قبل أربعة أعوام، حذر زميلاي، توم نيكولز وجون شندلر، من أن ضعف الولايات المتحدة في الشرق الأوسط يخلق ظروفاً ستستطيع معها روسيا أن تظهر كلاعب رئيسي في مجال الأمن الإقليمي. وفي رد على منتقدي مقالهما الأصلي، كتب زميلاي متابعة بعد أيام، والتي شرحا فيها الاستراتيجية الروسية: تقديم موسكو كـ”شريك بديل حيوي” لدول المنطقة. وفي ذلك الحين، تم انتقادهما بشدة على تقييمهما المتشائم ظاهرياً، والقائم على فكرة أن “قوة إقليمية” منهارة سوف تكون قادرة على إضعاف نفوذ القوة العظمى الوحيدة العالمية المتبقية في الشرق الأوسط، أو حتى أن موسكو لن يكون لديها ما تعرضه لتتنافس مع سخاء واشنطن.
لكن الأحداث التي وقعت منذ ذلك الحين أيدت تقديراتهما. فقد أصبحت اليد الروسية مرئية في كل مكان في الشرق الأوسط. وتترأس موسكو الجهود الرامية إلى نزع فتيل الحرب الأهلية السورية وتأسيس مناطق خفض النزاع بين مختلف الفصائل ورعاتهم الخارجيين. كما أدخلت روسيا نفسها في الموضوع الكردي الملتهب -سواء فيما يتعلق بأي منطقة كردية تتأسس في سورية في مقابل تركيا، أو فيما يتعلق بالجهود الخاصة التوصل إلى وضع نهائي للأكراد بين كردستان العراقية والحكومة في بغداد. ولعبت روسيا دوراً رئيسياً أيضاً في إدامة “الهلال الشيعي” عبر إيران والعراق وسورية، وهي منخرطة في مباحثات مباشرة مع السعودية ودول الخليج الأخرى حول كيفية الحفاظ على ميزان قوى هش في المنطقة.
وبالإضافة إلى ذلك، تقيم مصر وإسرائيل الآن خطوط اتصالات خاصة بهما مع الكرملين، وتريان في فلاديمير بوتين رجل دولة أكثر موثوقية، والذي يفعل ما يقول ويفي بالتزاماته. وكما يبدو، فإن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الذي يستعد لتشكيل محور استراتيجي جديد مع روسيا حول الطاقة والأمن اليورو آسيوي والتحالفات المستقبلية في الشرق الأوسط، يشارك في هذا التقييم. وكانت موسكو قد استضافت اجتماعات عدة لفصائل ليبية مختلفة ولأحزاب سياسية فلسطينية ولممثلين أكراد ولأعضاء في المعارضة السورية، كما يقوم قادة شرق أوسطيون بالسفر إلى موسكو بانتظام للتباحث مع الكرملين.
وفق كل الوجوه والمظاهر، فإن روسيا قد “عادت”. ومع ذلك، فإن الخطأ هو النظر إلى هذه التطورات من منظور تجربة الحرب الباردة. ومن نافلة القول الإشارة إلى أن روسيا المعاصرة ليست الاتحاد السوفياتي. لم يعد الكرملين مهتماً بنشر أيديولوجية معينة أو بالسعي إلى فرض أي نوع من الخيارات الثنائية على بلدان في المنطقة “للاختيار” بين موسكو وواشنطن. وهذا لأن روسيا ليست مهتمة بالتوقيع على فواتير ضخمة للمساعدات الأمنية والاقتصادية. ولا ترمي مقاربة روسيا القرن الحادي والعشرين إلى الحلول محل الولايات المتحدة التي تستمر في دفع قيمة الكثير من التكاليف المتعلقة بالأمن الإقليمي، وإنما العمل بدلاً من ذلك “كرهان تحوطي” للأنظمة في المنطقة للموازنة ضد تفضيلات الولايات المتحدة، وللحصول على خيارات لتجنب الاشتراطات الأميركية. ويقدم الكرملين نفسه كوسيط أكثر موثوقية من واشنطن، ويوفر معدات وقدرات تتردد واشنطن في تقديمها. وفي المقابل، يجعل هذا التطور خصوم الحرب الباردة السابقين في المنطقة -وخاصة تركيا ومصر والسعودية وإسرائيل- أكثر انفتاحاً على تطوير علاقات جديدة مع الكرملين.
كانت روسيا قادرة على إعادة تأسيس تواجدها لأن كل بلد في المنطقة، بعد عقدين من الجهود الأميركية التحويلية، أصبح الآن أكثر اهتماماً بالاستقرار. ومن الواضح أن واشنطن تفتقر إلى القدرة على الوفاء بوعودها المتسمة بالمبالغة الحمقاء، وحيث لا تتمتع أي إدارة رئاسية أميركية حالياً بموقف يتيح لها الالتزام بنشر أعداد ضخمة من القوات أو الموارد الأميركية. ويتجلى هذا الواقع في بحث الولايات المتحدة المتحدة الحثيث عن وكلاء غير موجودين -ديمقراطيين علمانيين ملتزمين، والذين يكونون مستعدين مع ذلك للقتال بالحماس نفسه وحس التضحية اللذين يقاتل بهما الجهاديون المتشددون- من أجل إدامة الجهود الأميركية في المنطقة. وكانت المجموعة الوحيدة التي أصبحت أقرب إلى الوفاء بالمعايير هي الأكراد، لكن التزامهم يضعف خارج المناطق ذات العرق الكردي تقليدياً، بينما يتم خلق تعقيدات جديدة في العلاقات الأميركية مع الحكومتين في أنقرة وبغداد.
