يُزعم أن المئات من الجنود الروس ماتوا بسبب الضربات الجوية الأميركية في بداية شباط (فبراير). لكن تقارير “ديرشبيغل” تُظهر أن الأحداث كانت مختلفة جداً على الأرجح.
* * *
عندما يتعلق الأمر بالشتم، فإن هذا الرجل لا يتورع عنه. و”ابن عاهرة” هي ألطف شتيمة تخرج من فم عضو الميليشيا الذي يشتعل غضباً بسبب الجحيم الذي صنعته غارة جوية أميركية استمرت ساعات على مدينة دير الزور الجنوبية الشرقية. وحتى بينما ما يزال الدخان يتصاعد من عربات الدفع الرباعي المحترقة من حولهم، جاء هو وخمسة رجال آخرين لإخراج جسد ممزق لواحد من رفاقهم المقاتلين من الجمر المتوهج لبناية مقصوفة.
يأتي هذا المشهد في شريط فيديو مدته دقيقتان لميدان المعركة، والذي صوره أحد المقاتلين بعد ظهر يوم 8 شباط (فبراير) بعد ساعات من العاصفة النارية، وقدمه لهذه المجلة ولموقع “فرات بوست”، الموقع الإخباري يقدم تغطية إخبارية للمنطقة. والشريط هو أول توثيق مصور لواحدة من أكثر المعارك غموضاً حتى الآن في هذه الحرب متزايدة التعقيد.
في البداية، أعلن الجيش الأميركي يوم 8 شباط (فبراير) أنه هاجم “قوات موالية للنظام” تابعة لبشار الأسد في مدينة دير الزور الجنوبية الشرقية، بهدف إحباط هجوم على قاعدة تابعة لقوات سورية الديمقراطية ذات القيادة الكردية، والمتحالفة مع الأميركيين. وقالت الولايات المتحدة إن قوات موالية للأسد هاجمت قاعدة قوات سورية الديمقراطية بالدبابات وقذائف الهاون. وذلك، أطلقت القوات الأميركية النار رداً على الهجوم، وزعمت أنها قتلت “أكثر من 100” من المقاتلين فيما وُصِف بأنه عمل للدفاع عن النفس.
ولكن، مَن كان بالضبط هؤلاء المهاجمون؟ وما الذي حدث فعلاً في تلك الليلة في القرى الصغيرة نصف المهجورة على الضفة الشرقية لنهر الفرات؟ هل أهلكت القنابل الأميركية قوات روسية؟ بل هل كان الهجوم عرضاً مبكراً لمناوشات قادمة بين الأميركيين والروس؟
أمضى فريق من “ديرشبيغل” أسبوعين في إجراء مقابلات مع أناس كانوا شهوداً على المعركة أو مشاركين فيها. كما تحدث الفريق أيضاً مع أحد الكوادر في المستشفى الوحيد في دير الزور، وكذلك مع موظف في المطار العسكري المحلي، في محاولة للحصول على صورة واضحة لما حدث بالضبط خلال المعركة التي استمرت ثلاثة أيام.
دعمت الروايات بشكل عام بعضها بعضاً وكانت الصورة التي ظهرت للأحداث متعارضة مع التقارير التي صدرت عن وسائل الإعلام الروسية والدولية.
عند الساعة الخامسة صباحاً، يوم 7 شباط (فبراير)، حاول نحو 250 مقاتلا العبور من الضفة الغربية لنهر الفرات إلى ضفته الشرقية باستخدام جسر عسكري مؤقت عائم. وضم هؤلاء المقاتلون أعضاء من ميليشيات قبيلتين، البكارة والبوحمد، الذين يقاتلون مع نظام الأسد بدعم إيراني؛ وجنوداً من الفرقة الرابعة في الجيش السوري؛ ومقاتلين أفغاناً وعراقيين من كتيبتي “الفاطميون” و”الزينبيون”، اللتين تقاتلان تحت قيادة إيرانية. وروى مقاتل من الفرقة الرابعة أن الوحدات أمضت أسبوعاً في التجمع على أرض المطار العسكري. ويقول شهود إنه لم يشارك أي مرتزقة روس في محاولة عبور النهر.
كان الأميركيون والروس قد اتفقوا في العام الماضي على جعل نهر الفرات خط “فض اشتباك”. وحسب الاتفاق، تكون قوات الأسد وحلفاؤها غرب النهر، في حين تسيطر على ضفته الشرقية قوات سورية الديمقراطية تحت حماية الأميركيين. ويشكل الجانب الشرقي موطناً لسلسلة من حقول الغاز الطبيعي المنتِجة والمعروفة عموماً باسم حقل “كونيكو”.
