أزمة المياه في العراق: تعسف تركي وإيراني وتقصير حكومي

أزمة المياه في العراق: تعسف تركي وإيراني وتقصير حكومي

يعاني العراق حاليا من أزمة مائية خانقة، يُقدّر أن تزداد سوءا خلال الأسابيع والأشهر القادمة. ومع توارد التقارير عن حجم التأثيرات السلبية لهذه الأزمة، فإن وصف الكارثة بات ينطبق عليها بامتياز. بدأت الأزمة منذ أشهر بسبب قلّة تساقط الثلوج والإمطار في أعلى حوضي دجلة والفرات في فصل الشتاء وبالتالي أدى هذا إلى قلّة المياه الواردة إلى النهرين.

لكنّ مباشرة تركيا ملء خزان سد أليسو على نهر دجلة، تطلّبت قطع نسبة كبيرة من مياه النهر عن العراق، وأعطت للأزمة بعدا أكبر وذكّرت الجميع بالخطر المتجدّد على مياه العراق وهو مشروع جنوب شرق الأناضول (غاب) التركي. ويتضاعف الخطر مع غياب سياسات وخطط حكوميّة واضحة لمجابهة الكارثة التي ستحيق بالبلاد أو التقليل من حجمها في أقل تقدير.

إن الأزمة تتضح بشكل كبير في مناطق جنوب العراق، حيث أن شحّ المياه بات يؤثر على مياه الشرب وليس مياه الإرواء فحسب. وأظهرت الصور المتداولة على مواقع التواصل الاجتماعي، الأنهر والجداول وقد غطّتها الأوساخ جرّاء إهمال حكومي (متعمّد). وهذا سبب مضاف يضعنا أمام كارثة حقيقية آخذة في التشكل.

وتشترك إيران في هذه الأزمة من خلال ما أنشأته من مشاريع على روافد دجلة، أدّت إلى انقطاع مياه عدد منها جراء تحويل مسارها وقلّلت كثيرا من إيرادات الروافد الأخرى. فقد خسر العراق مياه الكارون 15 ألف مليار متر مكعب سنويا، والكرخة 5 ألف مليار متر مكعب سنويا، كذلك معظم مياه نهر الزاب الصغير، والوند وديالى.

الأسباب الرئيسة

تحذر تقارير دولية من تراجع منسوب مياه نهر دجلة بسبب السياسة المائية التي تتبعها تركيا وإيران. فالأتراك حولوا المياه إلى سد أليسو مما أدى إلى انخفاض حصة العراق من مياه دجلة إلى خمسين في المئة. أما إيران فحولت مسار الأنهار والجداول المائية التي تتدفق باتجاه العراق لتبقى داخل أراضيها. وإذا لم يتمكن العراق من التحرك وعقد اتفاقات تضمن حصصه المائية بشكل كامل فإنه مقبل على كارثة حقيقية تلحق بالأراضي الزراعية في البلاد المهددة بجفاف قد يتسبب في اندلاع حرب بسبب المياه في بلاد الرافدين

يعتمد العراق في مياهه على الإيرادات المائيّة لنهري دجلة والفرات، النهرين اللذين ارتبط بهما عبر العصور اسم بلاد ما بين النهرين ـ ميسوبوتاميا، فهما مصدر الخصب والنماء. وعلى ضفافهما نشأت أولى وأهم الحضارات في تاريخ الإنسانيّة، قامت مدن عظيمة وتطورّت الزراعة وأبدع العراقيون في هندسة مشاريع الري.

تواصل الإبداع في تنظيم استخدامات مياه الأنهار والجداول ينتقل من جيل إلى جيل ومن حكومة إلى أخرى حتى كان الغزو الأميركي عام 2003، فحدث تراجع في كل شيء، وغابت الخطط والتنظيم السليم، وحلت محلّ ذلك الفوضى، والقيام بإجراءات ذات طابع سياسي انتقامي أدّت إلى تفاقم المشاكل وتعقدها.

لكنّ أصل مشكلة المياه بدأت قبل ذلك بوقت طويل وتحديدا مع مباشرة تركيا بتنفيذ مشروع غاب الذي يتضمن بناء 13 سدّا رئيسيا (6 على الفرات و7 على دجلة)، وسدود صغيرة وقنوات فرعية. ويهدف المشروع إلى زيادة الأراضي المروية من النهرين من 175 ألف هكتار إلى 1.7 مليون هكتار مما يزيد الاستهلاك المائي إلى أكثر من 16 مليار متر مكعب من المياه، في حين كانت تستهلك أقلّ من ملياري متر مكعب من المياه سنويا.

