منذ اندلاع الربيع العربي في العام 2011، انهارت السلطة العسكرية المركزية في كلٍّ من شمال أفريقيا والمشرق العربي واليمن، ولجأ العديد من الدول العربية الضعيفة إلى الميليشيات المحلية لمساعدته على الدفاع عن أنظمته. صحيح أن هذه الميليشيات الموالية للحكومات يمكن أن تؤدّي أدواراً أمنية مهمة، إلا أنها تتمتّع بمقدرة عسكرية ومصداقية محدودتَين. والواقع أن نقل مقاتلي الميليشيات إلى قوات حرس وطني لها روابط رسمية مع هيكلية القيادة الوطنية، يمكن أن يتخطّى بعض هذه المعوقات، إلا أن هذا الانتقال يجب أن يترافق مع التزام أوسع بإصلاح قطاع الأمن وتقاسم السلطة السياسية.
دور الميليشيات المتنامي
بعض الميليشيات يرتبط بالأحزاب الحاكمة ويستمدّ المقاتلين مباشرةً من مناصري النظام. في المقابل، تتكوّن ميليشيات أخرى من فصائل ثورية سابقة أو منشقّين من مجموعات إرهابية ومتمرّدة، وغالباً ماتسعى هذه الميليشيات إلى الإبقاء على استقلاليتها حتى لو أعلنت الولاء ووضعت نفسها في خدمة الدولة.
في العديد من البلدان العربية، بما فيها العراق وليبيا وسورية واليمن، تضطلع الميليشيات بدور مهم في عمليات مكافحة التمرّد والإرهاب.
غالباً ماتكون الميليشيات أقل تكلفة وأكثر ليونة من قوات الأمن النظامية، كما تتمتّع بمعرفة محلية أكبر، مايتيح لها أن تنشط بفعالية في المناطق حيث لاتستطيع قوات الأمن النظامية العمل.
غالباً ماتفتقر الميليشيات إلى المهنية، وقد ترتكب أعمال عنف ضد السكان المدنيين، فيما تتيح للأنظمة تنصّلاً مقبولاً وحصانة في وجه التنديد الدولي بانتهاكات حقوق الإنسان.
من الخطر الاعتماد على الميليشيات. فهي قد ترفض الانصياع إلى الأوامر، أو قد تنقلب على رعاتها الدوليين. وحتى لو كانت الميليشيات وفيّة، فهي غالباً ماتفتقر إلى التدريب والمعدّات الضرورية لمواجهة أعداء أقوى. وقد يؤدّي انتشارها إلى ضعضعة احتكار الدولة لاستخدام القوة.
كيف يُمكن للحرس الوطني المساعدة على تأمين الاستقرار؟
يمكن للحرس الوطني أن يؤمّن روابط رسمية وقانونية بين مقاتلي الميليشيات المحليين وبين الدولة. قد يساعد تنظيم الحرس الوطني على طول خطوط المحافظات والبلديات في تحقيق أكبر قدر من الدعم المحلي، وربط القوات المحلية بهيكلية القيادة الوطنية في الوقت نفسه.
لن تكون القوات الجديدة فعّالة إلا إذا تم إطلاقها كجزء من إصلاحات أوسع للقطاع الأمني. يتطلّب الدمج الناجح للحرس الوطني تعديلات في ثقافة الأجهزة الأمنية الرئيسة وتدريبها للحدّ من انعدام الثقة والمنافسة في مابينها.
ينبغي أن يترافق إطلاق برامج الحرس الوطني مع إصلاحات سياسية وتقاسم السلطة. يمكن للحرس الوطني أن يعزّز الترتيبات الاتحادية التي توفّر الحكم الذاتي المحلي، فيما تساعد على ضمان ولاء المقاتلين للدولة وتعزيز التماسك السياسي. لكن انتقال السلطة العسكرية وحده ليس بديلاً عن إقامة تسوية سياسية بين الحكومة المركزية وبين الأقليات الإثنية-الطائفية أو المناطقية.
مقدّمة
عمد العراق وليبيا وسورية واليمن، وهي الدول التي تُواجِه جميعاً مشكلة الجيوش الوطنية التي انهارت بنسب متفاوتة، إلى إقامة تحالفات بشكل مطّرد مع ميليشيات مسلحة بهدف محاولة ضمان أمنها.
هذا التفكّك للجيوش- الذي بدأ في العراق مع إطاحة الولايات المتحدة لصدام حسين في العام 2003 وفي بلدان أخرى على إيقاع ثورات العامَين 2011 و2012- سببه المجابهات مع الاحتجاجات الشعبية، والمعارك المتصاعدة مع مجموعات مُتمردة يرتبط العديد منها بالحركات الراديكالية الإسلامية. بيد أن الانشطارات الداخلية، بما في ذلك التنافسات العشائرية في اليمن، والتصدّعات بين المدن والمناطق في ليبيا، والانشقاقات الطائفية في سورية والعراق، سرّعت من وتيرة هذه الانهيارات.
العديد من هذه الميليشيات الموالية للحكومة، والمتحالفة الآن مع هذه الدول المُحاصرة بالاضطرابات، نُظِّمَت على أُسُس عِرقية- طائفية أو روابط قَبَلِية. وهي تُكمِّل، أو أحياناً تكون بديلاً للجيش والشرطة الضعيفين أو الغائبين كمصدر للأمن المحلي. 1 ولاحقاً، يمكن لهذه الميليشيات أن تشكِّل منطلقاً لتشكيل جهاز حرس وطني جديد. ومثل هذه المقاربة قد تفيد من القواعد المحلية الداعمة للميليشيات، فيما يجري العمل لدمجها في هيكلية قيادة وطنية.
عمد العراق وليبيا وسورية واليمن إلى إقامة تحالفات بشكل مطّرد مع ميليشيات مسلحة لضمان الأمن.
بالطبع، مفهوم الحرس الوطني يواجهه عقبات كأداء عدة، كما تبيّن بوضوح خلال دراسة هذه التجربة في العراق وليبيا. إذ أن هيكلية الحرس تطرح أسئلة كبرى حول قضية تماسك الدولة ككل، وحول عملية المساءلة فيها. فهذه القوى قد تُضعِف الدولة بدل أن تعضدها. لكن، إذا مابُنِيَت على أُسُس سليمة، فقد تخدم كخطوات أولى مبدئية على الدرب الطويل نحو ترتيبات جديدة لتقاسم السلطة تستند إلى مبدأ الشمولية للجميع والتمثيل المحلي، بدلاً من ممارسة المركز الإقصاء والقمع. وبهذا المعنى، قد تكون هذه القوى أفضل أمل لاستعادة الاستقرار في هذه البلدان الهشّة.
لكن في نهاية المطاف، فإن تشكيل الحرس الوطني يجب أن يرتبط بالإصلاحات في ميادين أخرى، إذا ما أُريد لهذه المقاربة أن تنجح. والأولوية القصوى هنا هي الإصلاح داخل قطاع الأمن نفسه، بما في ذلك ترقية ثقافة التعاون بدل التنافس، وتعزيز حلقات القيادة والإشراف الدقيق بين الميليشيات وبين أجهزة الأمن النظامية. وثمة أمر ملحّ آخر هو الإصلاح السياسي، الذي يؤثِّر على الطريقة التي تُوزَّع فيها السلطة وتُستوعَب بموجبها الأقليات العرقية- الطائفية والمجموعات الطرفية الأخرى في تضاعيف الدولة.