يستند النهج الروسي في المنطقة إلى إدراك أن الحلول طويلة الأمد ليست ممكنة حالياً. وبدلاً من ذلك، تنصب جهود موسكو حالياً على وضع سلسلة مؤقتة من التسويات: مناطق خفض النزاع في سورية؛ ومحاولة إفشال دائرة الحكم الذاتي الكردي كأمر واقع في سورية مع منطقة أمنية تركية؛ والمحافظة على توازن بين المصالح السنية والشيعية في سورية وفي الأماكن الأخرى في المنطقة؛ وضمان قدرة إيران على الوصول إلى وكيلها حزب الله في لبنان، مع السماح لإسرائيل بتفعيل خطوطها الحمراء. ومن حيث الجوهر، فإن روسيا تعرض رؤى لفضاءات نفوذ وموازين قوى تعود إلى القرن التاسع عشر -حيث موسكو هي الشريك المفاوض الخارجي- الموجود بدلاً عن واشنطن مشتتة الانتباه التي تبشر برؤية القرن الحادي والعشرين غير المرتبطة بأي التزام فعلي بالموارد.
أصبح بوتين يحتل الآن مركز الاهتمام؛ حيث يُنظر إليه كرجل دولة عالمي وفي موقف النظير المعادل للولايات المتحدة. ومع ذلك، من الخطأ افتراض أن الجهود الروسية مدفوعة فقط بمساعٍ تتعلق بالمكانة والهيبة، والتي تتعلق بالنظر إليها كقوة عظمى. إن موسكو تتوقع أيضاً أن تجني فوائد مادية من سياساتها. وبالإضافة إلى التأكيد أن روسيا قوة كبرى، فإن الحسابات الروسية تُقدِّر أن عوائد لعب دور أكثر فعالية ونشاطاً في شؤون الشرق الأوسط يستطيع أن يخلق طلباً على السلع والخدمات الروسية، بدءاً بالأسلحة ومفاعلات الطاقة النووية -وعلى نحو خاص التكنولوجيات التي لا تريد الولايات المتحدة بيعها. وتعد منطقة الشرق الأوسط حاسمة بالنسبة لاستراتيجية روسيا الجيو-اقتصادية؛ حيث من المتوقع أن تحل تركيا بديلاً عن أوكرانيا كبلد ترانزيت لشحنات الطاقة الروسية إلى أوروبا، بينما تهدف الاستثمارات الروسية في العراق وليبيا إلى زيادة قدرة روسيا على إمداد أوروبا بالنفط. وفي الأثناء، تريد روسيا خلق طريق شمال-جنوب جديد، والذي يربط بين قلب الأراضي الروسية وبين الخليج العربي والمحيط الهندي.
أما الأكثر أهمية، فهو أن روسيا استخدمت نفوذها المكتشف حديثاً في المنطقة لإفشال الجهد الأميركي لاستخدام السعودية كنقطة ضغط على الاقتصاد الروسي. والآن، وبدلاً من التنافس ضد موسكو، تقوم الرياض بالتنسيق بنشاط مع الروس في جهد لوضع سعر “الحد الأدنى” للطاقة، للمساعدة على ضمان عوائد جيدة لكلتا الخزينتين. وبالإضافة إلى ذلك، وعلى ضوء عدم اليقين المستمر بأن العقوبات الغربية وُضعت لكي تجعل المؤسسات المالية الأوروبية والأميركية تفكر قبل إقراض روسيا أو تسهيل الاستثمار، فإن موسكو تأمل في متابعة اتجاه تأمين الأموال من مصادر شرق أوسطية لتصب في اقتصادها.
ما تزال روسيا تتعلم دروساً دبلوماسية قيمة من نشاطاتها في الشرق الأوسط على مدار الأعوام الأربعة الماضية -وهي الآن تتخذ الخطوات الأولى لتطبيقها في شرق آسيا باللعب على وتر المخاوف نفسها بين الشركاء والمنافسين الأميركيين على حد سواء في تلك المنطقة، من حيث عدم موثوقية الولايات المتحدة وعدم امكانية التنبؤ بأفكارها. ونحن نشهد الخطوات الأولى وهي تتجسد في الاجتماعات الصينية واليابانية والكورية مع فلاديمير بوتين حول الأزمة الكورية الشمالية -وحيث تأمل روسيا بأن تجلب لها جهودها الدبلوماسية في هذه الحلبة بعض المزايا الاقتصادية نفسها التي تأمل في جنيها من الشرق الأوسط.
خلال الحرب الباردة حاول الاتحاد السوفياتي التنافس مباشرة مع الولايات المتحدة -ووجد نفسه مغلوباً. واليوم، تنخرط روسيا في استراتيجية أكثر عقلانية. ويبدو حتى الآن أن هذه الاستراتيجية تجلب الأرباح.
نيكولاس غفوسديف
صحيفة الغد