مع اندلاع التظاهرات في أكثر من عشرين مدينة إيرانية مع أفول عام 2017، وجد القادة الأوروبيون أنفسهم في موقع دبلوماسي متزعزع. ولدى مقارنتها مع ردود الفعل الأوروبية على التحرك الأخضر في عام 2009، تعكس التصريحات الجديدة أولويّات الدول الأوروبية الأكثر استئناساً، ألا وهي حماية استثماراتها الدبلوماسية والمالية في الاتفاق النووي الإيراني.
والجدير بالذكر هو أن هذه التظاهرات اندلعت في مرحلة حرجة من العلاقات بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وإيران، حيث صادف وقوعها تمامًا قبل أن يحين موعد إعلان واشنطن عما إذا كانت قد قررت تمديد الإعفاء من العقوبات والحفاظ على التزامها بـ”خطة العمل الشاملة المشتركة”. فقد أوضح الاتحاد الأوروبي جليًا أنه يبدّي هذه الأخيرة على التظاهرات حينما استغل وزراؤه اللقاء المنعقد في 11 كانون الثاني/يناير مع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف لطمأنته إلى التزامهم بالاتفاق عوضًا عن التنديد بانتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكبها بلاده. ويعزى الاختلاف الملحوظ بين خطاب عام 2009 والخطاب الراهن جزئيًا إلى القيادات الأوروبية الجديدة وغيرها من الإجراءات الداخلية لدى الاتحاد الأوروبي، إلا أن توقيت التظاهرات وسياقها يرسمان على الصعيد الدولي صورةً معبّرة أكثر عن الأولويات الأوروبية.
فمنذ رفع العقوبات الدولية عقب تنفيذ “خطة العمل الشاملة المشتركة” عام 2015، باتت أوروبا حريصةً على المشاركة مع الجمهورية الإسلامية على الصعيدَين الدبلوماسي والاقتصادي.فقد أعادت المملكة المتحدة فتح سفارتها في طهران، ووقّعت الشركة الفرنسية “توتال” على صفقة نفط بقيمة 5 مليارات دولار في إيران، ووافقت شركة “إيرباص” الأوروبية على بيع مئة طائرة لشركة “إيران للطيران” عام 2016.
ودعمت التصريحات الأوروبية حول التظاهرات الأخيرة في إيران المتظاهرين بشكل عام في حين قامت بالتمويه حول قمع الحكومة الإيرانية للتظاهرات. وخلافاً لذلك، سعى المسؤولون في الحكومة الأمريكية إلى خطاب أكثر قساوةً وأعربوا بشكل واضح عن خيبة أملهم من التعليقات الأوروبية. وفي مقالة افتتاحية في صحيفة “واشنطن بوست”، كتب نائب الرئيس الأمريكي مايك بانس: “لسوء الحظ، لقد فشل عدد كبير من شركائنا الأوروبيين بشكل كبير في الحديث بوضوح عن الأزمة المتفاقمة في إيران. لقد حان الوقت لكي ينهضوا”.
كانت تظاهرات عام 2009 ضد النظام الإيراني ناتجةً عن ادعاءات الغش في انتخاب الرئيس محمود أحمدي نجاد ذاك العام. فتمّ اعتقال أكثر من 4 آلاف شخص وسيق 140 آخرين إلى المحكمة، فيما تُوفي 72 شخص. وكانت الاحتجاجات التي اندلعت في أواخر عام 2017 ناتجةً في الأصل عن سعر البيض في مدينة مشهد الإيرانية المقدسة وقد انتشرت إلى أكثر من عشرين مدينة في أولى أيّام عام 2018. وبالرغم من أنّ هذه التظاهرات لم تصل إلى حجم تظاهرات التحرك الأخضر، كان قمعها سريعاً. فابتداءً من 9 كانون الثاني/ يناير،اعتقلت الشرطة وقوّات الأمن الإيرانية أكثر من 3700 شخص وقُتل حوالي واحد وعشرين متظاهراً كان أربعة منهم في السجن. وفي عام 2009، ومجدّداً في عام 2018، كان الولوج إلى الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي محدوداً.
وارتكز تصريح الممثلة السامية للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية فيديريكا موغيريني في 2 كانون الثاني/ يناير على المبادئ العامة للقانون الدولي قائلةً: “تشكّل التظاهرات السلمية وحرية التعبير حقوقاً أساسية تُطبّق على كل بلد، ولا تشكّل إيران أي استثناء على ذلك”. كما أضافت موغيريني أنّها توقّعت أن يحجم “كل المعنيين” عن العنف وأن يضمنوا حريّة التعبير. ولاقى هذا التكافؤ الخاطئ انتقاداً واسعاً في الولايات المتحدة مع اعتبار أحد المسؤولين الكبار في إدارة ترامب بيانها “مريعاً”.
وفي آخر مرّة قمعت فيها الحكومة الإيرانية تظاهرات شعبية، نتج عن اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في لوكسمبورغ تصريحاً مشتركاً جاء فيه: “على السلطات الامتناع عن استخدام القوّة ضد التظاهرات السلمية. نحثّ السلطات الإيرانية على ضمان منح كل الإيرانيين حق التجمّع والتعبير عن أنفسهم بشكل سلمي”. بالإضافة إلى ذلك، استدعت خمس دول أوروبية هي فرنسا وهولندا وجمهورية التشيك والسويد وفنلندا السفراء الإيرانيين ليفسّروا عنف الشرطة وادعاءات التدخّل في الانتخابات.
وفي عام 2009، كان تصريح رئيس الوزراء البريطاني غوردن براون صريحاً أكثر أيضاً، إذ قال: “نضمّ صوتنا إلى صوت الآخرين… في التنديد باستخدام العنف وفي التنديد بقمع الإعلام”. وأضاف براون أنّه “على إيران الآن الإظهار للعالم بأنّ الانتخابات كانت عادلة… وبأنّ القمع والهمجية اللذين شهدناهما خلال الأيّام القليلة الأخيرة لن يتكررا”.
وبالمقارنة مع عام 2009، عبّر مسؤولون بريطانيون كبار هذا العام بحذر عن قلقهم حيال التظاهرات في إيران. ففي 1 كانون الثاني/ يناير، كتب وزير الخارجية بوريس جونسون منشوراً على فيسبوك يقول فيه: “نعتقد أنّه يجب أن يكون هناك حواراً بناءً حول المسائل الحقّة والمهمّة التي يطرحها المتظاهرون ونتوقّع من السلطات الإيرانية السماح بذلك” و”نأسف على خسارة الأرواح التي حصلت خلال التظاهرات في إيران وندعو كافة المعنيين إلى الامتناع عن استخدام العنف واحترام الالتزامات الدولية لحقوق الإنسان”. وبعد يوم على هذه التصريحات، كان هذا الردّ المضبوط منتشراً بالكامل عندما ردّد المتحدّث باسم رئيسة الوزراء تيريزا ماي هذا الخطاب بشكل شبه حرفي.
ويشكّ البعض في أنّ هذه التصريحات المتحفّظة نسبياً قد تكون نتيجة نازنين زاغري رتكليف، وهي صاحبة الجنسيتَين والموظّفة في وكالة تومسون رويترز والتي تقضي فترة سجن من خمس سنوات بعد اتهامها بالتآمر للإطاحة بالجمهورية الإسلامية. يُقال إنّ بوريس جونسون فاوض للإفراج عن زاغري رتكليف خلال رحلته إلى إيران في أوائل شهر كانون الأوّل/ ديسمبر، وذلك بعد أن أفادت تقاريربأنّ الحكومة البريطانية مستعدّة لدفع مبلغ 450 مليون جنيه إسترليني للزيادة من حظوظها في العودة إلى بريطانيا.
ومن عام 2009 إلى عام 2018، انتقل القادة الفرنسيون من انتقاد النظام الإيراني بشكل حادّ إلى التعاطف مع المسائل التي يطرحها الرئيس الإيراني. وفي أعقاب التحرك الأخضر، ردّ الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي قائلاً: “تدّعي السلطة الحاكمة أنّها فازت بالانتخابات… إن كان ذلك صحيحاً، نسأل لماذا ترى من الضروري سجن معارضيها وقمعهم بعنف مماثل”. مضيفاً أنّه “كان قلقاً حيال الوضع في إيران” و” أنّ الشعب الإيراني يستحقّ شيئاً مختلفاً”.
وخلافاً لذلك، حثّ الرئيس إمانويل ماكرون في ردّه الأخير الرئيس روحاني إلى “إظهار التحفّظ” واحترام حريّة تعبير شعبه وتظاهراته، كما لو أنّ القمع لم يحصل. وفي اليوم التالي، تابع ماكرون منتقداً “الخطّ الرسمي” للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل والمملكة العربية السعودية، قائلاً إنّ لهجة تعليقاتهم حيال طهران هي “قريبة من لهجة قد تقودنا إلى الحرب”.
وقد كانت فرنسا المستفيد الأكبر من الاستثمارات في فترة ما بعد العقوبات في إيران. فمن المرجح أنّ ماكرون يحاول حماية صفقات أجرتها شركات فرنسية كبرى مثل “بيجو” و”إيرباص” و”توتال”، ويحاول في الوقت عينه الحفاظ على العلاقة الدبلوماسية الإيجابية التي بنتها فرنسا مع إيران. وبقيامه بذلك، أعطى الرئيس ماكرون انطباعاً بأنّه يتعاطف مع خطاب روحاني.
كما أنّ التصريحات الحكومية الألمانية الأخيرة تستخدم خطاب “كل الأطراف” نفسه الذي يستخدمه الاتحاد الأوروبي، فقد قال وزير الخارجية سيغمار غابرييل في 1 كانون الثاني/ يناير: “من المهمّ أن تمتنع كل الأطراف عن أعمال العنف”. وبعد يومَين، قامت المتحدّثة باسم الحكومة أولريكي ديمير بالتصريحات الأكثر تعاطفاً مع المتظاهرين قائلةً: “تعتبر الحكومة الألمانية أنّ التظاهرات هي محقّة وتستحقّ احترامنا عندما يتمتّع الشعب بالشجاعة للنزول إلى الشارع بهمومه الاقتصادية والسياسية، كما هو الحال في إيران حالياً”.
وقد ظهر غابرييل في 7 كانون الثاني/ يناير على التلفزيون الألماني الثاني لدعوة وزير الخارجية الإيراني ظريف إلى أوروبا قائلاً “لقد اتفقنا مع الممثلة السامية للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية (فيديريكا موغيريني) على دعوة وزير الخارجية الإيراني الأسبوع المقبل إن أمكن”.
وخلافاً للتصريحات الحالية، كانت التصريحات الألمانية في عام 2009 أكثر صراحةً وقوة. فقد انتقدت المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل استخدام “قوة غير مقبولة بالكامل ضدّ المتظاهرين” و”موجة الاعتقالات” خلال التظاهرات. وقد قالت في تصريح لها: “تصطفّ ألمانيا إلى جانب الشعب الإيراني الذي يريد ممارسة حقّه في حريّة التعبير عن الرأي والتجمّع الحرّ”.
قد تغضّ أوروبا النظر عن قمع المتظاهرين في إيران وتحثّ على الحوار في الوقت الراهن وتتّكل على قدرة الرئيس الإيراني روحاني على إخماد التظاهرات بهدوء. ولكن إذا انفجرت المعلومات الآتية من إيران وظهرت عمليات قمع أكثر همجيةً، قد تُضطر أوروبا إلى الردّ بشكل أقوى مغضبةً إيران ومعقّدةً العلاقة الأمريكية-الأوروبية المتزعزعة أساسًا.
إريكا نجيلي
معهد واشنطن