سوف يصبح الفائز في الانتخابات الرئاسية التركية، التي من المقرر إجراء الجولة الأولى منها في 24 حزيران (يونيو)، أقوى حاكم في التاريخ الحديث للجمهورية، بفضل التعديلات الدستورية التي تمت الموافقة عليها في استفتاء أجري العام الماضي.
* على الرغم من أن الرئيس الحالي، رجب طيب إردوغان، وحزبه الحاكم، العدالة والتنمية، صمم الإصلاحات وهو يضع الولاية القادمة في باله، فإن عدم الاستقرار الاقتصادي ومجموعة موحدة بطريقة غير اعتيادية من مرشحي المعارضة المختلفين يمكن أن تعرض مسعاه لإعادة الانتخاب للخطر.
* بغض النظر عمن سيفوز في السباق، فإن تركيا ستواجه نفس الضرورات الأمنية -والمشكلات نفسها في علاقاتها مع الحلفاء، مثل الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. ومع ذلك، سوف يعمل فوز إردوغان وحزب العدالة والتنمية على مفاقمة تلك المشكلات.
* * *
يوشك الناخبون الأتراك الآن على انتخاب أقوى زعيم على الإطلاق في تاريخ بلدهم الحديث. وسوف يتوجهون إلى صناديق الاقتراع يوم 24 تموز (يوليو)، قبل سنة ونصف تقريباً من الموعد المقرر، ولأول مرة منذ إقرار مجموعة من التعديلات الدستورية في العام الماضي لتوسيع سلطات الرئاسة. وفي الوقت نفسه، سوف يدلون بأصواتهم للمشرعين الذين سيشغَلون مقاعد البرلمان الذي تم توسيعه حديثاً.
بالنسبة للرئيس الحالي، رجب طيب إردوغان -الذي هندس، إلى جانب حزب العدالة والتنمية الذي يقوده، عملية مراجعة وتعديل الدستور- فإن المخاطر التي تنطوي عليها الانتخابات المقبلة عالية. فإذا فاز، فإنه سيتمتع عملياً بسلطة غير مقيدة في الرئاسة التنفيذية الجديدة، والتي يمكن أن يتولاها لفترة العقد المقبل. ولكن، من ناحية أخرى، إذا تمكنت المشاكل الاقتصادية الطيف المتنوع من مرشحي المعارضة المشاركين في السباق من تحويل ما يكفي من الناخبين عن جانب إردوغان، فإن المطاف قد ينتهي بواحد من منافسيه إلى تولي الرئاسة ذات السلطة المعززة. وفي كلتا الحالتين، سوف يواجه البلد نفسه المشاكل والضرورات.
أصداء الأزمة المالية السابقة
اجتاح حزب العدالة والتنمية ذو الجذور الإسلامية الانتخابات البرلمانية أول مرة في العام 2002، مجرداً العديد من الأحزاب المؤسسية من مقاعدها. وكان مديناً بفوزه الكبير لعاملين: أولاً، كانت سنوات من الأزمة الاقتصادية قد قوضت شرعية التحالف الحاكم في البلد في أعين الكثير من الناخبين. وثانياً، يتطلب القانون الانتخابي في تركيا من الأحزاب أن تحصل على 10 في المائة من الأصوات على الأقل حتى تدخل البرلمان. وتخسر الأحزاب التي تقصر عن بلوغ تلك العتبة الأصوات التي تتلقاها، والتي تتقاسمها الأحزار التي تصل إلى -أو تتجاوز- نسبة 10 في المائة المطلوبة بالتناسُب. وقد مكنت قاعدة الـ10 في المائة حزب العدالة والتنمية من كسب أغلبية مريحة في البرلمان في العام 2002 -ثم في كل انتخابات برلمانية لاحقة- من دون أن تكون لها ولاية شعبية مهمة على الإطلاق.
بعد انتخابات العام 2002، برع حزب العدالة والتنمية وإردوغان في الاستفادة من سوء حظ الآخرين وأخطائهم السياسية، صانعين تحالفات سياسية بحكم الضرورة، ثم التخلص من الاتفاقات التي لم يعودوا يستفيدون منها. وفي العام 2014، على سبيل المثال، فضّ حزب العدالة والتنمية تحالفه مع الغولنيين الإسلاميين -وهي شراكة كانت قد أثبتت نجاحها في أوائل الألفية- ثم ألقى اللوم عليهم لاحقاً في محاولة الانقلاب التي جرت في العام 2016. وتحول الحزب الحاكم عندئذٍ نحو حزب الحركة القومية لمساعدته في تمرير حزمة الإصلاح الدستوري في العام 2017. ونتيجة لتحالف المصلحة ذاك، يملك حزب العدالة والتنمية الآن دعماً أكثر من أي وقت مضى.