الدور المتطِّور للميليشيات
كان للحكام العرب دوماً علاقات ازدواجية متناقضة مع الميليشيات والقوى المسلحة الأخرى غير الدُولتِية. فالعلّامة العربي ابن خلدون افترض وجود توتر وتنافس كامنَين بين الدولة وبين القبائل المُولَعة بالحرب، والتي كانت تجوب المناطق الداخلية غير الحضرية.2 بيد أن الدول غالباً ماكانت تلجأ إلى شيوخ القبائل وقادة المجموعات العسكرية والعصابات الإجرامية للمساعدة على تحصيل الضرائب، وفرض الأمن والنظام، وقمع المتمردين. كل الامبراطوريات العثمانية والبريطانية والفرنسية، جنّدت القوات القَبَلية لمساعدتها على ممارسة السيطرة.3
غداة حصولهم على الاستقلال في أوائل منتصف القرن العشرين، جَهَدَ الحكام العرب بقوة للاقتراب من تعريف ماكس فيبر Max Weber الشهير للدولة على أنها الكيان الذي يحتكر شرعية ممارسة القوة، فشكّلوا الجيوش الوطنية الضرورية للحفاظ على البقاء، في منطقة تشوبها الحروب المتكررة بين الدول. بيد أن هذه الجيوش وُظِّفَت أيضاً لقمع المعارضة والتمرّدات الداخلية ضد الدولة. وقد اعتبر الضباط العسكريون أنفسهم حائزين على مواقع فريدة ومُتمتّعة بالامتيازات، وغالباً ما استولوا على السلطة بأنفسهم باسم الامة. ولذا، أصبحت الانقلابات العسكرية سمة متواترة في السياسات العربية من الثلاثينيات إلى أوائل السبعينيات. وبدءاً من الخمسينيات وحتى السبعينيات، حاولت بعض الأنظمة المرتبطة بالمعسكر القومي العربي الاشتراكي الراديكالي أن تحصِّن نفسها ضد الانقلابات العسكرية، من خلال تشكيل ميليشيات تابعة للحزب الحاكم، وفق نموذج (إلى هذا الحدّ أو ذاك) اللجان الشعبية والميليشيات في الاتحاد السوفييتي. وقاوم ضباط الجيش النظامي مايعتبرونه انتهاكاً من قبل مدنيين غير مدربين لعرينهم المهني. بيد أن هذه الميليشيات لم تكن في الواقع أكثر من مجموعات من سفاكي الحزب الذين يُروِّعون شخصيات المعارضة.
مع مقدّم السبعينيات والثمانينيات، برز نموذج مزدوج من طبقتَين لتنظيم أجهزة الأمن في العديد من البلدان العربية. الطبقة الأعمق والأوطد تشكّلت من أجهزة أمن وحرس رئاسي كثيفَي التسليح، تحدّرت عناصرها من أقارب الحكام وأتباعهم. المسؤولية الرئيس لهذه الطبقة هي إجهاض الانقلابات العسكرية والمؤامرات الداخلية. أما الطبقة الخارجية فتكوّنت من الجيش والشرطة اللذين يمكن نشرهما في حال نشوب حروب أجنبية أو تمرّدات شعبية. لكن هذا الطراز من تقسيم العمل اعترضته جملة مشاكل، بما في ذلك تسعير التنافسات بين الأجهزة وانعدام الثقة، ما أعاق الفعالية القتالية الفعلية.4
مثل هذه البنية التنظيمية لاتزال قائمة في مصر والجزائر ومَلَكِيات الخليج العربي، حيث لاتزال الجيوش متماسكة، وإن كانت متضخّمة. هذه الجيوش الوطنية لاتحوز سوى على قدرات محدودة لاستعراض القوة، مع بعض مواقع استثنائية تتمثّل في فرق العمليات الخاصة وسلاح الجو. ولايزال الدور الأكثر أهمية لها هو منع الانقلابات العسكرية واستخراج العوائد للقواعد الموالية.5
لكن في العراق وليبيا وسورية واليمن، حيث الجيوش انهارت، يُلقي صعود الميليشيات الموالية للحكومة أضواء كاشفة على معضلة مثيرة للقلق. فمن جهة، باتت هذه الميليشيات تلعب دوراً مهماً في مكافحة التمرّد والإرهاب، وغالباً في مناطق لاتستطيع أجهزة الأمن النظامية العمل فيها أو هي لاتريد ذلك. كما أن العديد من عناصر هذه الميليشيات، يأتي من فصائل متمردة سابقاً ومن منشقّين عن مجموعات متمردة، مايمحضهم معرفة فريدة بالظروف والأرض المحليين.6 وعلى سبيل المثال، في أوائل العام 2015 ساعدت الميليشيات الشيعية في العراق على استعادة السيطرة على مدينة تكريت من تنظيم الدولة الإسلامية؛ فيما ساعدت الميليشيات من مصراتة، وهي مدينة ساحلية غرب ليبيا، في منازلة قوات الدولة الإسلامية التي كانت احتلّت جزءاً من بلدة سرت المجاورة، إضافة إلى قرى أخرى محيطة بها.
من جهة أخرى، هناك مروحة من المخاطر الكامنة في تعبئة هذه القوى غير الدُولتية. فالحكومات يمكنها استخدام الميليشيات كوكلاء لها، فتهاجم المدنيين فيما هي تحتفظ لنفسها بدرجة ما من صدقية التنصّل من المسؤولية وبالتالي تجنُّب الرقابة الدولية. ثم أن الميليشيات نفسها غالباً ماتفتقد إلى التدريب والمهنية، مايجعلها ميّالة إلى خرق حقوق الإنسان، وإلى العمليات الإجرامية العامة.
ميليشيات الشبيحة السورية توضح أبعاد هذه المعضلة. فهي انبثقت من شبكات التهريب والابتزاز والرشى التي كانت تعمل بحماية نظام الرئيس بشار الأسد. صحيح أن عناصر الشبيحة وفَّروا قدراً من الحماية للأقليتين العلوية والمسيحية من هجمات الدولة الإسلامية ومتطرفين إسلاميين آخرين، إلّا أنهم توّرطوا أيضاً في ارتكاب فظائع مثل الاغتصابات والتعذيب والقتل الجماعي.7
الاعتماد على الميليشيات قد ينسف جهود إعادة توكيد احتكار الدولة لاستخدام القوة.
بمعنى أوسع، الاعتماد على الميليشيات قد ينسف الجهود لإعادة توكيد احتكار الدولة لاستخدام القوة. ففي اليمن، على سبيل المثال، وافقت الدولة على تشكُّل ميليشيات اللجان الشعبية في العام 2011 لمواجهة تعدّيات متطرفي أنصار الشريعة المرتبطين بالقاعدة في محافظة أبين الجنوبية. نجحت هذه اللجان في صدّ تقدُّم الإسلاميين، وحظيت بقدر من الدعم الشعبي لإقدامها على إلغاء فرض الشريعة. لكن، في حين أن هذه اللجان أبدت الولاء للحكومة في صنعاء، إلا أنها أصبحت شرسة بشكل متزايد ضد المدنيين، واستخدمت العنف لتسوية الصراعات الانتقامية القَبَلية والشخصية، وباتت تطالب بحصة أكبر من زبائنية الحكومة.8 وخلال تقدّم المتمردين الحوثيين في أوائل 2015، كانت اللجان الشعبية عاملاً رئيساً في الجهود الدفاعية للرئيس عبد ربه منصور هادي.9
طُرِحَت في العديد من البلدان العربية فكرة تحويل المقاتلين غير الرسميين إلى قوات حرس وطني رسمي في مراحل مختلفة، كوسيلة لحلّ بعض هذه المشاكل. فمن شأن مثل هذا الحرس أن يُضفي الشرعية ويصوغ بشكل رسمي العلاقات بين الدول وبين الميليشيات الموالية للحكومة. ومن خلال توفير أقنية التجنيد، وتعبئة الميليشيات كمساند احتياطي للجيش، تسمح هذه الإجراءات أيضاً للحكومات المركزية الضعيفة بمكافحة المتمردين والجماعات الإرهابية بفعالية أكبر.
ومع ذلك، كانت الجهود لبناء سلك حرس وطني في ليبيا والعراق فاشلة حتى الآن. ففي كلا الحالتين، برزت مقاومة ليس فقط من بعض الأعضاء المرشحين للانضمام إلى الحرس الوطني، بل أيضاً من قِبَل فصائل سياسية، وأعضاء في القوات المسلحة النظامية، ومجموعات مجتمعية أخرى. في ليبيا، عارضت الفصائل الأكثر علمانية وطبقة الضباط القدماء برنامج الحرس الوطني، لأنهم رأوا فيه مسعى من الميليشيات الإسلامية لتحدّي الجيش النظامي. وبالمثل، وفي العراق، حيث كان الهدف من الحرس الوطني حفز السنّة على الانضمام إلى القتال ضد الدولة الإسلامية، سقطت الفكرة ضحية النزاعات البرلمانية حيال مداها ودورها، خاصة من جانب الفصائل الكردية والشيعية. وبالتالي، التمحُّص في هذه الجهود المُحبَطَة من شأنه المساعدة على توضيح إمكانات الحرس الوطني لإعادة بناء الدول العربية، وأيضاً حدود هذه الإمكانات.
الحرس الوطني العراقي: أداة للقوة السنّية؟
في أواخر العام 2014، حين كان العراق يجهد لاحتواء تقدُّم الدولة الإسلامية، دعا مسؤولون عراقيون وأميركيون إلى تشكيل حرس وطني، كوسيلة لدمج الميليشيات القَبَلية السنّية في هيكلية القيادة الوطنية.
هذا الاقتراح له الكثير من القواسم المشتركة مع حركة الصحوة السنّية في أواسط العقد الأول من القرن الحالي، حين دعمت الولايات المتحدة تكوين ميليشيات سنّية للمساعدة على إلحاق الهزيمة بتنظيم القاعدة في العراق. بيد أن الفكرة الجديدة الخاصة بتشكيل حرس وطني عراقي جديد، واجهت العديد من العقبات وفشلت في التجسُّد على أرض الواقع.
تجربة الصحوة السنّية
ظاهرة الميليشيات شهدت صعوداً في العراق منذ إطاحة الرئيس السابق صدام حسين في العام 2003. وكانت الولايات المتحدة سارعت إلى حلّ الجيش العراقي ووحدات الشرطة فوراً، واعتبرتهما حصناً للنظام القديم، كما خشيت أن يكونا مصدراً لانقلابات عسكرية. في هذه الأثناء، كانت الأحزاب الشيعية والكردية التي هيمنت على الحكومة المُشكَّلة حديثاً، تعتمد على قوات الميليشيا الخاصة بها والمستقلة ذاتياً. فقد كان للحزبَين الكرديَّين الرئيسَين وحدات بيشمركة خاصة بهما، كما كان للأحزاب السياسية الشيعية فصائلها المسلحة التابعة لها، على غرار قوات بدر (الآن منظمة بدر) التابعة للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق (الذي أُعيدَت تسميته المجلس الأعلى الإسلامي العراقي). وظهرت أيضاً قوات ميليشيا أخرى لتوفير الأمن وإبراز العضلات السياسية لطامحين سياسيين جدد، على غرار رجل الدين الشيعي الراديكالي مقتدى الصدر وجيشه المهدي.
في هذه الأثناء، وفي المناطق السنّية في شمال وغرب العراق، عمد المتمردون، والإسلاميون، والميليشيات القَبَلية، إلى ملء الفراغ بسرعة، بهدف إحباط مخطّطات الحكومة التي يهيمن عليها الشيعة والولايات المتحدة. وفشلت الولايات المتحدة في مساعيها لحشد الموارد الكافية للمساعدة على تسريح وتجريد ضباط الجيش السابقين ومقاتلي الميليشيات من السلاح في هذه المناطق، ثم إعادة دمجهم في الحياة المدنية. أكثر من ذلك، تردّدت الأحزاب السياسية الشيعية في التخلّي عن قوات الميليشيا التابعة لها، وامتنع السنّة من ذوي الخبرة العسكرية عن العمل مع من اعتبروهم مدنيين غير مهنيين وغير مدرّبين وتحالف العديد منهم مع إيران والولايات المتحدة.
عشية العام 2006، كان العراق في حالة حرب عرقية- طائفية تامة. فالمتمردون السنّة استخدموا العبوات الناسفة المُرتجَلة، والقصف، والهجمات الانتحارية ضد الشيعة والأكراد وأهداف أميركية. والحكومة شنّت حربها القذرة الخاصة بها، مُستخدِمةً الخطف والتعذيب والاغتيالات ضد المُشتبَه بأنهم إرهابيون سنّة. وغالباً ما استعملت لهذا الهدف الميليشيات الشيعية التي عملت بالتنسيق مع قوات وزارة الداخلية.
كان هذا هو السياق الذي بدأت خلاله الولايات المتحدة بتمكين القبائل السنّية وتجنيدها بفعالية، كوسيلة لقطع صلاتها بالتمرّد. وهكذا، استندت الصحوة السنّية إلى صفقة مهمة بين الولايات المتحدة والقبائل، تقوم بموجبها الأولى بتوفير الوظائف والسلاح للقبائل، وتحميها بفعالية من تدخلات الميليشيات الشيعية وقوات الأمن العراقية. وهذا ماجعلها (القبائل) تتمتّع عملياً بالحكم الذاتي، وباتت مسؤولة عن اقتلاع المتمردين. إضافة إلى ذلك، كان دعم الأردن والسعودية حاسماً لبناء الروابط والحفاظ عليها مع القبائل السنّية في المناطق الغربية. وقبل نهاية 2007، كانت الميليشيات استوعبت أكثر من 65 ألف رجل في السلك العسكري في سبع مقاطعات عراقية.10
مثل هذه المقاربة بدت في البداية فعّالة. فوتائر العنف في العراق انحسرت بشكل ملموس في العامَين 2007 و2008، ما أوحى أن الحرب الأهلية وضعت أوزارها. واليوم يبادر العديد من المراقبين إلى طرح تجرية الصحوة كمنوذج يمكن أن تحتذي به عملية بناء حرس وطني مستقبلي في العراق.
بيد أن الحكومة المركزية في العراق لم تكن طرفاً كاملاً في المفاوضات بين الولايات المتحدة والقيادات السنّية، ولم تحتضن البتة خطة الصحوة. وهكذا، ومع انسحاب القوات الأميركية من العراق في العامَين 2009 و2010، بدا أن الحكومة العراقية نكثت بوعودها لدمج هذه القوة، السنّية أساساً، في جهاز الدولة. فلم تُجنَّد سوى حفنة من مقاتلي الصحوة السابقين في الشرطة والجيش أو في مواقع أخرى في الحكومة. ومعظم هؤلاء صُرِفوا من الخدمة لاحقاً أو عُرِضَت عليهم وظائف وضيعة. ثم بدأت حكومة رئيس الوزراء آنذاك نوري المالكي حملة على قادة سياسيين سنّة بارزين، وقاضت واعتقلت بعضهم بتهم الإرهاب أو ممارسة سياسات هدّامة.
قبل نهاية العقد، بدأت القبائل الساخطة بالعودة ثانية إلى التعاون مع بقايا قوات حزب البعث التي كانت مُختبِئة في الشمال السنّي، ومع الجماعات المتطرفة على غرار الدولة الإسلامية التي بدأت نشاطها في إطار تنظيم القاعدة في العراق، والتي تزايدت قوتها بشكل كاسح بعد أن سنحت لها فرصة إقامة ملاذ آمن في سورية حين أندلعت الحرب الأهلية فيها العام 2011.
في هذه الأثناء، تواصل التخالط بين الدولة وبين القوى المسلحة غير الدُولتية المتحالفة مع الحكومة. فمن جهة، سيطر المالكي على قوات النخبة في جهاز العمليات الخاصة التي جُنِّدَت من بين صفوف الميليشيات الشيعية وتلقّت تدريبات وتجهيزات خاصة من الولايات المتحدة. كما أنه أدار ميليشيات محلية مرتبطة به مباشرة من خلال الشبكات الزبائنية والعائلية. ومن جهة أخرى، بدا أن الميليشيات الشيعية الأخرى المرتبطة بمنافسي المالكي، مثل جيش المهدي التابع للصدر، تتحلل، فيما تُواصِل صفوف الجيش العراقي وباقي فروع أجهزة الأمن التوسُّع بدعم غربي.
منازلة الدولة الإسلامية
تشي الإنجازات المفاجئة للدولة الإسلامية في مقاطعتَي الأنبار ونينوى في غرب العراق في صيف 2014، بمدى الهشاشة التي كانت عليها هذه الترتيبات. فالقوات النظامية العراقية أظهرت كم هي ضعيفة التدريب وتفتقد إلى الانضباط. فهي تبعثرت بسرعة ولاذت بالفرار. ووفق بعض الإحصاءات، تبيّن أن 300 ألف من العسكريين المسجّلين في قوائم قوات الأمن العراقية، أي نحو 30-40 في المئة من إجمالي القوات، كانوا وهميين ولم ينخرطوا البتة في الخدمة الفعلية.11
حينها، دخلت الميليشيات الشيعية غير الدُولتية على الخط لملء الفراغ، وأصدر أية الله السيستاني، وهو السلطة الدينية الشيعية العليا في العراق، فتوى تدعو المدنيين العراقيين إلى امتشاق السلاح دفاعاً عن النفس. وبعدها أعاد جيش المهدي الهاجع تشكيل نفسه بسرعة، وتمركز في ثكنِ في بغداد وسامراء القريبة منها. كما أرسلت إيران وحدة قوات خاصة من الحرس الثوري الإيراني، وهي فيلق القدس، للمساعدة على تنظيم وتجهيز وتدريب الميليشيات الشيعية التي باتت تُعرَف بـ”قوات الحشد الشعبي”.12
في آب/أغسطس 2014، بدأت الولايات المتحدة في تقديم الدعم الجوي للقوات العراقية التي تقاتل الدولة الإسلامية. وسَعَت واشنطن إلى حفز الحكومة العراقية على مد يد التعاون إلى الطائفة السنّية المَقصيّة. وعمد الرئيس الأميركي باراك أوباما على وجه التحديد، في بيان أصدره في 10 أيلول/سبتمبر 2014، إلى طرح مسألة الدعم الأميركي لتشكيل حرس وطني، كوسيلة لمساعدة الفئات السنّية العراقية على تحصين حريتهم ضد الدولة الإسلامية.13
حينها، شبَّه العديد من المعلقين فكرة الحرس الوطني بالحرس الوطني الأميركي، فيما عمد آخرون إلى ربط الحرس الوطني الجديد بتجربة الصحوة السنّية، حيث أن توفير الدعم العسكري والمالي من خلال الحرس الوطني قد يشجِّع فصائل القبائل السنّية على الانقلاب على متطرفي الدولة الإسلامية. ووفق التصوّر الذي طُرِح حول الحرس الوطني، ستوضع الميليشيات تحت إشراف حكّام مؤقّتين، ويمكن أن تستدعيهم الحكومة المركزية للخدمة كوحدات احتياط معاونة للجيش النظامي.14
لكن، لاقوات الحشد الشعبي ولامبادرة الحرس الوطني كانتا تستندان إلى أُسُس قانونية مكينة. والدستور العراقي يحظّر على وجه الخصوص تشكيل ميليشيات خارج إطار القوات المسلحة (ماعدا قوات البشمركة الكردية).15
ومع ذلك، بدا في البداية أن فكرة الحرس الوطني قادرة على الإقلاع. إذ أعرب رئيس الحكومة الجديد حيدر العبادي عن دعمه للفكرة، وجرى طرح مسودة قانون في هذا الشأن في البرلمان العراقي في تشرين الأول/أوكتوبر 2014. 16 كما أجرى مسؤولون حكوميون أميركيون وعراقيون محادثات مع شيوخ القبائل السنّية الرئيسة في الغرب.17 وبرز 2000 متطوع في مقاطعة الأنبار.18 وفي مدينة كركوك الشمالية، تطوّع رجال قبائل لقتال الدولة الإسلامية بإشراف أنور العاصي شيخ قبائل العُبيد.19 علاوة على ذلك، التقى مسؤولون أميركيون مباشرة مع شيوخ القبائل في الأنبار، بما في ذلك أحمد أبو ريشة الذي قاد شقيقه حركة الصحوة إلى حين اغتياله في العام 2007. 20
لكن، سرعان ماتبدّد هذا الزخم، الذي انطلق في البداية مع طرح مبادرة الحرس الوطني المُقترحة، هباءً منثوراً. فواجهت المبادرة مقاومة حادة داخل معسكر العبادي، وجرت عرقلة تعيين مرشحي العبادي في مواقع حسّاسة مثل وزارتَي الدفاع والداخلية. كما أن مشروع قانون الحرس الوطني وَهَن وفَقَدَ حيويته في البرلمان. وفي خاتمة المطاف، شغل منصب وزير الدفاع سياسي سنّي مخضرم لكن ليس له سوى تأثير ضئيل على المقاطعات الحاسمة التي أقام فيها تنظيم الدولة الإسلامية موطئ قدم له. وشغلت شخصية مرتبطة بالمجلس الأعلى الإسلامي منصب وزارة الداخلية، الأمر الذي عزّز الروابط بين الحكومة وبين الميليشيات الشيعية. 21
أما السنّة فقد أطلوا على الحرس الوطني بوصفه أداة للمطالبة بحكم ذاتي فعّال وبمشاركة أوسع في تقاسم السلطة، مقارنين ذلك بما حصلوا عليه من الولايات المتحدة في العام 2006. واشترطت بعض القبائل السنّية في الأنبار أن تترافق مشاركتها في الحرس الوطني مع إخراج الميليشيات الشيعية من هذه المقاطعة.22 وكما كان متوقّعاً، شكّت الحكومة التي يهيمن عليها الشيعة بنوايا السنّة، وبدت مُحترِسةً من تشكيل قوة قد تُصبح طرفاً موازناً للحكومة المركزية، أو حتى تتحالف مع الدولة الإسلامية.
