ملخص
تتحدث الورقة عن ثلاثة تحديات أساسية تواجه المكون السنِّي في لبنان، ألا وهي: الموقف من إيران ومن “المقاومة” ومن “الربيع العربي”، باعتبار أنها تستبطن محاذير عدة، منها أن الصعود الإيراني “المذهبي” يدفع المكون السني نحو إعادة تعريف علاقته بالمكون الشيعي ما يزيد من فرص “الاحتراب المذهبي” بينهما خاصة وأن فشل الحوار بين حزب الله وتيار المستقبل قد يفتح الباب واسعًا أمام صراع جديد وربما نشهد فاعلين جددًا في المكون السني. ومن المحاذير أيضًا اختلاف الفاعلين السنَّة في تعريف بعض ما يجري في الإقليم، كما اختلفوا في تفسيرهم لـ”الربيع العربي” وما يتصل به من قضايا ومفاهيم مثل “الحرب على الإرهاب” و”الاعتدال”؛ ما قد يسمح للصراعات البينية الموجودة في المكون السني في الإقليم (سوريا والعراق) بالانتقال إلى داخل ساحتهم، فتصبح القسمة فيها أشبه بـ”صحوات ومتمردين”، ولو بصورة أقل حدَّة وبعناوين مختلفة تتناسب والوضع اللبناني.
المقدمة
تعرض المكون السني(1) في لبنان لإعادة تعريف مرتين: إحداها بعد استقلال لبنان عن الدولة العثمانية وتخلِّيه عن “سوريا الكبرى” عام 1943، وأعاد صياغة نفسه كأحد “الأقليات” الكبيرة في لبنان تحت حكم ما سُمِّي حينها “المارونية السياسية” والتي تشير إلى تحكم “المسيحيين الموارنة” بالكيان اللبناني الوليد. والأخرى بعد اتفاق “الطائف” عام 1989 الذي جاء -كما يُفترض- ليخفف من حدة الطائفية بين المسلمين والمسيحيين، فإذا به في أعقاب مقتل الرئيس رفيق الحريري عام 2005 يؤجِّج نزاعًا مذهبيًّا بين “السنة والشيعة” بسبب التحكم السوري بمخرجات “الطائف” السياسية، وليبلغ “التناقض المذهبي” بينهما حدًّا خطيرًا بعد اندلاع “الحراك الثوري العربي” بسبب مشاركة حزب الله عسكريًّا في “الأزمة السورية”؛ ما جعل “الغضب” وإعادة “تعريف الذات”، هو العنوان الأبرز مجددًا للمكون السني ولجل جمهوره الصامت والفاعل(2).
ولكن المكون السني يعاني منذ “الطائف” من عدم انسجام أبرز الفاعلين فيه وضعفهم(3)، وهم: تيار المستقبل، والجماعة الإسلامية، وهيئة العلماء المسلمين، ورئاسة الوزراء، ودار الإفتاء، والأحزاب القومية. وذلك تبعًا لاختلاف مواقفهم إزاء مجموعة من التحديات التي واجهتهم والتي من المتوقع أن تكون لها تأثيرها مستقبلًا على تصورهم لأنفسهم ولدور ووظيفة “المكوِّن السني” في لبنان وعلاقته بالإقليم.
ويمكن حصر التحديات في ثلاثة رئيسة، هي: “العلاقة مع إيران”، والموقف من “المقاومة ضد إسرائيل”، والموقف من “الحراك الثوري العربي” أو ما يُسمَّى “الربيع العربي”.
1- الموقف من إيران
كان التيار الإسلامي في لبنان إلى العام 2005 لا يزال يحظى بعلاقات جيدة مع إيران، وكان مصطلح “الحركة الإسلامية” يُستعمل في لبنان للدلالة على الحركات الإسلامية السنية والشيعية التي تجمع بينها علاقات خاصة، خاصة الجماعة الإسلامية وحزب الله، كما أن رفيق الحريري، زعيم تيار المستقبل، إلى حين اغتياله (عام 2005) كان يحرص على علاقة جيدة مع طهران على أن لا تتناقض مع النظام العربي عمومًا، وأن لا تعترض طريق العلاقة “الخاصة جدًّا” بين لبنان والسعودية، وهو ما كانت إيران ترضاه بسبب وقوع لبنان في دائرة نفوذ الحليف السوري، الذي يهيمن جيشه ومخابراته على الداخل اللبناني، وهذا فضلًا عن الاتفاقات السياسية والعسكرية والاقتصادية التي ربطت لبنان بدمشق.
ولكن برزت إيران في العقدين الأخيرين كأحد الفاعلين الأكثر نفوذًا في إقليم غالبه سني يمثل المحيط الطبيعي لسُنَّة لبنان؛ حيث امتد نفوذ طهران من لبنان إلى العراق وسوريا وقفز إلى صنعاء، ويضم تحالفًا من المجموعات الشيعية الناشطة في الإقليم تحت عنوان “المقاومة الإسلامية” ضد إسرائيل وأميركا وحلفائهما في المنطقة، يلعب فيها “حزب الله” اللبناني دور النخبة، فتغيرت رؤية الفاعلين السنة الأبرز لدور إيران في المنطقة، ومنهم تيار المستقبل والجماعة الإسلامية، وكذلك جُلُّ جمهور المكون السني، والذي يرى -بحسب الرواية الأكثر حذرًا- أن إيران تريد حُكم الإقليم أو التحكم به وبالتالي تهشيم السنة أو تهميشهم، ووفق هذه الرواية فإن “السنَّة مستهدفون”. ولا يمكن المجادلة في أن هذا ليس شعور أغلبية المكون السني في لبنان فحسب لا بل في منطقة المشرق العربي عمومًا، لذا لن يقف التقرير عنده مطولًا، والأدلة عليه بالنسبة لأصحابه واضحة، ليس أقلها تصريحات قيادات ومسؤولين إيرانيين، تتسم –حسبهم- بالسمة المذهبية وتعبِّر عن طموحات إيران للهيمنة على المنطقة(4)، ومن أعظمها: “الحروب المذهبية” التي تخوضها إيران في المنطقة العربية بالوكالة والتي من أبرزها معركة حزب الله في بيروت عام 2008، وفي سوريا والعراق حاليًا، وسيطرة ميليشيات شيعية -تكوَّنت في إيران- على العراق، وحرب أنصار الله الحوثيين في صنعاء نهاية عام 2014 وخلال عام 2015، أي في عاصمتين عربيتين حيث لا إسرائيل ولا أميركا.
ولكن هذه الصورة لا تزال تقف بجانبها صورة أخرى في مخيال بعض سنَّة لبنان وتحديدًا لدى جُلِّ “الأحزاب القومية” والتي تكاد تكون مجهرية حاليًا، فالسنَّة تاريخيًّا هم الآباء المؤسسون للمقاومة ضد إسرائيل ولمواجهة “الإمبريالية” الأميركية، وتحديدًا مع المقاومة الفلسطينية والمدِّ القومي العربي، وحزب الله ليس مجرد حزب شيعي وإيران ليست مجرد دولة فارسية مذهبية طامعة في السيطرة على العرب والسنَّة، بل هي استلمت مشعل “محور المقاومة” التاريخي الذي كانت تحمله “المرحلة الناصرية”، الذي يحول دون هيمنة إسرائيل على المنطقة، أما الاختلافات الدينية والقومية مع هذا المحور فهي صفات ثانوية وليست هي المؤثر الأكبر في الحكم عليه، مع الإقرار بأنه يصيب ويخطئ، ويقع في الطائفية أحيانًا كما هو الشأن مع بقية الفاعلين في المنطقة، إقليميين أو محليين. ومن المهم الإشارة إلى أن الموقف من سوريا لدى هذا الفريق هو جزء من موقف “المقاومة” وخلاصته أن سوريا “المقاومة والممانعة” مستهدفة وليس “بشار الأسد”، وليس الهدف “مما يسمى الربيع العربي إلا تقسيمها والبديل لن يكون ديمقراطيًّا، ومصالحه تصبُّ عند أميركا وإسرائيل”(5). ويسعى “أنصار محور المقاومة” من السنَّة للقول بأن هاتين الصورتين تشكِّلان عنوان الانقسام في الساحة السنية إزاء الموقف من إيران ومحورها، رغم إقرارهم بأنهم يشكِّلون أقلية في الجمهور السني اللبناني، باعتبار أن “الأغلبية هي ضحية الجو الطائفي الغالب في المنطقة”.
ويمكن الجزم بالفعل بأن الجمهور الأعظم والأغلب لدى السنَّة في لبنان هو حاليًا في مزاج مُعادٍ للمحور “السوري-الإيراني”، وهناك سعي لتجذير الموقف الرافض لإيران “الفارسية وولاية الفقيه”، كما توصف من خصومها، وأسهمت إيران بسياساتها في لبنان وسوريا والمنطقة بتحفيز أسباب العداء لها لدى هذا المكوِّن الذي يتجه نحو إعادة تعريف علاقته بها في اللحظة الراهنة وفق الصورة الأولى التي تقول: “إنهم مستهدفون” منها، وإن طهران بمثابة “عدوهم المحلي” في الكيان اللبناني، ولا يرون في الملتحقين من المكون السنِّي بالمحور “السوري-الإيراني” إلا أقلية مجهرية “مستفيدة”، وظيفتها في هذا المحور فقط التخفيف من الصورة المذهبية للهيمنة الإيرانية في لبنان على الأقل.
ولكن هناك دائمًا رهان من قوى الإقليم ومنها إيران، على أن متطلبات السياسية من تمويل وزعامة وبحث عن نفوذ قد تدفع “بأمراء الطوائف” في لبنان ومنهم السنَّة للانتقال من اليمين إلى الشمال ومن محور لآخر، وإذا استثنينا إمكانية حدوث انقلاب في اصطفافات الإقليم وعدم إهمال الدول العربية المؤثرة لتطورات الوضع في لبنان، فإن هذا التحول صعب هذه المرة في المدى القريب، خاصة إذا لم تغيِّر إيران من سياستها التي ما زالت تعتمدها إزاء لبنان والمنطقة.
2- المكوِّن السنِّي والمقاومة
كان المكون السنِّي خلال الحرب الأهلية اللبنانية يشكِّل العصب الثقافي والسياسي للمقاومة ضد إسرائيل، وأخذت مساهمته فيها تتراجع مع خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت عام 1982 وبالتوازي مع تصاعد نفوذ حركة أمل وحزب الله في السلطة واكتمال بنيتهما المذهبية سياسيًّا في الكيان اللبناني، لاسيما أن الاحتلال الإسرائيلي كان قد انحسر مبكرًا عن معظم المناطق السنية، والتي كان من أهمها صيدا عام 1985، واستقر في شريط يغلب على سكانه انتماؤهم للمكوِّن الشيعي لفترة من الزمن، كانت كافية لإعادة تحفيز المقاومة وصياغتها بمفهوم جديد بعيد عن النسخة “الوطنية” استعار الكثير من مفرداتها من التراث الشيعي المتشبع بتأثيرات “الثورة الإسلامية في إيران”، وساعدت على ذلك السياسة التي اتبعها النظام السوري بحصر المقاومة في “حزب الله” دون غيره، باعتبار أن سلاحه هو الوحيد “سلاح مقاومة” وكل ما عداه حتى، ولو كان في مواجهة الاحتلال، هو سلاح ميليشيات.
وهو الأمر الذي دفع حزب الله لاحقًا لتأسيس ما سماه: “سرايا المقاومة” لإعطاء الفرصة لبقية المكونات الوطنية اللبنانية من الطوائف الأخرى للمشاركة في المقاومة تحت إشرافه ودعمه، وضمت مجموعات متنوعة بعضها من المكون السني تحولت بعد معركة بيروت 2008 إلى قوة مسلحة مؤيدة لحزب الله وللمحور “الإيراني-السوري”، وتنشط أمنيًّا ضد الفاعلين السنَّة الأساسيين في بيئاتهم؛ ما أثار جعل بعض قوى 8 آذار تغضب من المكون السنِّي، المؤيد لحزب الله في مدينة صيدا، فدعت لإيقاف عمله و اتهمته بأنه يضم “مجرمين وليس “مقاومين”(6).