وهكذا، نظر الأميركيون على الضفاف الشرقية إلى التقدم على أنه هجوم، وأطلقوا سلسلة من الطلقات التحذيرية في اتجاه الجسر العائم. ولم يُصب أحد وانسحب المهاجمون.
لكنهم لن يستسلموا. وبعد فترة طويلة من حلول الظلام، عبر نحو ضعف عدد الرجال من المجموعة نفسه جسراً مؤقتاً آخر على بعد بضعة كيلومترات إلى الشمال، قريباً من مطار دير الزور العسكري. وقادوا مركباتهم من دون إضاءة المصابيح ليمنعوا المسيّرات الأميركية من اكتشافهم. وعندما لم يتم اكتشافهم هذه المرة، تمكنوا من الوصول إلى قرية مراط على الجانب الشرقي من النهر. وعندما تقدموا أبعد إلى الجنوب حول الساعة العاشرة مساءً، في اتجاه قاعدة قوات سورية الديمقراطية في خشام، فتح الأميركيون الذين تتمركز قواتهم الخاصة هناك أيضاً، النار مرة أخرى. ولم تكن طلقات تحذيرية هذه المرة. وقالت الولايات المتحدة في تصريح لمحطة “سي. إن. إن”، إنه بعد “أن سقطت ما بين 20 و30 من قذائف المدفعية والدبابات على بعد 500 متر” من مقرات قوات سورية الديمقراطية، فإن قوات التحالف “استهدفت المعتدين بمزيج من الضربات الجوية وقصف المدفعية”.
لكن ذلك كان وصفاً ملطفاً لما حدث. لأنه حول الوقت نفسه تقريباً في وقت متأخر من تلك الليلة، جاءت مجموعة أخرى من أفراد ميليشيات القبائل السورية والمقاتلين الشيعة من قرية طابية إلى الجنوب وهاجمت قاعدة قوات سورية الديمقراطية أيضاً. ورد الأميركيون بكل ترسانتهم التدميرية. واستخدموا الطائرات المسيرة المسلحة بالصواريخ، والمروحيات الهجومية، وطائرات (إيه-سي 130) الثقيلة التي تلقب “قوارب المدفعية”، والتي أطلقت نيرانها على الأرض والصواريخ والمدفعية.
أعقب تلك الضربة في الليل هجوم شُن في الصباح التالي على مجموعة من ميليشيات القبائل في طابية، والتي كانت قد عادت فقط لاستعادة الجثث. وفي يوم 9 شباط (فبراير)، هوجمت مرة أخرى وحدة من نفس المقاتلين، والتي ظهرت على الجانب الشرقي من النهر.
نسخة مختلفة من الأحداث
كان الهجوم الليلي الثاني من قرية طابية هو الذي أثار في الأساس نوبة الغضب الأميركية، كما قال رجلان ينتميان إلى ميليشيا الباقر من قبيلة البركة. لأنه بالإضافة إلى خط فض الاشتباك، كان هناك اتفاق ثان سمح ببقاء ما يصل إلى 400 من المقاتلين الموالين للأسد، والذين ظلوا على الضفة الشرقية من نهر الفرات في أعقاب معركة العام 2017 ضد “داعش” -على الأقل طالما لا يتواجد أكثر من 400 منهم ويظلوا مسالمين. لكن هذا بالضبط هو ما لم يعد واقع الحال.
من بين أولئك المتمركزين في طابية كانت مجموعة صغيرة من المرتزقة الروس. لكن المصادر من مجموعتي الميليشيات قالت إنهم لم يشاركوا في القتال. ومع ذلك، كما قالوا، فقد ما بين 10 و20 منهم حياتهم. وقالت إن ما زاد مجموعهم عن 200 من المهاجمين لقوا حتفهم، بمن فيهم نحو 80 جندياً سورياً من الفرقة الرابعة، ونحو 100 من العراقيين والأفغان ونحو 70 من مقاتلي القبائل، معظمهم من ميليشيا الباقر.
حدث الأمر كله في الليل، وأصبح الوضع معقداً بشدة عندما دخل المقاتلون من طابية المعمعة. وسوف يقول عامل في المستشفى الرئيسي الوحيد في دير الزور لاحقاً إن نحو عشرة من الجثث الروسية تم تسليمها للمستشفى. وفي الأثناء، كان موظف في المطار شاهداً في وقت لاحق على تسليم الجثث التي جُلبت في شاحنتي تويوتا صغيرتين إلى طائرة نقل روسية منتظرة، والتي طارت بعد ذلك إلى القامشلي، إلى مطار بجانب الحدود السورية في الشمال.