ثم أطلّت الاعتبارات الجيو-سياسية برأسها لتفاقم من مثل هذه المخاوف. ففي حين أصبحت الحكومة المركزية العراقية معتمدة أكثر فأكثر على إيران الشيعية، خاصة في مايتعلق ببناء قوات الحشد الشعبي، خطّطت الولايات المتحدة للاستعانة بدول عربية سنّية، مثل الأردن والسعودية ودولة الإمارات العربية، لتوفير التدريب والدعم للحرس الوطني.23 وهذا مازاد من إمكانية تحوُّل هذا الأخير إلى وكيل للولايات المتحدة والدول العربية السنّية داخل حلبة السياسات المحلية العراقية.
علاوة على ذلك، اعتبر العديد من العراقيين أن الحرس الوطني هو خطوة أخرى في اتجاه تفتيت العراق ككلّ. وعلى سبيل المثال، حين علم قادة الأقلية التركمانية بأن ثمة إمكانية لتشكيل ميليشيات سنّية، اندفعوا بصخب للمطالبة بتشكيل وحدات ميليشيا خاصة بهم.24
شكّكت الحكومة التي يهيمن عليها الشيعة بنوايا السنّة، وبدت مُحترِسةً من تشكيل قوة قد تُصبح طرفاً موازناً للحكومة المركزية، أو حتى تتحالف مع الدولة الإسلامية.
فيما كان الأمل بإقامة حرس وطني رسمي يخبو ويضمحل في أواخر 2014، كانت ميليشيات الحشد الشعبي الشيعية تواصل النمو بدعم إيراني. ومع ذلك، شابت هذه الميليشيات بعض المشاكل الرئيسة المتعلقة بالانضباط والتدريب التي هي خصيصة قوات الميليشيات غير المُتفرغة. فخلال الهجوم على تكريت في شهر آذار/مارس 2015، تمتّعت الوحدات المشتركة المُشكّلة من أجهزة الأمن النظامية ومقاتلي الحشد الشعبي بتفوُّق عددي واضح، لكنها مع ذلك تعثَّرت مراراً أمام المقاومة الشرسة لمقاتلي الدولة الإسلامية. ثم أن الاستقلال الذاتي لقوات الحشد الشعبي عقّدت جهود التنسيق بين العراق والولايات المتحدة. فبعض وحدات الحشد المرتبطة على نحو وثيق بإيران، اختارت التخلي عن القتال، بدلاً من التعاون مع الخطط الأميركية لتوفير الغطاء الجوي للهجوم. ومن جهتها، أصرّت الولايات المتحدة على التعاطي فقط مع أجهزة الأمن الرسمية العراقية، وليس مع وحدات الحشد الشعبي، في برامج التدريب/التجهيز.25
لكن الأكثر أهمية هو أن ميليشيات الحشد الشعبي تورطت في حملة ترهيب وترويع ضد السنّة المُشتبَه بتعاطفهم أو تعاونهم مع الدولة الإسلامية. ووصف شهود عيان كيفية قيام عناصر الميليشيات بنهب الممتلكات، وشنّ حملة اعتقالات غير قانونية، وعمليات قتل غير مشروعة ضد السنّة. وبسبب العلاقة بين الحكومة المركزية وميليشيات الحشد الشعبي، فُسَّر ذلك على أنه محاولات متعمدة لترويع السنّة وربما تهجيرهم. 26
بالطبع، الاعتماد على الميليشيات الشيعية فاقم مشاعر تغرُّب السنّة إزاء الحكومة المركزية، وربما حتى دفعهم أكثر إلى أحضان الدولة الإسلامية. وفي حين أن قلّة من رجال القبائل السنّة انضمّوا على مايبدو إلى حملة الحكومة في تكريت، إلا أن الانطباع العام عن وحدات الحشد الشعبي على أنها جمعٌ من الميليشيات الشيعية بالتحديد، كان لابدّ أن يتولّد.27 وكان الجنرال الأميركي ديفيد بيترايوس، الذي أشرف على عملية الطفرة للقوات العسكرية الأميركية (Surge) في العام 2006، لاحظ خلال تقييمه للوضع في العراق في آذار/مارس 2005، أن القوات الموالية لإيران تشكِّل تهديداً لمستقبل العراق أكبر حتى من تتنظيم الدولة الإسلامية نفسه.28 لكن الحكومة العراقية، من جهتها، لاتبدو مستعدةً لوضع حدّ لفظائع الميليشيات، ولاهي قادرة على ذلك.29
الحرس الوطني الليبي: جهد فاشل لتنظيم الميليشيات
كان معمّر القذافي، الذي كان زعيم ليبيا لأمد طويل، يخشى الانقلابات العسكرية. وقد أبقى الجيش النظامي ضعيفاً، باستثناء ألوية النخبة الأمنية التي كان يقودها أبناؤه. بعد ثورة العام 2011، تحوّل الجيش الوطني وقوات الشرطة المركزيّان للغاية واللذان يعانيان ضعفاً في التجهيز ونقصاً في التمويل، إلى قطاع أمني متفكّك وغير رسمي يشهد استقطاباً على أسس مناطقية. وشارف الجيش على الانهيار؛ إذ كان عبارة عن قوة جوفاء إلى حد بعيد، ثقيلة من فوق بوجود كبار الضباط، لكنها خالية من تحت من القيادة على المستويَين المتوسّط والأدنى. كان النفوذ الحقيقي يكمن في العديد من الكتائب الثورية والشركات – الميليشيات المحلية التي حاربت القذافي وملأت الفراغ الأمني بعد إطاحته. غداة الثورة، استولت الميليشيات على مستودعات الأسلحة والمطارات والوزارات.
فيما بدأت السلطات الحاكمة الانتقالية في ليبيا بدفع رواتب للميليشيات، فاق عدد المقاتلين الثوار بكثير أولئك الذين حاربوا الدكتاتور. وأربكت مسألةُ كيفية تسريح هؤلاء المقاتلين ودمجهم في هيكل رسمي كل الحكوماتِ المتعاقبة في ليبيا في مرحلة مابعد القذافي.
حاولت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا حل هذه المعضلة، واقترحت في أواخر العام 2012 مفهوماً شبيهاً بالحرس الوطني سُمّي “جيش ليبيا المدني”، الذي تقرّر أن يتألف من ثلاث كتائب ثورية تتولّى تأمين استقرار مؤقّت، بينما يجري تدريب الجيش الوطني النظامي وتوطيد صفوفه. كانت الفكرة تقتضي إنشاء قوة عسكرية دائمة تتألف بشكلٍ أساسي من المجنّدين في مختلف الميليشيات التي ترعاها الدولة. في المقابلات التي أُجريَت، رسم مؤيّدون الخطة الليبيون أوجه شبه مباشرة مع تجربة الولايات المتحدة في دمج الميليشيات بعد الحرب الأهلية الأميركية؛ ومع الجيش المدني الذي كان عبارة عن قوة تألفت من متطوعين عملوا بدوام جزئي ثم تم دمجهم في الجيش البريطاني في مطلع القرن العشرين؛ ومع الحرس الوطني في الدنمارك، الذي احتضن ميليشيات المقاومة ضد النازية في هيكلية قيادة وطنية بعد الحرب العالمية الثانية. 31
في نيسان/أبريل 2013، طرح رئيس الوزراء آنذاك علي زيدان خطة لإنشاء قوات حرس وطني منفصلة، أيّدتها مبدئيّاً بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا. كان الغرض منها أن تؤدّي مهام الشرطة في كل أرجاء البلاد، فيما يتواصل تجهيز وتدريب أجهزة الأمن النظامية.