في الوقت نفسه قامت سوريا ببناء ثلاثة سدود على نهر الفرات لتوسع هي الأخرى استخداماتها من النهر. ومع أن نهر دجلة لا يمرّ داخل الأراضي السورّية، بل تشكل ضفته اليمنى جزءا قصيرا من الحدود معها، إلاّ أنّها قامت بنصب محطّات ضخمة لسحب المياه إلى داخل أراضيها.

كل ذلك كان على حساب كميّات المياه التي كانت تتدفق إلى العراق من دجلة والفرات، وعلى حساب حقوقه المكتسبة التي تكوّنت عبر ممارسات عمرها بعمر العراق. فمعظم أرض العراق كانت تُروى من مياه النهرين، ومقدار كمّيات تلك المياه ومساحات الأراضي التي تُروى منها، كلّها مثبتة برسائل ووثائق عراقيّة إلى الجهات الدوليّة وبمحاضر اجتماعات رسميّة بين العراق وتركيا وسوريا، فهي تمثل الحقوق المكتسبة للعراق وشعبه.

بلاد ما بين النهرين تشكو من نقص المياه
من حقّ تركيا أن تستثمر في مياه دجلة والفرات وتنفذ عليهما خططها الزراعيّة والتنموية، إلاّ أن ذلك الحقّ مقيد بعدم الإضرار بحقوق دول أسفل النهر، سوريا والعراق. فطالما أن دجلة والفرات عبرا حدودها الوطنية إلى أراضي دول أخرى فإنهما نهران دوليان وفقا لكل المبادئ والقواعد القانونية الدوليّة. من هنا فإن تركيا لا تمتلك الحرّية المطلقة في إقامة ما تودّ من منشآت على النهرين، ولا يحقّ لها التصرّف بكميّات المياه كيفما تشاء فذلك مقرون بعدم التأثير على استخدامات الدول الأخرى المتشاطئة معها.

للأسف لا تعترف تركيا بذلك، وتصرّ على أن دجلة والفرات هما نهران تركيان خالصان. وبالتالي ترى أن لها الحقّ في استخدامهما كيفما تشاء. تسميهما (أنهار عابرة للحدود) وتتوهم أن القانون الدولي لا ينطبق عليهما، وترفض مطالب العراق وسوريا الداعيّة إلى ضرورة تحديد حصص كل بلد من البلدان الثلاثة من التدفق المائي. بدلا عن ذلك تطالبهما بأن يوافقا على خطّة تقترحها لتحديد الأراضي التي تُسقى بمياه النهرين ونوع المحاصيل التي سيتوجب زراعتها؛ وهي “خطة المراحل الثلاث” التي سيؤدّي تنفيذها إلى استحواذ تركيا بالحصة الأعظم.

هذه هي خلاصة الموقف التركي وهو موقف لا أساس قانونيا له، ولا يعتمد على أي سابقة في التعامل الدولي في موضوع استخدام مياه الأنهار المشتركة. كما أنّه يتعارض والواقع الجغرافي الملموس في أن النهرين هما نهران دوليان مشتركان بين تركيا (دولة المنبع) وسوريا والعراق يخضع استخدام مياههما إلى قواعد قانونيّة راسخة. كما أن تركيا لديها فائض مائي كبير في منطقة الأناضول، ومياه دجلة والفرات ليست المصدر الوحيد لها.

يُعتبر العراق من أول الدول في المنطقة في مجال تثبيت حقوقه في مياه الأنهار المشتركة. ففي عام 1946 وقع العراق وتركيا اتفاقيّة الصداقة وحسن الجوار، ألحق بها ستّة برتوكولات، سمّي البروتوكول الأول منها بروتوكول في شأن تنظيم مياه نهري دجلة والفرات وروافدهما بين العراق وتركيا. ورغم ما يثار أحيانا من انتقادات للبروتوكول فإنه يعدّ أساسا قانونيّا مهما لصالح العراق، خاصة وأنه مُصادق عليه من قبلهما ومودع لدى الأمين العام للأمم المتحدّة.