وعلى العموم، يمكن التأريخ لالتفات المكون السنِّي اللبناني إلى قضيته الخاصة كـ”أقلية سياسية” -رغم حجمهم الديمغرافي المعتبر- وإعطائها الأولوية حتى على قضية “المقاومة” بدءًا من لحظة اغتيال رفيق الحريري عام 2005 حيث أصبح بند الاعتراف بالمقاومة على بيانات تشكيل الحكومات اللبنانية موضع نقاش من تيار المستقبل وحلفائه للحدِّ من استفادة حزب الله منه في الشأن الداخلي(7)، وتعزز هذا الرفض داخل المكون السنِّي بعد اجتياح حزب الله لبيروت عام 2008 ما ألقى ظلالًا كثيفة من الشك حول مفهوم “المقاومة”، وزادت “القناعة” داخل هذا المكوِّن بأن وظيفة حزب الله ليست مقتصرة على مواجهة إسرائيل بل هي أيضًا أحد أدوات “إيران الناعمة والخشنة” التي تستعملها وفقًا للحاجة وللظروف بهدف تعزيز نفوذها في الداخل اللبناني. وبعد الأحداث في سوريا وتدخل حزب الله هناك وما لحق ذلك من تطورات “الربيع العربي” (2011)، وضعف العلاقة بين حزب الله وحماس كرأسين للمقاومة في لبنان وفلسطين، أصبح “مشروع المقاومة” بالنسبة لشريحة واسعة من المكون السني هو عنوان لكل المقاتلين “الطائفيين” إلى جانب إيران من الميليشيات في لبنان وسوريا والعراق ومؤخرًا في اليمن.
هذا يقود إلى أن تصاعد مخاوف المكون السني أحدث خللًا في أولوياته، فتراجعت المقاومة في سلَّم أولوياته أمام تقدم التهديد الإيراني، جاء في معظمه في سياق المواجهة مع الصعود المنظم “للشيعية الإيرانية” في لبنان والمنطقة، التي جعلت “المقاومة” في لبنان جزءًا من محور يعبِّر عن مصالح وطموحات إيران بما يتجاوز الصراع مع إسرائيل إلى التأثير سلبًا على مكانة المكون السني في لبنان وعلاقته بالإقليم، خاصة وأن النظام اللبناني يقوم على موازين دينية ومذهبية دقيقة جاءت في أعقاب حرب أهلية دامت 15 عامًا.
ولكن لا يمكن إغفال أن الفاعلين السنَّة من التيار الإسلامي والقوميين هم من المؤيدين الطبيعيين للمقاومة ضد إسرائيل بعيدًا عن “الاستغلال الإيراني” لها، بل يعتبرون “المقاومة” جزءًا من هويتهم التنظيمية والوطنية وهي إحدى العلامات الفارقة لهم والتي كانت تضعهم في مواجهة تيار المستقبل الذي ينتمي في موقفه من “المقاومة ضد إسرائيل” إلى النظام الرسمي العربي، في حين مثلًا تتمسك الجماعة الإسلامية وهيئة العلماء المسلمين بالمقاومة كجزء من الواجبات الوطنية الملازمة لوجودهم في الكيان اللبناني.
ويمكن الجزم راهنًا بأن مفهوم المقاومة الذي صاغته إيران لم يعد جزءًا من قوتها الناعمة في لبنان وأن غالبية المكون السنِّي يراه تهديدًا له ويعتبره -ولو بتفاوت- في يد حزب الله “سلاحًا مذهبيًّا” “ومطيَّة للنفوذ الإيراني” فضلًا عن كونه “مقاومة”. ولكن من جهة أخرى يمكن الجزم بأن الراعي الوحيد لمشروع “المقاومة” ضد “إسرائيل” في لبنان بالمال والسلاح هو إيران، وأن من يملك القدرة الفعلية على مواجهة إسرائيل هو “حزب الله”، وفي ظل غياب أية رؤية عربية للتعامل مع الاحتلال الإسرائيلي سواء للأراضي اللبنانية -مع العلم أن مزارع شبعا المحتلة كل سكانها من المكون السنِّي- أو في فلسطين، والحال هذه تبقى قضية “المقاومة” عرضة للاستعمال وللاستغلال في الشأن الداخلي اللبناني، كما أنها من القضايا الرئيسية التي تسكن وجدان “المكون السنِّي” وتؤثر على توجهات وتحالفات الفاعلين السنة في لبنان، وعلى رؤيتهم لواقعهم ومستقبلهم في الكيان اللبناني.