كان برنامج الحرس الوطني الليبي مثيراً للجدل بشكلٍ كبير، حتى باعتباره إجراءً مؤقّتاً. وفي نهاية المطاف، أدّت المسائل العالقة المتعلقة بهدف الحرس الوطني وبنيته وقيادته والإشراف عليه وعلاقته مع الجيش النظامي، إلى نسف الاقتراح في أواخر العام 2013. لاتزال الفكرة قيد البحث بين بعض فصائل الحرب الأهلية في ليبيا، إلا أن الشكوك لاتزال تحوم حول نطاق عمل الحرس الوطني وصلاحياته.
ميليشيات تحت مسمّى آخر: قوة درع ليبيا
قال زيدان في بيان أولي في نيسان/أبريل 2013 إن في إمكان الحرس الوطني الليبي استيعاب من يسمّون أنفسهم مقاتلي الحرية في ليبيا الذين حاربوا قوات القذافي واختاروا عدم الانضمام إلى الجيش الوطني بعد سقوط الزعيم الليبي. ومن شأن هذه القوة أن تُستخدم لحماية الغابات، والطرقات، والمنشآت النفطية، ومشاريع الخدمات في المناطق الصحراوية، إضافةً إلى أبراج نقل الكهرباء والاتصالات، وجميع المرافق الحيوية الأخرى الواقعة خارج المدن في ليبيا. ويمكن الاستعانة بالحرس الوطني أيضاً لزيادة عديد الجيش والشرطة إذا مادعت الحاجة. 32
تمحورت إحدى النقاط الخلافية الحرجة حول ما إذا سيسمح الحرس الوطني لفصائل ثورية كاملة بالبقاء كما هي على شكل وحدات. وشدّد واضعو الخطة على أن تنضم العناصر إلى صفوف الحرس الوطني بصفة فردية، وأن يتم تعيينهم في وحدات مختلطة لمنع تكرار بنية الميليشيا الفئوية داخل القوة الجديدة. لكن العديد من منتقدي الخطة لم يقتنعوا بذلك. فقد اعتبر سياسيون ذوو ميول ليبرالية في تحالف القوى الوطنية، وهو تحالف يضم أكثر من 50 حزباً، أن الاقتراح هو محاولة من الإسلاميين لإنشاء ميليشياتهم الخاصة، لكن تحت اسم رسمي أكثر.33 أما ضباط الجيش النظامي، الذي بلغ عديده حوالى 35 ألف جندي في العام 2012، فقد خشوا من جهتهم من التنافس على الموارد والنفوذ مع الحرس الوطني، الذي من المتوقع أن يبلغ عديده أيضاً 35 ألفاً. 34
الأهم مع ذلك، أن العديد من منتقدي الحرس الوطني يعتقدون أنه مجرد نسخة طبق الأصل عن مشروع قوة درع ليبيا الذي نشأ في العام 2011، لكنه تفكّك في العام 2014 بعد بدء الحرب الأهلية بين مايُسمّى عملية “فجر ليبيا” وعملية “الكرامة”. كانت قوة درع ليبيا من نواحٍ كثيرة أول اختبار لدمج الميليشيات في مرحلة ماقبل الحرس الوطني، ويحمل انهيارها عدداً من الدروس الهامة.
قوة درع ليبيا كانت أساساً عبارة عن مبادرة من أسفل إلى أعلى أطلقتها ميليشيات ذات ارتباطات إقليمية، وخاصة ميليشيات من مصراتة متحالفة مع سالم جحا، وهو ضابط سابق في الجيش وقائد ثوري يحظى بالاحترام. كانت الفكرة أن يتم تحضير بديل للجيش النظامي البائد، الذي يرى الكثير من الثوار، ولاسيما الإسلاميون، أنه خاضع إلى هيمنة ضباط من عهد القذافي ويعاني من التضخم في الرتب العليا. اعترفت الحكومة الانتقالية برئاسة رئيس الوزراء آنذاك عبد الرحيم الكيب رسميّاً بقوة درع ليبيا في نيسان/أيار 2012، ووضعتها تحت إمرة رئيس أركان القوات المسلحة، وأجازت تقديم مدفوعات نقدية مباشرة إلى قادة الميليشيات.
كان أحد العيوب الأساسية لقوة درع ليبيا يكمن في أن بعض القادة سمحوا للميليشيات بالانضمام إلى وحداتها ذات الارتباطات المحلية دُفعة واحدة، مع الحفاظ على استقلاليتها وتماسكها الاجتماعي والقَبَلي. لم تكن هذه نية جحا؛ بل أصرّ على أن تُفكِّك قوة درع ليبيا الميليشيات من خلال دمج أفراد عوضاً عن وحدات كاملة. لكن هذا الإصرار أثار توتّراً في مصراتة، مسقط رأس جحا ومعقل أقوى الميليشيات في ليبيا. فحدث شرخٌ بين وحدتَي قوة درع ليبيا في المدينة، وهما “درع ليبيا – لواء الغربية” بقيادة محمد موسى، و”درع ليبيا – القوة الثالثة” المرتبطة بجحا. أخذ موسى ألوية كاملة من مصراتة والمناطق المحيطة بها (زليتن، والخمس، وهون لجهة الجنوب) وقام بدمجها في قوة درع ليبيا. من أصل ألوية مصراتة الـ230، تم دمج حوالى 70 لواءً في قوة درع ليبيا على شكل وحدات كاملة، لا كأفراد.
كان ثمة توتّر أيضاً بين قوة درع ليبيا والجيش الوطني. ترأس قادة في الجيش النظامي شكليّاً وحدات قوة درع ليبيا الثلاث عشرة. لكن في الواقع، كانت القرارات في يد رؤساء الميليشيات. وقد تجاوز متوسط الرواتب التي أعطتها الحكومة الليبية إلى أعضاء قوة درع ليبيا بشكلٍ كبير رواتب حتى كبار ضباط الجيش النظامي.36 وفي المقابلات التي أُجريَت، قال قادة وأعضاء درع ليبيا إنهم يعتبرون أنفسهم الجيش الوحيد في البلاد، منتقدين فلول “الجيش النظامي” باعتبارهم فاسدين وغير كفوئين.
في بعض المناطق، ساهمت قوة درع ليبيا في إرساء الأمن. وأظهرت أنها مهمة للمجلس الوطني الانتقالي الذي حكم ليبيا بعد إطاحة القذافي لكنه كان يفتقر إلى جيش قادرٍ على بسط سلطته في ضواحي ليبيا الجنوبية والغربية، حيث اندلعت معارك طائفية وقَبَلية في الكفرة وسبها وجبل نفوسة طوال العام 2012 وحتى العام 2013. تصدّت قوات درع ليبيا إلى تهريب المخدرات العابر للحدود وتوسّطت في الصراع بين القبائل. وفي الغرب، حمى “درع ليبيا – لواء الغربية” الطريق من طرابلس إلى تونس لمدة عامَيْن على الأقل.