ولكن، لا يبحر الجميع في تركيا على المركب نفسه مع حزب العدالة والتنمية. وعلى سبيل المثال، ما يزال الأكراد الذين يشكلون نحو 20 في المائة من سكان تركيا في خصام مع الحزب الحاكم منذ انقلب ضدهم في العقد الحالي، بينما كسبت الحركة الانفصالية الكردية عبر كامل المنطقة مزيداً من الجاذبية. وقد اعتمد حزب العدالة والتنمية تاريخياً على كسب 4 إلى 5 في المائة من الأصوات الكردية، والتي كانت تدفعه لتجاوز الحافة إلى النصر. لكن الحزب ربما يكون قد خسر بعضاً من هذا الدعم الآن. وبالإضافة إلى ذلك، أصبح العديد من الناخبين من مختلف أطياف التركيبة السكانية للبلد متشككين بسبب التراجع الاقتصادي الأخير للبلد. وقد هبطت قيمة الليرة التركية إلى مستويات دنيا قياسية في مقابل الدولار واليورو، وأصبحت معدلات التضخم عالية، ودفعت جهود الرئيس للتأثير على السياسة المالية المستثمرين الدوليين إلى وقفة لمراجعة مواقفهم. ومع أنهم صوتوا لوصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة أول الأمر من أجل إخراج البلد من الاضطرابات الاقتصادية، فإن الناخبين الأتراك ربما لا يكونون راغبين الآن في منح الحزب الحاكم فرصة أخرى لإصلاح الاقتصاد.
معارضة متحدة
بالإضافة إلى ذلك، تجمعت المعارضة التركية التي تكون منقسمة عادة قبل الانتخابات المقبلة، ويمكن أن تتمكن من منع حزب العدالة والتنمية من الوصول مرة أخرى إلى السلطة بانتصار ضيق. وقد أصبحت ثلاثة من أحزاب المعارضة الرئيسية في تركيا؛ حزب الشعب الجمهوري، وحزب “لايي” (الخير) وحزب السعادة الإسلامي، تعمل معاً في تحالف يجمعه القليل سوى الرغبة المشتركة في الإطاحة بإردوغان. وبرامج هذه الأحزاب وأيديولوجياتها مختلفة عنه بما يكفي لمنحها فرصة لتحقيق ذلك الهدف. فحزب الخير، الذي أسسه منشقون عن حزب الحركة القومية، يعرض بديلاً صالحاً للناخبين القوميين المستائين من ارتباط حزب الحركة القومية بحزب إردوغان. وفي الأثناء، سوف يحصل أقدم الأحزاب التركية، حزب الشعب الجمهوري، على الدعم من قاعدته التقليدية من الناخبين العلمانيين الليبراليين في المناطق الحضرية -وهم منتقدون مريرون للرئيس. وأخيراً، يمثل حزب السعادة، ولو أنه صغير، الأيديولوجية الإسلامية نفسها التي يتجذر فيها حزب العدالة والتنمية، مما يعطي الناخبين المتدينين المعارضين لإردوغان بديلاً مقبولاً. وإلى جانب قواعدها المتمايزة من الناخبين، سوف تعتمد الأحزاب الثلاثة على الأصوات الكردية أيضاً، على أمل حرمان إردوغان من الأغلبية البسيطة التي يحتاجها لكسب الانتخابات في الجولة الأولى.
تشكل الرئاسة الجائزة الرئيسية على الطريق، لكنها ليست الشيء الوحيد الذي سيكون على المحك في 24 حزيران (يونيو). فالبرلمان يهم أيضاً. وفي حال حصل إردوغان على الرئاسة التنفيذية بعد كل شيء، فإن الهيئة التشريعية سوف تكون الرقيب المعتدل الوحيد على سلطاته، ولو أن البرلمان سيظل مفتقراً إلى السلطة اللازمة لنقض المراسيم الرئاسية. ولن يفوز أي من أحزاب المعارضة الثلاثة بأغلبية، لكنها تستطيع أن تتحدى حزب العدالة والتنمية معاً في البرلمان. ومع كسب ما يكفي من الأصوات، فإن المعارضة يمكن حتى أن تجمع أغلبية الثلثين اللازمة لنقض التعديلات الدستورية التي أقرت في العام 2017 (ولو أنها نتيجة غير مرجحة).