وينصّ على جملة قواعد مهمّة منها المادة الخامسة التي تؤكدّ موافقة حكومة تركيا على “إطلاع العراق على أي مشاريع خاصة بأعمال الوقاية قد تقرّر إنشاءها على أيّ من هذين النهرين أو روافدهما، وذلك لغرض جعل الأعمال تخدم، قدر الإمكان، مصلحة العراق كما تخدم مصلحة تركيا”. وهذه المادّة مُستمدّة من العرف الدولي وترسخّت في ما بعد في اتفاقية الأنهار الدولية ضمن الالتزام بـ”التشاور المسبق”. كذلك ينصّ على حقّ العراق في إقامة منشآت على النهرين داخل تركيا بما يحققّ الفائدة للطرفين. والحقيقة أن هذه المادة تؤكد حقّ العراق في المياه من لحظة جريانها داخل تركيا، وهو أمر مهم جدّا من الناحية القانونيّة.

تأخير إنجاز المشاريع التركية

كارثة مائية وشيكة
طبقا للقانون الدولي لا يجوز للدول والمؤسسات الماليّة أن تساهم في تمويل مشاريع على الأنهار الدوليّة إلا بعد أن تتفق الأطراف المتشاطئة على تلك المشاريع. وعندما واصلت تركيا مشاريعها دون الاستماع للاعتراضات، احتج العراق لدى الدول والمؤسسات المالية الدولية لثنيها عن تمويل السدود التي تخطّط تركيا لأقامتها، مبينا مضارّها على شعبه. ومن تلك الدول إيطاليا وألمانيا والنمسا وسويسرا وفرنسا واليابان، فضلا عن البنك الدولي وغيره من المؤسسات. وانضمّت الجامعة العربية إلى هذا الجهد برسائل وجّهها الأمين العام يطلب فيها من تلك الجهات التوقف عن التمويل حيث كانت تركيا تحتاج إلى 30 مليار دولار أميركي.

من خلال مواصلة هذا التحرك استطاع العراق تأخير إنجاز الكثير من المشاريع المخطط لها في تركيا، وواصل في نفس الوقت مساعيه الدبلوماسيّة المباشرة من أجل الوصول إلى حلّ نهائي ودائم.

هذا جانب من التحرك، لكن الجانب الآخر والمهم، هو ما كان يجري داخل العراق من عمل دؤوب تقوم به الأجهزة الحكوميّة وبخاصة أجهزة وزارة الري من أجل التخفيف من الآثار السلبية للمشاريع التركية على المواطن. لذلك أقيمت عدّة سدود عملاقة في وقت قياسي. فقد أنشأ العراق أكثر من 13 سدا منذ عام 1971. في الوقت نفسه، كانت هنالك عمليات كري للأنهار والجداول وخطوات أخرى وقرارات كثيرة من أجل استثمار أمثل للمياه في المشاريع الزراعيّة.

مسؤولية حكومات ما بعد 2003
مع الانشغال بالنتائج الهزيلة للانتخابات البرلمانية التي جرت في 12 مارس 2018، بدا النظام مرتبكا، عاجزا عن القيام بإجراء صحيح تجاه الأزمة. فقد تصرّف كأطراف سياسيّة متصارعة وليس كدولة ترعى مصالح شعبها. يضاف إلى ذلك أن الحكومات المتعاقبة لم تخصّص، ولو جزءا يسيرا من ثروة العراق الهائلة في استثمارات ومشاريع تضمن للمواطن الاحتياجات الأساسيّة وخاصة من المياه. لقد أُهملت الزراعة إهمالا كاملا وهذا يعني إهمال مشاريع الري، وما تحتاجه من إدامة للقنوات والسدود بهدف تقليل الهدر وزيادة الطاقة الخزنية. وأصبح العراق، أرض السواد شديدة الخصوبة، يستورد كل المنتجات الزراعية من الخارج.

خشية من نفاذ المخزون المائي
وبسبب غياب الدولة، شبه التام، راح المزارعون في الأعوام الأخيرة يأخذون دورها في توجيه المياه إلى هذه المنطقة أو تلك. وحصلت بين عدد من المحافظات الجنوبية نزاعات بخصوص ذلك.

كما أدى عقم سياسات النظام وبؤس عقلية من يتولون قيادته، إلى ارتكاب خطوة حمقاء تمثلت في فتح المياه باتجاه الأهوار التي كان شح المياه سببا رئيسا أدّى إلى تجفيفها. فمنذ 2003 يجري توجيه المياه إلى الأهوار قسرا. ورغم أن جهات دوليّة أشارت إلى أنه لا يمكن أن تعود الأهوار إلى سابق عهدها في ظل التحولات التي جرت على الوضع المائي للبلاد وللمنطقة، إلاّ أن السلطات أصرّت على المضي قدما.