3- الصف السنِّي والربيع العربي
شهدت المنطقة منذ اندلاع الحراك الثوري العربي في المنطقة تبدلات متسارعة؛ حيث سقطت أنظمة محسوبة على “الاعتدال العربي”، منها مصر التي فاز فيها بانتخابات الرئاسة محمد مرسي عن جماعة الإخوان المسلمين، ونشأ بفعل ذلك ما يمكن وصفه بنواة محور جديد في المنطقة ضمَّ تركيا وقطر ومصر، لم يستمر طويلًا بانقلاب الفريق عبد الفتاح السيسي على الرئيس مرسي. وفي هذا السياق بادرت السعودية إلى وقف تداعيات الربيع العربي التي تعتبرها خطرًا على أمنها، فساندت حكم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في مواجهة “الإخوان المسلمين” في مصر ووضعتهم على لائحة المنظمات الإرهابية(8)؛ ما انعكس في لبنان على علاقة تيار المستقبل مع عموم التيار الإسلامي في لبنان وبخاصة الجماعة الإسلامية وهيئة العلماء المسلمين، وتبدَّى مشهد الطائفة السنية في لبنان كأنه يسير نحو انقسام بين هذين الفريقين، مع ما لذلك من تداعيات على الجمهور السنِّي الذي كان لا يزال موحَّدًا في غالب المفردات السياسية التي يستعملها، ومن أبرزها: “المحكمة الدولية” لقَتَلة الحريري، وتأييد “الثورة السورية”، ونزع سلاح الميليشيات، ورفض “الهيمنة الإيرانية”. وأخذت مفردات جديدة تتسع أكثر لخطاب تيار المستقبل حتى بات يشبه خطاب حزب الله من قبيل: رفض “التطرف الإسلامي”، و”محاربة الإرهاب”، و”الفكر التكفيري”، والمراد بها جميعًا أنشطة بعض المكونات السنِّية مثل الشيخ أحمد الأسير، وأصبح “الاعتدال” علَمًا على تيار المستقبل في هذه المرحلة وعنوانًا للحوار الذي فتحه مع حزب الله ولا يزال جاريًا، مع التأكيد على أنه في سياق “ربط النزاع” بين الطرفين ولا يخرج عنه.
ومع التغييرات الأخيرة الملموسة في سياسة السعودية مرة أخرى إزاء الربيع العربي؛ حيث تقدمت عليه أولويات أخرى باستلام الملك سلمان بن عبد العزيز الحُكم، وأصبحت الأولوية على الأجندة السعودية خطر “أنصار الله” الحوثيين في اليمن وتمدد إيران في المنطقة العربية من جهة(9)، والخشية من التشدد الديني وتمدد “تنظيم الدولة” جغرافيًّا وفكريًّا من جهة أخرى، شهدت العلاقة مع حركة الإخوان المسلمين تحسنًا، ما يعني أن تحسنًا كبيرًا في العلاقة بين تيار المستقبل والتيار الإسلامي أصبح أمرًا ممكنًا ومتوقَّعًا إلى حدٍّ بعيد. ولكن العلاقة بينهما ستبقى مشوبة ببعض الحذر لأن تيار المستقبل مسكون بهاجس “الاعتدال” وفق منظوره الخاص الذي قد يخالفه النشطون الإسلاميون السنَّة فيُغضبوا حلفاءه المحليين خاصة من المسيحيين فضلًا عن حلفائه الإقليميين، بينما لم يتجاوز هؤلاء النشطون الإسلاميون صدمة اعتبار المستقبل لهم سابقًا أنهم أشدُّ خطرًا من إيران وحزب الله على لبنان والمنطقة، خاصة وأن تيار المستقبل ترجم هذا التوجه في خططه الأمنية التي قادها وزير الداخلية، نهاد المشنوق، بالتعاون مع حزب الله وقوى 14 آذار ولم تُراعَ مخاوف التيار الإسلامي وهواجسه حتى ظنَّ أنه المستهدف الوحيد منها(10).
تلاقى المستقبل وخصومه التقليديون، قوى 8 آذار ومنهم حزب الله في مواجهة مفاعيل الربيع العربي، وكاد المكون السنِّي اللبناني ينشق على نفسه حتى أبدى بعض إسلاميي لبنان وبعض النخب من المكون السني -قبل أن تتغير السياسة السعودية في الإقليم- خشيتهم من أن يُضرَب السنَّة بعضُهم ببعض في سياق السياسة “الإقليمية” المسماة “محاربة الإرهاب”، وهو ما حاول أن ينفيه المشنوق عندما قال: “لن نقبل بتحويلنا الى قادة صحوات” في لبنان(11).