مكافآت الوجود في السلطة
إذا حققت المعارضة هدفها في السباق الرئاسي، سوف يعود الأتراك إلى صنادق الاقتراع لجولة ثانية من التصويت يوم 8 تموز (يوليو). وبالكاد سيكون تصويت الإعادة هو السيناريو المثالي بالنسبة لإردوغان، لكنها لن تضمن انتصاراً للمعارضة أيضاً. وقد بنى مرشحو المعارضة الثلاثة -ميرال أكسينر عن حزب الخير، وتيميل كرمان أوغلو عن حزب السعادة، ومحرم إنسي عن حزب الشعب الجمهوري- برامجهم الانتخابية حول الوعود بإعادة تأهيل الاقتصاد، ومحاولة إلغاء السلطات الرئاسية الجديدة واستعادة الحقوق التي أضعفتها الرئاسة الحالية. ومع ذلك، فإن أحد العوامل التي تصب بقوة في مصلحة إردوغان هو حس عدم القين وانعدام الأمن في تركيا. وقد عرض إردوغان نفسه منذ وقت طويل كبطريرك شعبوي مؤهل بطريقة فريدة لحل مشكلات تركيا الكثيرة، وسوف يحاول استغلال مخاوف الناخبين لمصلحته في الانتخابات.
كما أنه سيستخدم أيضاً الأدوات الأخرى الموجودة تحت تصرفه لتحسين فرصه في الفوز. وقد أمضى حزب العدالة والتنمية سنوات في السلطة وهو يرسخ نفسه في إعلام البلد، وجهازه القضائي وجيشه. وبالإضافة إلى ذلك، أعطى الانقلاب إردوغان وحزبه ذريعة لتطهير معارضيهم السياسيين وفرض حالة طوارئ. وفي حال كان التصويت ضيقاً بما يكفي لفرض إعادة فرز للأصوات، فإن حزب العدالة والتنمية يستطيع استخدام قانون الطوارئ لخنق مؤيدي المعارضة.
بل إن حزب العدالة والتنمية يستطيع أن يقلب الخسارة لصالحه عن طريق إدخال أي هزيمة يمنى بها في الجولة الأولى في سرده القومي. ويستطيع إردوغان، على سبيل المثال، أن يلقى باللائمة في نتيجة الانتخابات على القوى الخارجية، مثل الاتحاد الأوروبي، الذي منع الرئيس من القيام بحمله لكسب الدعم من أكثر من 3 ملايين ناخب تركي يعيشون في بلدانه. (وقد ألقى باللوم مسبقاً على التجار الأجانب باعتبارهم السبب الحقيقي في مشاكل البلد الاقتصادية). وسوف تُلحق مثل هذه المزاعم الضرر بعلاقات تركيا مع بقية العالم بغض النظر عن نتائج الانتخابات. وإذا ما نجح حزب العدالة والتنمية في تحقيق انتصار بالخداع من خلال وسائل مشكوك فيها، فإنها سيزيد فقط من حجم الضرر بسمعة البلد عند الاتحاد الأوروبي. وبمرور الوقت، سوف يعمل توتر أعمق مع الاتحاد الأوروبي على دفع تركيا إلى أحضان حلفاء مثل روسيا، بينما ينفِّر الحلفاء مثل الولايات المتحدة.
سوف تُحال مهمة التعامل مع هذه العلاقات ومع ضرورات تركيا الأخرى إلى المنتصر بمجرد انتهاء الانتخابات. وسوف تواجه الإدارة التالية الحاجة إلى تأمين حدودها الجنوبية وإلى الاحتفاظ بعلاقاتها مع الحلفاء الاقتصاديين والأمنيين الحاسمين مثل أوروبا، والولايات المتحدة وروسيا. وسوف تشكل هذه القضايا، إلى جانب الركود الاقتصادي في تركيا، تحدياً كبيراً للرئيس المقبل، سواء كان إردوغان أو واحداً من منافسيه. وعلى الرغم من أن الانتخابات المقبلة تشكل نقطة تحول بالنسبة للديمقراطية التركية، فإنها لن تغير علاقات البلد المضطربة مع حلفائه، أو جهوده لتأكيد نفوذه الإقليمي.
الغد