نعم إنها خسارة كبيرة لكن من غير المعقول أن تكون إعادتها على حساب الملايين من المواطنين القاطنين أسفل النهر، حيث أدّى ذلك إلى خلق أزمة مزمنة فيها، وبخاصة في محافظة البصرة، إذ عانت وتعاني كثيرا من قلة مياه الشرب. لقد استخدمت السلطات، وبمشاركة جهات سياسية متنفذة، موضوع إعادة الأهوار وسيلة للإثراء من مشاريع وبرامج ظل الكثير منها مجرد حبر على ورق.

والآن، في ظل تصاعد التأثيرات السلبية وما سيحلّ بالبلاد من كارثة مائية وشيكة يتوجب اتخاذ قرارات جريئة بهدف الحيلولة دون حصول كوارث بشرية يذهب ضحيتها مئات الآلاف من أبناء العراق. بدأت وزارة الري منذ 5 يونيو إطلاق كمّيات إضافيّة من المياه المّخزّنة في السدود بهدف التخفيف من الهلع الذي أصاب المواطنين. ويخشى أن ينفد المخزون المائي قبل حلول موسم الحاجة القصوى له في شهري يوليو وأغسطس القادمين.

كان المفروض بالسلطات أن تواصل المفاوضات مع الجانب التركي وتبني على ما تحقق من نتائج تراكمت سابقا لا أن تنتظر إلى أن جاء وقت ملء سد أليسو لتتحرك من أجل تحقيق مطالب آنيّة، مثل تأجيل عملية الملء، أو زيادة نسبة الإطلاق. كان يفترض أن تفعّل الملف مع الجامعة العربية ومع هيئات الأمم المتحدة من أجل التوصل إلى تفاهمات مرضية مع الجانب التركي طبقا للقانون والمصالح المشتركة.

(مدير قسم المياه الدولية في وزارة الخارجيّة العراقية وعضو اللجنة الثلاثيّة العراقية ـ السورّية ـ التركية للمياه المشتركة سابقا، عضو الفريق العامل الذي وضع اتفاقية الأنهار الدولية في الأمم المتحدّة/ نيويورك 1996ـ 1997).

سد أليسو

تواظب تركيا، بلد المنبع، منذ زمن على إنشاء العديد من السدود على نهري دجلة والفرات، كجزء من برنامج ري طويل الأمد. وتجاهلت أنقرة عند إنشاء هذه السدود العراق وسوريا المتشاطئين معها في مياه دجلة والفرات. وفي خمسينات القرن الماضي، اقترحت تركيا بناء سد أليسو، وهو مشروع لتوليد الطاقة الكهرومائية، وبدأت ببنائه عام 2006، على نهر دجلة بالقرب من قرية أليسو، على طول حدود محافظتي ماردين وشرناق في تركيا.

وانتهت منه وافتتحته في فبراير 2018، وبدأت بملء خزانه المائي في أوائل يونيو من العام الحالي، ثم أعلنت أنقرة عن تأجيل العملية إلى شهر يوليو. ويشير تقرير لشبكة بي بي سي حول المشروع إلى أن السد منذ الإعلان عنه أثار غضبا دوليا لعدة أسباب، من أهمها تأثيره السلبي على مستوى المياه المتدفقة إلى سوريا وإيران والعراق، إلى جانب تأثر أكثر من 50 ألفا من سكان المناطق المحيطة بمنطقة السد في تركيا في قرية أليسو وغيرها من القرى المحيطة التي ستغرق كليا تحت مياه السد.

وبررت تركيا إنشاء السد بأنه سيوفر الطاقة الكهربائية وفرص العمل للمنطقة الفقيرة في جنوب شرقي الأناضول ذات الغالبية الكردية. وتضررت أعداد من المدن الرئيسية في العراق من هذا السد، وهي: الموصل والسليمانية وبغداد والعمارة ومناطق البصرة في الجنوب، بالإضافة إلى المناطق الزراعية المحيطة بنهر دجلة في أقصى شمالي سوريا. كما أن منطقة قلعة دزة والمناطق المحيطة بنهر الزاب الصغير، تعتمد بشكل رئيسي في مياه شربها على ذلك النهر الذي قطعت إيران عنه الروافد.

العرب