أدى قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلغاء الاتفاق النووي مع إيران إلى خضّة كبيرة في المنطقة العربية ومحيطها الإقليمي والعالم، وأنتج انقساما كبيرا عليه، وخصوصاً بين الحليفين الكبيرين، أوروبا وأمريكا، مع إعلان الاتحاد الأوروبي ودوله الكبرى، ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، استمرار التزامها بالاتفاق، وإعلان روسيا والصين رفضهما، أما التأييد الرسمي للجامعة العربية للقرار، فلا يلغي وجود خلاف حوله، بين دول مؤيدة بشدة، كالسعودية، خصم إيران اللدود، والإمارات والبحرين، وأخرى تتحفظ أو «تتفهم» أو تطلب مراجعة للاتفاق (ناهيك عن العراق الذي انتقد، والنظام السوري الذي «أدان بشدة»).
لا يمكن طبعا تجاهل موقف إسرائيل التي لعبت حكومتها دوراً مؤثراً بالتأكيد في تشجيع حليفها الأمريكي ليس على إلغاء الاتفاق مع إيران فحسب بل كذلك على المطالبة بإسقاط النظام الإيراني، ويرتبط جزء من الأجندة الإسرائيلية حول إلغاء الاتفاق بأن هذا القرار سينهي حقبة التعاطي السياسي المرن مع طهران، والتعاون معها، ويستبدله بالعمل على إبعاد نفوذها الذي تكرّس في سوريا (ولبنان)، وهو أمر أكدت عليه الضربات العسكرية الإسرائيلية على أهداف إيرانية داخل سوريا مرات عديدة قبل الاتفاق وبعد ساعتين من إعلانه.
بعض المعلقين الغربيين عزا قرار ترامب إلى رغبته بالوفاء بوعوده الانتخابية، لكنّ هذا التحليل لا يمضي إلى أبعد ليسأل لماذا قام ترامب أصلاً بهذا الوعد، ولماذا لم ينفذه بعد انتخابه مباشرة؟
يقدّم تحليل خطاب ترامب الذي ألقاه بمناسبة إلغاء القرار بعض المفاتيح (ومنها طبعاً «المفتاح» الإسرائيلي) ولكنّ الرئيس الأمريكي أشار أيضاً إلى كوريا الشمالية، التي قبلت، مبدئياً، قرار التفاوض على سلاحها النووي، إثر الضغوط الاقتصادية والسياسية الهائلة عليها، وعلى حلفائها الروس والصينيين، وبذلك صار ممكنا، عملياً، ممارسة الضغوط الكبيرة أيضاً على إيران لإقناعها بالتخلّي، تماماً، عن مشروعها النووي، بدل تخفيض العقوبات عليها، ومدّها بمئات المليارات، كما فعل الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما وحلفاؤه الغربيون، فهذه هي طريقة ترامب في إنجاز «الصفقات الناجحة»، كما يسميها.
يجب الاعتراف هنا، أن اتفاق أوباما مع إيران قبل 3 سنوات، كان «صفقة» تبادل تجميد المشروع النووي الإيراني مقابل عدد من «المحفزات»، أولها تطبيع علاقة إيران بالعالم، والغرب خصوصا، وثانيها مدّها بمبالغ طائلة من الأموال التي جمّدت بعد ثورة الخميني عام 1979، وثالثها، وهو الأهم عربياً، إطلاق يدها في سوريا والعراق ولبنان… وكذلك في اليمن الذي وجدت في الحوثيين بيئة حاضنة وأداة لتنفيذ سياساتها.
لقد دفع صعود إيران الإقليمي على خلفية الاجتياح الأمريكي لأفغانستان والعراق، وانتعاش مشروعها النووي والصاروخي ونفوذها الكبير المتصاعد داخل البلدان العربية، إلى تساؤلات عربية إن كان تمدد النفوذ الإيراني واستفحال قوتها النووية كانا مقصودين في الوقت الذي تم تدمير المشاريع النووية للعراق وسوريا (وليبيا التي سلّمته إدارة معمر القذافي للغرب كاملا مع المفتاح)؟
بعض التحليلات ترى أن الأولوية الغربية بعد سقوط الاتحاد السوفييتي كانت لمواجهة العالم الإسلامي (السنّي) وترويضه، وأن غض النظر عن إيران كان مطلوباً بذاته، ومع وصول هذه الأولوية إلى نهاياتها المنطقية، مع إعلان انتهاء العمليات «الكبرى» ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق وسوريا، واستدارة السعودية وأغلب دول الخليج ضد «الإسلام السياسي السني»، صار الوقت مناسبا للالتفات لـ«الإسلام السياسي الشيعي».
أحد خطباء جمعة مدينة قم رأى في إلغاء الاتفاق النووي تحقيقا لـ«نبوءة خامنئي» (المرجع الشيعي الأعلى في إيران)، وقد أتبعه خامنئي نفسه بوصف خطاب ترامب «بالسخيف والسطحي»، وبذلك يلتقي، ربما، التحليل خفيف الوزن الذي يربط القرار بـ«وعود» ترامب الانتخابية، مع تحليل خطيب الجمعة للأمر بـ«نبوءة» المرشد الأعلى للجمهورية، وهو تحليل لا يقلّ خفّة ورشاقة عن نظيره الأمريكي.