يبدو أن نشوب حرب أخرى بين إسرائيل وحزب الله سيكون حتمياً تقريباً. وعلى الرغم من عدم رغبة أي من الطرفين في اندلاع صراع الآن، فإن موازين القوى المتغيرة في منطقة شرق المتوسط وتقلص مناطق المنافسة تشكل مؤشرات على مواجهة تلوح في الأفق. والسؤال الحقيقي هو كيف ومتى -وليس إذا- سيندلع الحريق الوشيك.
أكدت أحداث 10 شباط (فبراير) عدم استقرار منطقة شرق المتوسط. فقد أسقطت إسرائيل طائرة إيرانية من دون طيار حلقت في مجالها الجوي، وقصفت الموقع الذي زُعم أن الطائرة المسيَّرة أطلقت منه في سورية؛ وخلال هذه المهمة الأخيرة، أسقطت النيران السورية المضادة للطائرات مقاتلة إسرائيلية من طراز إف-16، لتكون أول مقاتلة إسرائيلية تسقطها نيران عدوة منذ عقود. وردت إسرائيل بهجوم انتقامي واسع النطاق ضد عدد كبير من الأهداف العسكرية الإيرانية والموالية للنظام في سورية.
سوف تزداد التوترات في المنطقة سوءاً فحسب. وقد أسفرت الحرب الأهلية السورية حتى الآن عن مقتل ما يقرب من نصف مليون شخص، وتشريد نحو 6 ملايين داخلياً، وأكثر من خمسة ملايين لاجئ أمضت نسبة ساحقة منهم سنوات في الدول المجاورة مثل لبنان والأردن، وهم تواقون إلى سرعة مغادرتهم. ومع ذلك، بينما تأتي المعركة ضد تنظيم “داعش” إلى نهايتها عسكرياً، فكذلك تفعل أيضاً الكثير من زيجات المصلحة بين أعداء التنظيم. وسوف تعيد هذه الطلاقات الوشيكة عدداً من القضايا إلى المقدمة، بما في ذلك مسائل الحكم والمصالحة، ومستقبل القوى الخارجية في سورية، وتوازن القوى الإقليمي المتحول. ومن المرجح أن تؤدي التوترات الناجمة عن كل ذلك إلى جعل إسرائيل على حافة خوض حرب إقليمية أكبر من الحرب الأخيرة التي خاضتها في العام 2006، عندما غزت جنوب لبنان.
الحرب القادمة
بالنسبة لإسرائيل وحزب الله، سوف تعمل هزيمة “داعش” وما يترتب عليها من تحولات في التركيز على إبراز طبيعة العلاقات متزايدة التعقيد والخطورة بينهما. فقد خسر حزب الله ما يقرب من ألفي مقاتل في سورية، وألحق الضرر بسمعته من خلال الدعم غير المقيد الذي قدمه للنظامين في إيران وسورية، ويشاع أنه يواجه متاعب مالية. لكنه ما يزال، على الرغم من كل ذلك، يحظى بالشعبية بين جماهيره ودائرته الانتخابية من الشيعة اللبنانيين. وقد تمكن من إبرام اتفاقيات سياسية مع أطراف أخرى في لبنان، ويتوقع المحللون أن الانتخابات البرلمانية اللبنانية المقرر إجراؤها في ربيع هذا العام -الأولى التي ستجرى في ظل قانون انتخابي جديد يقوم على نظام التمثيل النسبي- سوف تؤدي إلى انتصارات كبيرة لحزب الله.
من شبه المؤكد أن القدرات العسكرية لحزب الله قد نمت خلال الحرب السورية، كما يتضح من الضربات المائة أو نحو ذلك التي شنتها إسرائيل على أفراد حزب الله أو مرافقه في السنوات الأخيرة. ولعل الأمر الأكثر أهمية هو أن الحزب اكتسب خبرة عملية كبيرة في سورية؛ حيث استطاع أن يربط معاً بشكل فعال عدداً من الجهات الفاعلة العنيفة غير الحكومية ويجند دعمها لمهمته في دعم الرئيس بشار الأسد. وفي واقع الأمر، من الصعب أن نجد فاعلاً في المنطقة لم يعجب بأداء حزب الله في الحرب السورية. وهذه الجهود، مصحوبة بالتهديدات المنذرة من حزب الله بالهجوم على المفاعل النووي الإسرائيلي في ديمونة ومرافق تخزين الأمونيا في حيفا، تنذر بحرب بالغة الضراوة.