في الأيام التي تلت ذلك، سوف يتم الكشف عن هوية الروس الذين قتلوا -في البداية هوية ستة ثم تسعة في نهاية المطاف. وقد تحقق من هويات ثمانية منهم فريق الاستخبارات حول النزاعات، وهو منصة استقصائية روسية، وأعلنت هوية آخر إذاعة “إيكو موسكو”. وكانوا كلهم يعملون لدى شركة المرتزقة الخاصة “إيفرو بوليس” التي يشار إليها في كثير من الأحيان بالاسم الحربي لرئيسها: “فاغنر”.
مع ذلك، في الوقت نفسه، جذبت نسختان مختلفتان تماماً من الأحداث الانتباه -واللتان نشرهما في البداية القوميون الروس مثل إيغور “ستريلكوف” غيركن، ثم آخرون مرتبطون بوحدة فاغنر. ووفقاً لهذه الروايات، فإن عدداً أكبر بكثير من الروس قتلوا في المعركة -100، 200، 300 أو حتى 600. وقيل إن وحدة كاملة قد أزيلت من الوجود وإن الكرملين أراد التغطية على ذلك. بل إن تسجيلات ظهرت لمقاتلين مزعومين بدا أنهم يؤكدون هذه الخسائر الفادحة.
كانت تلك نسخة بدت مقبولة جداً حتى أن وكالات الأنباء الغربية، مثل رويترز وبلومبيرغ، التقطتها. وبدت حقيقة أن الحكومة في موسكو لم ترغب في البداية تأكيد أي وفيات ثم تحدثت عن خمسة “مواطنين روساً” قتلوا، ثم لاحقاً -وبضبابية- عن “عشرات من الجرحى” الذين مات بعضهم، بدت وأنها تجعل الأحداث تبدو أكثر مصداقية فحسب. وكان هذا هو واقع الحال بشكل عام. فبعد كل شيء، عندما ينكر الكرملين شيئاً في الحرب السورية، أو عندما يعترف الروس به جزءاً جزءاً، فإنه ربما يكون دقيقاً. وإلى جانب ذلك، يميل الروس إلى التقليل من حجم خسائرهم في سورية باستمرار.
“سوء حظ التواجد في المكان الخطأ في الوقت الخطأ”
كانت العلاقات بين المرتزقة الروس في سورية -الذين يعتقد أن هناك أكثر من 2.000 منهم- وحكومة موسكو متوترة منذ بعض الوقت. ويزعم المقاتلون أنه يتم استخدامهم للاستهلاك في الحرب، ويتم الإبقاء عليهم هادئين ويتلقون أجوراً قليلة. وبذلك، فإن اتهامهم الكرملين الآن بمحاولة التغطية على حقيقة أن روساً قتلوا -على يد الأميركيين، من بين كل الناس- إنما يضرب حكومة الرئيس فلاديمير بوتن في نقطة ضعيفة: مصداقيتها.
المصادر الوحيدة التي يمكن التحقق منها حول القضاء على مئات الروس هي الصور والفيديوهات التي تنتشر على الإنترنت أو المعلومات المستقاة من المصادر الروسية التي تم تمريرها إلى الصحفيين الغربيين. وتظهر بعض الفيديوهات لقطات من شرق أوكرانيا تمت معالجتها لاحقاً، أو حتى عرض نسخة تجريبية “ديمو” للعبة فيديو والتي أظهرها بوتين شخصياً لمخرج هوليوود، أوليفر ستون، كدليل مزعوم على هجوم روسي على قافلة لـ”داعش”.
الوضع على الأرض بين خشام وطابية على الضفة الشرقية من الفرات، والذي وصفه نصف دزينة من الشهود الذين كانوا جزءاً من الأحداث، لا يؤكد مشاركة المرتزقة الروس في الهجوم، أو حتى أهم انضموا إلى القتال من الأساس. وينحدر أحمد رمضان، الصحفي الذي أسس موقع “فرات بوست” ثم هاجر منذ ذلك الحين إلى تركيا، من قرية طابية. ويقاتل أحد معارفه مع ميليشيا الباقر، وقد صوّر مقطع فيديو من موضع القصف. ويقول: “لو أنه كان هجوماً روسياً، وفيه الكثير من القتلى الروس، لكنا قد أبلغنا عن ذلك. لكنه لم يكن كذلك. لقد صادف الروس في طابية سوء حظ التواجد في المكان الخطأ في الوقت الخطأ فحسب”.
كريستوف رويتر
صحيفة الغد