لكن في مناطق أخرى، كان لقوات درع ليبيا تأثير سيّء. فقد كان للميليشيات حرية تنفيذ أجندات محلية ضيّقة، وإيديولوجية، وجنائية أحياناً، مستفيدةً من تفويض رسمي صادر عن رئيس الأركان، ومن ارتباطها بإحدى وحدات درع ليبيا. وكان يُنظر إلى بعضها على أنها إسلامية الهوى بشكلٍ واضح. ومع مرور الوقت، أصبح بعضها مسيّساً. وفي نيسان/أبريل وأيار/مايو 2013، هدّدت الألوية ذات الميول الإسلامية التابعة لقوات درع ليبيا باستخدام القوة المسلحة للضغط على البرلمان المنتخب من أجل تمرير قانون عزل سياسي كاسح، يمنع مسؤولين من عهد القذافي من تولّي مناصب حكومية في المستقبل. شكّل هذا الإكراه والنقاش العنيف حول القانون لحظة مفصلية في ليبيا في مرحلة مابعد القذافي، وعاملاً أدّى بشكل غير مباشر إلى نشوب الحرب الأهلية.
تضخّم حجم قوة درع ليبيا، مستفيدةً من المعونات الحكومية، ليضم حوالى 67 ألف عنصر في العام 2013. ووفقاً لبعض التقديرات الصادرة عن مسؤولين ليبيين ومسؤولين في الأمم المتحدة، حوالى ثلثَي الأعضاء في الميليشيات “الثورية” المسجّلين لم يحاربوا البتة في ثورة العام 2011، بل انضموا إلى درع ليبيا لاحقاً بعد سقوط القذافي.
اعتبر نقّاد في ليبيا أن قوة درع ليبيا تؤدّي دورَيْن يتمثلان في إشعال الحريق وإخماده، إذ تفاقِم الصراعات نفسها التي كان يتعيّن عليها إنهاءها، وذلك لتبرير وجودها. وأشار هؤلاء إلى الروابط الاجتماعية والعائلية بين قادة درع ليبيا وبين مجموعات إسلامية متطرفة في بنغازي، وإلى بيانات صادرة عن أعضاء في قوة درع ليبيا انتقدت باستمرار ضعف الجيش النظامي والشرطة. كما اتُّهمت قوة درع ليبيا بالانحياز في المناطق التي سعت فيها إلى تهدئة الصراع الطائفي، ولاسيما في الكفرة، الواحة الجنوبية الشرقية، حيث اشتكت إثنية التبو من أن قوة درع ليبيا متعاطفة مع قبيلة الزوية.
لكن الأهم أن الميليشيات المصراتية والإسلامية الشرقية كانت دائماً مهيمنة على قوة درع ليبيا؛ وقد عارضها قادة فصائل أقوياء في بلدة الزنتان الغربية، فضلاً عن قبائل شكّلت طبقة الضباط القديمة. أنشأ أسامة الجويلي، وزير الدفاع في تلك الفترة، خطوطاً منفصلة لتمويل ميليشيات الزنتان والجبل الغربي التي لم تكن تحت مظلة درع ليبيا. وكانت النتيجة ظهور سلطتين متوازيتين تتزاحمان على الموارد، فضلاً عن منافسة مباشرة داخل قطاع أمني متفكّك.37
تعرّض مشروع الحرس الوطني الليبي الذي طُرح في العام 2013 إلى النقد أيضاً. لكن الاعتراض جاء هذه المرة من جانبي الطيف السياسي لأسباب مختلفة. تعمّقت الشكوك في أن الحرس الوطني الليبي عبارة عن حيلة لإدامة سلطة المليشيات، نتيجة تشكيل لجنة مؤلفة من سبعة أشخاص ومكلّفة من قبل رئيس الوزراء بتطوير الحرس الوطني. اعتقد العديد من قادة الألوية والضباط السابقين أن اللجنة منحازة إلى المناطق الشرقية وإلى الاسلاميين، وأنها لاتمثّل جميع الفصائل الليبية. كان مصطفى الساقزلي ونوري العبّار، واضعا الخطة الأساسيين، مقرّبَيْن من الإخوان المسلمين ولديهما علاقات مع مجموعة قوية من الميليشيات الإسلامية التي يقع مقرّها في بنغازي، والتي نشأت في الأيام الأولى من ثورة العام 2011. يرى الكثير من النقّاد أن اقتراح إنشاء الحرس الوطني الليبي كان ببساطة دليلاً على خطة الإخوان المتمثلة في بناء جناح مسلّح. شعر قادة الألوية في الزنتان بالإقصاء، وقالوا للأمم المتحدة: “إذا كنتم ترغبون في إنشاء حرس وطني، شكِّلوا لجنة من كبار القادة الثوريين من جميع المدن في جميع أنحاء البلاد.” 38 كانت المشكلة الأخرى أن العضوية الفعلية لسائر أعضاء اللجنة السبع لم تكن معروفة في صفوف الليبيين أو لقادة الألوية الليبية، الأمر الذي عمّق الشكوك في المجموعة.
رأى بعض الإسلاميين والكتائب الثورية من جهتهم في خطة زيدان وسيلة لتهميش الميليشيات من خلال تكليفها بمهام بسيطة مثل حراسة أبراج الاتصالات والغابات البعيدة جدّاً عن مراكز السلطة في ليبيا.
لكن هذه المخاوف كانت ناجمة عن الهموم السياسية أكثر منه عن التحليلات الواقعية. فالميليشيات التي كان سينشأ منها الحرس الوطني شديدة التفكك وليس لديها علاقات رسمية مع الأحزاب السياسية. وفي أحسن الأحوال، بنت علاقات انتهازية زبائنية مع مختلف السياسيين. ولاتقتصر هذه العلاقات على الإسلاميين: فقد بنى تحالف القوى الوطنية علاقات وطيدة مع كتيبتَي القعقاع والصواعق القويّتين في الزنتان، واللتين هدّدتا باستخدام القوة ضد المؤسسات المنتخَبة.
معضلة الشقاقات تقوّض الحرس الوطني
في نهاية المطاف، تداعى الحرس الوطني الليبي بسبب الانقسامات في قطاع الأمن الليبي واستيلاء مختلف الفصائل السياسية على الوزارات والقوات المسلحة.
أشار الساقزلي والعبار في مقابلات معهما إلى الخلافات السياسية التي لم تُحَلّ حول ما إذا كان سيتولّى قيادة الحرس الوطني الليبي المؤتمر الوطني العام أم وزارة الدفاع أم رئيس الوزراء. كما أن مسألة الأفق الزمني للحرس الوطني الليبي لم تُحَلّ قط. إذ كان من المفترض أن يكون الحرس بديلاً مؤقّتاً لمدة ثلاث سنوات، وأن يتحوّل أعضاؤه إلى قوة احتياط بعد بناء الجيش النظامي. إلا أن ضباط الجيش النظامي أبدوا ريبة إزاء الحرس الوطني كما فعلوا إزاء قوة درع ليبيا قبله، وأعربوا عن خشيتهم من ألا تنسحب هذه الميليشيا بعد أن تكون قد ترسّخت.