ولا تزال تجربة “الربيع العربي” وتقلباته تطرح أسئلة صعبة على الفاعلين اللبنانيين عمومًا حول كيفية تعاملهم مع حاجات الإقليم عند طغيان أولوياته على الأولويات اللبنانية المحلية حين يقع التعارض بينهما، وهو ما عجز عن التعامل معه الفاعلون في المكون السنِّي، في إدارة اختلافاتهم فيما بينهم حتى كادوا ينشطرون إلى فريقين متخاصمين أو على الصعيد الوطني حيث تخلَّوا عن ثوابت أساسية طالما التزموا بها والتي من أبرزها أن تطبيق الأمن والقانون على الجميع دون استثناء.
سُنَّة لبنان والمستقبل
يجادل الفاعلون السنَّة في لبنان بأن لا “مذهبية” ولا “طائفية” منظمة في “المكون السنِّي” محكومة باستراتيجية طائفية بعيدة المدى أو بنموذج خاص “للدولة والحكم” بحيث يتماهى مع بعض أطروحات المنظمات الجهادية لاسيما العابرة للحدود، كالتي في الجوار السوري، بل إن أكثرية هذا المكون مسكونة بروح الأكثرية المهمشة الخائفة من “التنكيل السياسي” من قِبل المحور الإيراني-السوري الذي يخلق أوضاعًا جديدة بما قد يغيِّر اتفاق الطائف إمَّا من حيث ظروف تطبيقه أو من حيث نصه، وأن اطمئنانها من هذه الجهة سيعيد تفعيل دورها المتوقع منها كقاطرة وطنية لبقية الطوائف الأخرى.
ووفق هذا التفسير فإن حرب حزب الله في سوريا لها وظيفة لبنانية تتصل بتحسين ظروف أي اتفاق إقليمي قادم لمصلحة “المكوِّن الشيعي في لبنان”، وإن كان هدفها الأساس تحسين ظروف “محور إيران” في الإقليم، ويصبح -وفق التفسير نفسه- قلق أغلب الفاعلين السنَّة اللبنانيين من “سلاح” حزب الله محليًّا ودوره إقليميًّا مضاعَفًا، وقد يقود لخيارات متشددة ما لم تتغير الأوضاع أو توفر بدائل أكثر اعتدالًا.
هذا التحدي الاستراتيجي بصورته الإقليمية والمحلية، بالنسبة للفاعلين السنَّة الأساسيين، سواء كانوا تيارات أو أحزابًا أو شخصيات، لا يزال يدفعهم للتكتل خلف “تيار المستقبل” باعتباره الوحيد الذي يملك القدرة على حماية “المكون السنِّي” بفضل امتلاكه امتدادًا وعُمقا عربيًّا داعمًا بقوة والمقصود به السعودية، ويكاد يكون الفاعل الوحيد كقوة منظمة في داخل السلطة اللبنانية بل هو أحد أهم مهندسيها بعد اتفاق الطائف. لهذا فهم قد ينتقدونه وبقسوة لأنه يستغل أدوات السلطة اللبنانية ليحتكر تمثيل المكون السني ويحصر صلاحية محاورة حزب الله أو قوى الثامن من آذار، وينكر ذلك على غيره، لكنهم يحرصون على عدم الدخول معه في مواجهات مفتوحة، ويكتفون بملء الثغرات السياسية ومراحل الفراغ السياسي التي يتركها ويزاحمونه في بعض المناطق إذا لم يجدوا سبيلًا للتكامل معه.
ولكن هذا الاحتماء بتيار المستقبل لن يستمر لأمد بعيد، لأن التجربة السابقة أثبتت أن تيار المستقبل يقود المكون السني في زمن انتعاش الانتخابات والمؤسسات والتحاور الوطني وهي السياسة التي يجيدها، أما عند الأزمات التي تستدعي اضطرابًا أمنيًّا فإنه يتراجع ويتقدم الإسلاميون -كما هي حالة الأسير وهيئة العلماء المسلمين- لا بل قد يخرج من الساحة تمامًا وينعكس ذلك عليه وعلى قوى 14 آذار ضعفًا محليًّا وإقليميًّا، وهو ما حصل معه في الفترة السابقة(12)، حتى قيل: إن الجمهور السني، بالنظر إلى الخيارات المتاحة، ينتخب مع المستقبل في زمن الاستقرار، لكنه هو نفسه من يقاتل إلى جانب الإسلاميين دفاعًا عن نفسه في زمن الاضطراب، والدافع في كليهما الخوف من المستقبل(13).
وهذا لا ينفي أن الفاعلين السنَّة الأساسيين يُجمعون على الحؤول دون تسرب التشدد إلى الديمغرافية السنية والذي تتمثل مصادره في جماعة القاعدة (جبهة النصرة وشقيقاتها) وتنظيم الدولة الإسلامية، لكنهم يُجمعون على أن “النزاع المذهبي” المستعر بالمنطقة” و”سلاح حزب الله المقترن بالهيمنة” في الداخل هما من أبرز مبرراته.
وتتعزز المخاوف من ازدياد الاستقطاب المذهبي في لبنان في ظل التمدد الحوثي في اليمن وحملة “عاصفة الحزم” التي أعلنتها السعودية في مواجهته، لأن تضاؤل فرص الحوار بين إيران والسعودية تنعكس سلبًا على الحوار اللبناني الداخلي الذي لا يزال مستمرًّا بين حزب الله وتيار المستقبل. ولا يزال هذان الطرفان يؤكدان الحرص على عدم إيقاف الحوار رغم أنه فقد فعاليته، لأن في مجرد استمراره تهدئة للاحتقان المذهبي الذي يتصاعد في المنطقة، كما أنه يقطع الطريق على تصدر فاعلين آخرين للمكون “السنِّي” من خارج المشهد السياسي الحالي، وبهذا الاعتبار فإن “الحوار” الحالي هو محطة أو مفترق ينتظر اكتمال المشهد الإقليمي وبعدها يمكن الحديث عن مشهد لبناني مختلف أو جديد.
__________________________________
شفيق شقير – متخصص بالمشرق العربي والحركات الإسلامية
أهم المصادر
1- هذا التقرير هو الثاني عن الفاعلين السنة في لبنان، وهو بمثابة تتمة للأول الذي يمكن العودة إليه وفق المرجع التالي: شقير، شفيق، خريطة الفاعلين السُّنَّة في لبنان التركيبة والتوجهات، مركز الجزيرة للدراسات، 17 مارس/آذار 2015.
http://studies.aljazeera.net/reports/2015/03/201531681918560956.htm
وتم إعداد هذا التقرير كما شأن سابقه على ضوء مقابلات أجراها الباحث مع مجموعة من المعنيين اللبنانيين من الناشطين السياسيين وعلماء الدين والباحثين والصحافيين، منهم: الصحافي في صحيفة الحياة حازم الأمين، والدكتور في الجامعة الأميركية أحمد الموصللي، والباحث وسام سعادة، والمحامي الدكتور طارق شندب، ومدير مكتب الجزيرة مازن إبراهيم، ومراسلا الجزيرة في بيروت: إيهاب العقدة وعفيف دياب. والمجموعة الأكبر طلبت التحفظ على ذكر أسمائها.
2- قواص، محمد، السُنّة في لبنان حكاية غضب، ميدل إيست أونلاين، 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2011
http://middle-east-online.com/?id=142368
تاريخ الدخول 7 أبريل/نيسان 2015
3- – أبو زيد، ماريو، هل لايزال سنّة لبنان من دون زعيم بعد عشر سنوات على اغتيال الحريري، مركز كارنيغي، 13 فبراير/شباط 2015
http://carnegie-mec.org/2015/02/13/%D9%87%D9%84-%D9%84%D8%A7%D9%8A%D8%B2%D8%A7%D9%84-%D8%B3%D9%86-%D8%A9-%D9%84%D8%A8%D9%86%D8%A7%D9%86-%D9%85%D9%86-%D8%AF%D9%88%D9%86-%D8%B2%D8%B9%D9%8A%D9%85-%D8%A8%D8%B9%D8%AF-%D8%B9%D8%B4%D8%B1-%D8%B3%D9%86%D9%88%D8%A7%D8%AA-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A7%D8%BA%D8%AA%D9%8A%D8%A7%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D9%8A%D8%B1%D9%8A/i2oh
تاريخ الدخول 12 أبريل/نيسان 2015
4- من أبرزها ما تصريحات علي يونسي مستشار الرئيس الإيراني حسن روحاني لشؤون القوميات والأقليات الدينية، اعتبر خلالها العراق جزءا من إيران، ما استدعى توضيحا من رئيس مجلس الشورى علي لاريجاني.
انظر، لاريجاني: إيران لا توسع نفوذها في العالم العربي، الجزيرة نت، 16 مارس/آذار 2015.
http://www.aljazeera.net/news/international/2015/3/16/%d9%84%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d8%ac%d8%a7%d9%86%d9%8a-%d8%a5%d9%8a%d8%b1%d8%a7%d9%86-%d9%84%d8%a7-%d8%aa%d9%88%d8%b3%d8%b9-%d9%86%d9%81%d9%88%d8%b0%d9%87%d8%a7-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%a7%d9%84%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a
تاريخ الدخول 7 أبريل/نيسان 2015
وانظر هاني زادة، حسن، الوحدة بين ايران والعراق لابد منها، وكالة مهر الإيرانية، 14 مارس/آذار 2015
دعا زادة وهو رئيس تحرير وكالة مهر الإيرانية، في مقالته هذه العراقيين إلى التخلي عن “تراب الذل العربي” وتضمنت ألفاظ عنصرية ومذهبية أخرى.
http://old.mehrnews.com/ar/newsdetail.aspx?NewsID=1851707
تاريخ الدخول 7 أبريل/نيسان 2015
ومنها أيضا تصريحات اللواء يحيى رحيم صفوي، المستشار العسكري للمرشد الخامنئي، والذي قال فيها أن خط الدفاع الحدودي لإيران يمتد إلى جنوب لبنان. انظر، الياس، سعد، لبنان: أوساط المستقبل تنتقد تصريحات اللواء صفوي حول اعتبار جنوب لبنان خط دفاع ايرانيا، القدس العربي، 5 مايو/أيار 2014.
http://www.alquds.co.uk/?p=164689
تاريخ الدخول 7 أبريل/نيسان 2015
5- موقف سنة 8 آذار، مستفاد من مقابلة للباحث مع الدكتور في الجامعة الأميركية أحمد الموصللي.
6- غندور، ثائر، الجيش الرديف لحزب الله يتشقق، العربي الجديد، 8 يوليو/تموز 2014 .
http://www.alaraby.co.uk/politics/2014/7/7/%D8%A7%D9%84%D8%AC%D9%8A%D8%B4-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%AF%D9%8A%D9%81-%D9%84%D8%AD%D8%B2%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%84%D9%87-%D9%8A%D8%AA%D8%B4%D9%82%D9%82
7- حمد، رحاب، كيف تعاطت الحكومات المتعاقبة مع قضية المقاومة، صحيفة النبأ اللبنانية، 21 فبراير 2014.
تاريخ الدخول 9 أبريل 2015
8- السعودية تُدرج «الإخوان» على قائمة المنظمات الارهابية، صحيفة الحياة، 7 مارس/آذار 2014
http://alhayat.com/Articles/953933/%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%AF%D8%B1%D8%AC–%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%AE%D9%88%D8%A7%D9%86–%D8%B9%D9%84%D9%89-%D9%82%D8%A7%D8%A6%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%B8%D9%85%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B1%D9%87%D8%A7%D8%A8%D9%8A%D8%A9—-%D9%88%D9%85%D8%B5%D8%B1-%D8%AA%D8%B1%D8%AD%D8%A88A/
تاريخ الدخول 4 مارس/آذار 2015
9- أطلقت السعودية الحملة العسكرية “عاصفة الحزم” ضد الحوثيين في 26 مارس/آذار 2015.
10- أجرى الباحث عدة مقابلات مع شخصيات تنتمي للتيار الإسلامي أكدت على مخاوفها من الخطط الأمنية التي أعلنها وزير الداخلية في المناطق اللبنانية، خاصة وأنها تجري –كما يعتقدون- بالتعاون مع الأمنيين في حزب الله ويقصدون بذلك الاجتماع الأمني الشهير الذي عقده نهاد المشنوق في 19 أبريل/نيسان 2014 لقادة الأجهزة الأمنية اللبنانية بحضور رئيس وحدة الارتباط والتنسيق في حزب الله وفيق صفا.
11- انظر كلام المشنوق في صحيفة الجمهورية اللبنانية، المشنوق: لن نقبل بتحويلنا الى قادة صحوات متخصصين في فرض الامن، 18 أكتوبر/تشرين أول 2014.
http://www.aljoumhouria.com/news/index/178789
تاريخ الدخول 14 أبريل/نيسان 2015
12- انظر: شقير، شفيق، خريطة الفاعلين السُّنَّة في لبنان التركيبة والتوجهات، مركز الجزيرة للدراسات، 17 مارس/آذار 2015.
http://studies.aljazeera.net/reports/2015/03/201531681918560956.htm
13- مستفاد من مقابلة مع الصحافي اللبناني حازم الأمين.
شفيق شقير