وبالنسبة لإسرائيل، تحولت الصورة الاستراتيجية أيضاً إلى حد كبير. فحدودها مع سورية، التي كانت الأكثر هدوءاً تاريخياً، أصبحت الآن مشوشة للغاية. ولم تخفِ القيادة الإسرائيلية قلقها من نضج حزب الله العسكري في الصراع السوري. وفي الوقت الذي تتلاشى فيه المخاوف بشأن قدرة إيران على امتلاك أسلحة نووية، بدأت إسرائيل تركز بدلاً من ذلك على الحرب المقبلة مع حزب الله، كما أظهر مؤخراً تمرين عسكري هائل أجري منذ أشهر قليلة -والذي كان الأكبر في إسرائيل منذ العام 1998. ومنذ العام 2006، حذر مسؤولون إسرائيليون مراراً من أنهم سيتبعون في الصراعات المستقبلية مبدأ “عقيدة الضاحية” -نسبة إلى اسم معقل حزب الله في ضواحي بيروت الجنوبية بالقرب من مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت، والذي كان القصف الإسرائيلي قد دمره في الحرب الأخيرة. ووفقاً لما ذكره جادي إيزنكوت، رئيس هيئة أركان قوات الدفاع الإسرائيلية، فإن الجيش الإسرائيلي سيتبع في النزاع التالي نفس هذه القواعد للاشتباك، وإنما في مساحة أكثر اتساعاً.
وهكذا، فإن الأهداف الاستراتيجية طويلة الأجل لحزب الله وإسرائيل تتعارض تماماً. ومع ذلك، حتى اليوم، لا يريد حزب الله ولا إسرائيل قدح زناد حرب جديدة. فمن جهتها، تواجه إسرائيل الانهيار المحتمل للسلطة الفلسطينية، وأزمة إنسانية في غزة، وعدم استقرار عميق على حدودها الشمالية، ناهيك عن الأزمة السياسية المحيطة برئيس الوزراء بنيامين نيتنياهو الذي قد يواجه قريباً اتهامات بالفساد. ومع ذلك، فإن المخاوف بشأن قدرات حزب االله المتنامية داخل لبنان -أي بناءه المحتمل لمصانع للأسلحة- قد تترك القيادة الإسرائيلية مع شعور بأنه لم يعد أمامها خيار سوى العمل.
ومن جانبه، قد يرغب حزب الله أيضاً في الحصول على الوقت للتعافي من صراع طويل وصعب خاضه في سورية. ومع ذلك، تراجعت شعبية المجموعة في الإقليم، كما أن أرصدتها وأوراق تفويضها المعادية لإسرائيل، والتي شوهتها سنوات من قتل السوريين، تحتاج إلى إعادة تلميع. بل وربما يكون البعض من شركائها الجدد في سورية مستعدين للمساعدة في الحرب المقبلة مع إسرائيل، كما اقترح اثنان على الأقل من قادة الميليشيات العراقية في الأشهر الأخيرة. وبينما يقوم نظام الأسد بتوطيد أركانه من جديد، فإن اهتمام حزب الله سوف يتحول بازدياد مبتعداً عن الساحة السورية.
من غير المرجح أن يقوم أي من حزب الله أو إسرائيل بتصعيد متعمد في المدى القريب؛ ومع ذلك، فإن تصعيداً غير مقصود يظل ممكناً، وكذلك هو حال تصعيد ربما يأتي من باب المجاملة للجهات الفاعلة الأخرى التي تدمر بلاد الشام، مثل إيران، ونظام الأسد، أو روسيا. ويمكن أن يستفيد هؤلاء الثلاثة جميعاً بطرق مختلفة من مثل هذا الصراع. تستطيع إيران ونظام الأسد أن يستخدماه لصرف الانتباه عن الحالة المروعة في سورية، بينما تحشدان الدعم الإقليمي ضد إسرائيل. ويستطيع الروس أن يستخدموا صراعاً من هذا النوع لتدعيم دورهم القيادي الإقليمي من خلال التوسط في وقف الأعمال القتالية ومواصلة إظهار رسوخهم في مقابل أفول الولايات المتحدة. وعلى مستوى تكتيكي جداً، فإن ساحة المعركة التي تزداد ضيقاً في سورية سوف تسهل بشكل شبه مؤكد وقوع حادث غير مقصود بين مجموعة ما من هذه الجهات الفاعلة. وستكون كيفية اختيارها للرد حاسمة، لكن هذا الرد سيظل شأناً يصبح التنبؤ به أكثر صعوبة بينما تصبح قواعد الاشتباك أكثر تشوشاً.
