق، وأن بغداد ودمشق مجرد متفرجين في لعبة الأمم الجارية الآن.
العملية ما تزال في بداياتها، والأطراف السياسية والعسكرية المعنيّة بنجاحها أو فشلها كثيرة، ولذلك فمن المتوقع أن نشهد تمظهر التضارب في الحسابات السياسية والعسكرية على شكل ردود فعل، ليس من «جبهة فتح الشام» فحسب، بل كذلك من الأكراد والنظام السوري وإيران… وروسيا نفسها.
وحدة الدراسات التركية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية