القاهرة – أقدم البابا تواضروس الثاني بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية في مصر، على أوسع حركة تغييرات داخل المجمع المقدس، ما اعتبره مؤيدون له ثورة تصحيح تؤكد عزم الكنيسة على استكمال البابا لخطته الإصلاحية، بينما حذر معارضون من أن انقلابه على الحرس القديم يمكن أن يتسبب في زعزعة استقرار الكنيسة ويخلق فتنا جديدة.
واستبق البابا تواضروس عيد “العنصرة”، الأحد 27 مايو 2018، وأطلق حملة تغييرات ضد عدد من الأعضاء الكبار والقدامى في المجمع الكنسي، منهيا سنوات من الشد والجذب بين التيارين الأصولي والإصلاحي بالانحياز الصريح للثاني.
وجاءت القرارات التي عدّها الكثير من المراقبين أكبر حركة تغييرات داخل المجمع المقدس (السلطة الكهنوتية العليا للكنيسة) ضمن ما يسمى بمحاولة تجديد الدماء عن طريق تصعيد وجوه جديدة وشابة داخل العمل الإداري بالكنيسة.
وانتصرت التغييرات لأبناء مدرسة الأب متى المسكين، المعروفة برؤيتها الإصلاحية والتجديدية في الكثير من الشؤون الكنسية، بعد أن كانوا مستبعدين من المناصب العليا ولا يخرجون من أديرتهم ويعاملون كـ”درجة ثانية”، طوال السنوات الماضية من جانب الأساقفة الصقور أبناء مدرسة البابا شنودة.
وعلمت “العرب” من مصادر كنسية أن البابا تواضروس أراد من التغييرات مواجهة المشاكل المتراكمة منذ سنوات وحسم الملفات “المُشتعلة” بحسب رؤية الشارع القبطي التي أثارت سخطا على رعايا الكنيسة، فضلا عن رغبته في ضخ دماء جديدة داخل الكنيسة بعيدا عن المتشددين الذين يعرقلون توجهاته الإصلاحية.
أصبحت المعارك بين الإصلاحيين والمتشددين تمس مجالات كثيرة، مدنية ودينية، ويعتقد من يخوضون فيها أن الانتصار عملية مصيرية. وظلت الكنيسة المصرية مكانا مغلقا لا يعرف كثيرون ما يجري داخله. طرفاها جناحان، كل منهما يحاول أن يستأثر بالقرار داخلها. وجرت معارك خافتة عديدة حرص أطرافها على أن تظل داخل جدران الكنيسة، وهو ما منح عملية الاستقطاب قسوة شديدة أحيانا. وصارت الأمور تصعد وتهبط دون أن تدرك جهات كثيرة حقيقة المعركة الدائرة، حتى جاءت لحظة المواجهة
وشهدت أروقة المعاهد اللاهوتية مواجهات متصاعدة مؤخرا بين أنصار تياري الأصولية والتنوير من الرهبان والكهنة، حول بعض التأويلات العقائدية، وصلت إلى تبادل الاتهامات بالكفر والهرطقة والخروج عن تعاليم الأرثوذكسية.
وتفاقمت المشكلة بعدما خرجت المواجهات إلى العلن واتبعت منهجا لا يمت للنقد العلمي والموضوعي بصلة، وإنما حركتها حسابات لا علاقة لها بما استقر في الكنيسة عبر تسليم الآباء، وباتت الخلافات تمس سلام وبنيان الكنيسة، ويتحمل فاتورتها رعيتها.
ورأى متخصصون في الشأن المسيحي المصري أن المواجهات ومطالبة البابا بالتدخل لإنقاذ الكنيسة، سبب في الإسراع بالإحلال والتجديد يتقدم على دافع انتهاء المدد القانونية لعدد من المناصب الإدارية بالكنيسة ورغبة البعض في التخلي عن مناصبهم. وبالفعل تم عقد اللقاء المجمعي على غير المعتاد قبيل موعد عيد “العنصرة” بينما جرت العادة أن ينعقد بعد العيد.
وتأكد الغرض من التغييرات عندما جاءت معظم الاختيارات لصالح الفكر الحداثي. وتم تعيين الأنبا دانيال، صاحب الفكر المستنير، سكرتيرا للمجمع المقدس، ما يجعله رسميا الرجل الثاني في الكنيسة الأرثوذكسية، وهو من أكثر رجال الكنيسة ترقيا في المناصب منذ تولي تواضروس مقاليد منصبه منذ ستة أعوام، وبدأ بتعيينه مسؤولا عن المجلس الأكليريكي للأحوال الشخصية ثم نائبا بابويا يدير الكنيسة أثناء سفر البابا.
واستحدث تواضروس منصب المراقب البابوي بلجنة الحوار اللاهوتي، وهي اللجنة التي كان يرأسها الأنبا بيشوي أحد أهم معلمي اللاهوت التقليديين في الكنيسة، واختار له الأنبا أبيفانوس أحد أشهر تلاميذ الراهب متى المسكين، وهو من مدرسة مغايرة، دائما ما كانت توجه لها الاتهامات بالبدع والخروج عن التقاليد الكنسية، ما يعتبر تحديا واضحا للفكر المتشدد.
وأطاح البابا تواضروس بالأنبا يؤانس، المعروف بأنه رجل الكنيسة القوي، وأحد أقرب المساعدين للبابا الراحل شنودة، وانحاز للشباب فاختار بدلا منه الأنبا يوليوس كأسقف للخدمات الاجتماعية وتم تعيينه في التغييرات الأخيرة عضوا في لجنة السكرتارية، وهو شاب أربعيني تجمعه بالفقراء علاقة ود ومحبة.
وأُسند للأسقف الشاب، الأنبا هرمينا، ملف الأحوال الشخصية بالقاهرة، من أهم الملفات الشائكة التي تواجه الكنيسة وتفاقمت على مدار الثلاثين عاما الماضية، وهو القرار الذي لقي ترحيبا من العالقين في زيجات فاشلة.
وقوبلت قرارات البابا بترحيب من قبل الكثير من المعنيين بالشأن القبطي، ورأوا فيها نقلة نوعية للمؤسسة الكنسية نحو عصر التنوير، وخطوة جادة لاستكمال خطة البابا الإصلاحية التي يعمل عليها منذ اعتلائه كرسي البابوية عام 2012.
وأشاد كمال زاخر مؤسس التيار العلماني بالتغييرات كونها ترسخ ثقافة تداول المناصب الإدارية داخل الكنيسة، موضحا لـ”العرب”، أنه من المفيد كنسيا وخدميا أن يتم تداول مواقع العمل الإداري بالكنيسة بين الآباء لتجديد حيوية الخدمة، وعدم احتكار الوظائف وإعطاء فرصة للمشاركة وبث الخبرات المتعددة.
وأشار إلى أن البابا لم يقم بتغييرات داخل لجان المجمع بقرار فوقي أو فردي، وإنما عبر آلية التشكيل التي تم إقرارها في اللائحة الداخلية المنظمة للمجمع، وتقضي بأن يختار كل أسقف ثلاث لجان يرغب في عضويتها، ويتم تسكين العضو في اثنتين منها على الأقل بحسب كثافة طلب العضوية، ثم يتم اختيار مقرري اللجان الرئيسية بطريقة الاقتراع السري.
وقال إن اختيار الأنبا دانيال لموقع سكرتير عام المجمع المقدس تأكيد على اتجاه الكنيسة نحو دعم الحوار الداخلي والاستقرار وعودة مبدأ تداول المسؤولية الذي غاب طويلا في عصر قداسة البابا شنودة الثالث، بعدما شهد بقاء مطران محافظة دمياط (شمال القاهرة) في هذا الموقع لخمس دورات متتالية.
ويعتبر معارضون للبابا تواضروس أن قراراته كشفت عن عدائه الواضح للتيار الأصولي داخل الكنيسة، بعدما قلص صلاحيات المحسوبين عليه وحد من نفوذهم المتصاعد طوال فترة بابوية سلفه الراحل شنودة الثالث، وتوقعوا أن تواجه تلك الخطة الإصلاحية الكثير من المصاعب والتحديات.
وحذروا من تصرفات من يطلقون على أنفسهم “حراس العقيدة” أو “حماة الإيمان الأرثوذكسي”، وهي رابطة من خدام وشمامسة وكهنة، ولا يزال في جعبتهم الكثير من الأوراق التي يمكن أن تؤثر سلبا على تصورات البابا، ولن يسلموا بالأمر، فهم لا يتركون بسهولة من يخرج عن خطهم الفكري ويتعقبونه بذريعة الحفاظ على الإيمان وتحت شعار “الكنيسة خط أحمر” حتى للبابا نفسه.
وقال مصدر كنسي قريب من تواضروس، لـ”العرب” إن البابا يعلم بأمر من يرفضون قراراته من الأصوليين، لكنه لا يصرح بذلك، خشية على الكنيسة وأتباعها كونها لا تحتمل هزات أو انقلابات، فالبابا أشد حرصا على “سلام الكنيسة” من أولئك الذين يدعون أنهم حماتها، واستهجن إطلاق بعضهم تحذيرات ضد البابا تواضروس بأنه إذا اقترب من الإيمان الأرثوذكسي فسيتعرض للكثير من المشاكل قد تصل إلى المطالبة بمحاكمته أمام المجمع المقدس.
العرب