الموقع، الموقع، ثُم الموقع
ثمَّة مسألة أخرى مهمة، هي موقع الحرب التي ربما تنشب في المستقبل. تاريخياً، كانت الصراعات بين إسرائيل وحزب الله مقصورة بشكل كبير -ولو ليس بشكل كامل- على الأراضي اللبنانية. ومنذ العام 1978، استهدفت الغزوات والغارات الإسرائيلية والهجمات المتفرقة على لبنان الجهات الفاعلة غير الحكومية العنيفة التي زعزعت استقرار حدودها الشمالية، بما في ذلك منظمة التحرير الفلسطينية وحزب الله. لكن حزب الله سعى أحياناً إلى نقل الصراع إلى مواطني إسرائيل في الخارج (والمجتمعات اليهودية على نطاق أوسع). ومن الأمثلة البارزة على ذلك تفجير السفارة الإسرائيلية في بوينس آيرس في العام 1992؛ والهجوم على حافلة السياح الإسرائيليين في بلغاريا في العام 2012، والهجوم الذي شُن في العام 2015 على مواقع يهودية وإسرائيلية في قبرص.
من المحتمل أن يُخاض الصراع المقبل داخل لبنان أيضاً، على الرغم من أنه يمكن أن يتجاوز جنوب لبنان ويذهب أبعد إلى بيروت. كما أنه ربما ينطوي، على أساس مبدأ “عقيدة الضاحية”، على تدمير ما هو أكثر بكثير من مجرد الأهداف العسكرية المزعومة لحزب الله -حيث يمكن أن يدمر الجيش الإسرائيلي بسهولة البنية التحتية للدولة اللبنانية والمواقع العسكرية أيضاً. ومن الصعب تصوُّر كيف أن أي محاولة إسرائيلية لإيقاع الخراب بحزب الله داخل لبنان لن تجلب الدمار بشكل مماثل على عشرات المدنيين اللبنانيين. ولا شك أن حزب الله سيعتمد عندئذٍ على الإدانة الدولية لإسرائيل، التي ستنشأ دائماً في مثل هذا الوضع.
مع ذلك، وعلى النقيض من الصراعات السابقة، فإن جولة جديدة من القتال بين حزب الله وحزب الله قد تنطوي على عمليات عسكرية في سورية أيضاً. فمنذ بداية الحرب السورية، كانت الغارات الجوية الإسرائيلية على حزب الله تقتصر إلى حد كبير على الأراضي السورية. وقد امتنع حزب الله، حتى الآن، عن الرد في أغلب الحالات. لكن ترسيخ المجموعة نفسها داخل سورية جعل ذلك الإقليم عرضة لمزيد من الهجمات التي تشنها إسرائيل. وسوف يولي المخططون الإسرائيليون اهتماماً دقيقاً لكيفية استمرار وجود الجماعة في سورية بالتحوُّل مع تناقص اعتماد الأسد عليها؛ كما أنهم سيلاحظون أيضاً موقع حزب الله، وأسلحته، وعدد أفراده، وبنيته التحتية في سورية، وخاصة في جنوب غرب سورية بالقرب من الحدود الإسرائيلية. وقد حذر نتانياهو من أن إيران لا يمكنها “ترسيخ نفسها عسكرياً في سورية”، لكن النقاش الحقيقي سيكون حول مدى هذا الترسخ -مثل مدى قرب مقاتلي إيران وحزب الله من الحدود الإسرائيلية- وليس حول ما إذا كان هذا الترسخ موجوداً من الأساس.
لعبة انتظار
على الرغم من أن الحرب القادمة بين إسرائيل وحزب الله ما تزال في الأفق حتى الآن، فإن من المؤكد تقريباً أنها ستحدث في نهاية المطاف، نظراً لكل من مخاطر التصعيد العرَضي غير المقصود والأهداف الاستراتيجية للجانبين على المدى الطويل. وعندما يحدث ذلك، فإنه سيكون قبيحاً وسوف يجر على نحو شبه مؤكد جهات فاعلة خارجية، سواء كان ذلك عن رغبة أم غير ذلك. وقد يصل أمن شرق المتوسط بعد ذلك إلى حضيض جديد، وسيخسر الشعبان، اللبناني والسوري، أكثر مما خسرا مع تحول بلديهما إلى ساحات معارك لأجندات الآخرين.
مارا كارلين
صحيفة الغد