والواقع أن بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا وضعت فكرة إنشاء حرس وطني على أجندة حوار وطني مُقترَح في منتصف العام 2014، ما أثار استياء الناشطين من الميول الليبرالية، والفصائل الشرقية وفصائل الزنتان، والتكنوقراط والضباط الأقدم. 39 لكن الحوار تداعى مع اندلاع الحرب الأهلية. وفي أوائل العام 2015، مرّر المؤتمر الوطني العام في طرابلس قانوناً لإنشاء الحرس الوطني. هذا المؤتمر، الذي يزعم السيطرة على الجزء الغربي من البلاد ولكن لايحظى باعتراف الحكومات الدولية، تُهيمِن عليه ميليشيات “فجر ليبيا”، وهي عبارة عن تحالف مؤلّف من فصائل من مصراتة ومن الأمازيغ، وفصائل ذات ميول إسلامية.
كانت فكرة الحرس الوطني لاتزال إلى حدّ كبير نتاج الميليشيات المصراتية النافذة، أي أنها قد لاتحظى بدعمٍ واسع النطاق.
أظهرت مقابلات أُجريَت في أوائل العام 2015 أن فكرة الحرس الوطني كانت لاتزال إلى حدّ كبير نتاج الميليشيات المصراتية النافذة، أي أنها قد لاتحظى بدعمٍ واسع النطاق، ولاسيما من فصائل “عملية الكرامة” المتمركزة في الشرق، ومن سلك الضباط الأقدم. وقد سبق أن برزت هياكل حرس شبه وطنية في “فجر ليبيا” – وأحد الأمثلة الأساسية على ذلك هو “القوة الثالثة” المصراتية بمعظمها، التي يبلغ عديدها 15000 عنصر، والتي نُشِرَت في جنوب البلاد ووسطها، حيث اصطدمت مع تنظيم الدولة الإسلامية في أوائل العام 2015. لكن في هذه الحالة أيضاً، ومع أن “القوة الثالثة” تُجنِّد أفراد الميليشيات للعمل بالمداورة لعشرة أيام مقابل عشرين يوم عطلة، إلا أن تماسُك الكتائب والألوية الثورية لايزال موجوداً في صفوفها. 40
الدروس المستفادة من تجارب الحرس الوطني الفاشلة
صحيح أن المحللين وصانعي السياسات يركّزون عادةً على حالات النجاح، إلا أن فهم جذور فشل السياسات مهم أيضاً لتحسين النتائج المستقبلية. فعلى المدى الطويل، لايزال شكلٌ ما آخر من الحرس الوطني يمثّل أفضل أمل لاستعادة الاستقرار في كلٍّ من ليبيا والعراق.
في ليبيا، تُعَدّ الميليشيات المُشكَّلة مناطقياً، والتي لها روابط عضوية مع المجتمعات المحلية والقبائل، حقيقةً لامفرّ منها. فهذه الميليشيات مدمجةٌ في نسيج الاقتصادات المحلية في العديد من البلدات والمناطق، وهي تؤمّن قدراً من الحماية للمجتمعات المحلية. في الوقت نفسه، لاتزال الخطط لإنشاء جيش وطني نظامي حبراً على الورق. 41 وفي هذا السيناريو، قد يكون السبيل الوحيد إلى الأمام هو إيجاد طرق لدمج القوات المتحاربة القائمة والمنظَّمة محلياً في هيكلية قيادةٍ وطنيةٍ تشرف عليها السلطات المُنتَخَبة.
على نحو مماثل، وإن بدت آفاق الحرس الوطني العراقي ضئيلةً في منتصف العام 2015، قد يكون نموذج ما مشابه السبيلَ الوحيدَ لإحراز تقدّم في العراق. صحيح أن عناصر الميليشيات الشيعية كان لها دور في إخراج قوات تنظيم الدولة الإسلامية من المحافظات الشمالية، إلا أن قدرتها على الحفاظ على قواتها والسيطرة على تلك المناطق ليست مؤكّدةً البتة. فقوات الحشد الشعبي تبقى بشكل أساسي قوةً غير رسمية من المتطوّعين تعمل بدوام جزئي، وليست جيشاً محترفاً. ومقاتلو هذه القوة يحاربون بعيداً عن ديارهم، فيما يحظون في أفضل الأحوال بدعم لوجستي وتقني محدود. ولذا، سيكون على الحكومة العراقية أن تجد شركاء محليين بهدف الحفاظ على السلام والاستقرار ضمن المعقل السنّي، إلا إذا أصبحت قوات الحشد الشعبي بشكل من الأشكال جيش احتلال كاملاً في المناطق السنّية.
تُظهِر المحاولات الفاشلة لإنشاء قوات حرس وطني بعضاً من التحديات الأمنية الأوسع التي تواجه لا ليبيا والعراق وحسب، بل أيضاً الدول كافة في العالم العربي حيث مستقبل الأنظمة السياسية غامض.
أولاً، ضمن الجيش نفسه، غالباً ماينظر الضباط المحترفون إلى الحرس الوطني، في أفضل الأحوال، على أنه متطفّل هاوٍ – وفي أسوء الأحوال، على أنه منافس مباشر على السلطة والتمويل والنفوذ. وهذه المشاكل تتفاقم عندما يُعتبَر أعضاء الحرس الوطني المحتمَلون أنهم حاربوا ضد الدولة في مرحلة ما.
ثانياً، إن تأسيس الميليشيات وحظرها يمكن أن يزعزعا موازين القوى ضمن الدولة الأكبر حجماً. فحالما يُعتبَر أن فصيلاً ما “يمتلك” مجموعة مسلحة، يُحتمَل أن تسعى فصائل أخرى إلى الأمر نفسه كوسيلة لمواجهة أي خطر محتمل.
يجب أن يُنظَر إلى إنشاء قوات حرس وطني على أنه جزء من الجهود الأشمل المبذولة لإصلاح قطاع الأمن، وتسريح المقاتلين غير الحكوميين وتجريدهم من السلاح وإعادة دمجهم.
ثالثاً، يمكن للميليشيات عموماً وقوات الحرس الوطني خصوصاً أن تعقّد الارتباطات الثنائية الدولية. فالدول الخارجية غالباً ماتعتبر الميليشيات دمى أو وكلاء في سعيها إلى التدخّل في شؤون جيرانها الداخلية. وقد تفتقر الدول الديمقراطية الخاضعة إلى الإشراف التشريعي لأنشطة المساعدة الأمنية، مثل الولايات المتحدة، إلى السلطة القانونية والبيروقراطية للانخراط والارتباط مع الميليشيات شبه الرسمية، على عكس الجيش الرسمي.
ينبغي ألا تُصمَّم المبادرات المستقبلية لإنشاء حرس وطني، كما حصل في ليبيا والعراق، كسلسلةٍ من التدابير المرتجَلة وقصيرة الأمد الآيلة إلى معالجة الاحتياجات التكتيكية المحددة والمباشرة. يجب أن يُنظَر، عوضاً عن ذلك، إلى عملية إنشاء قوات حرس وطني على أنها عنصر من الجهود الأشمل المبذولة لإصلاح قطاع الأمن، وتسريح المقاتلين غير الحكوميين وتجريدهم من السلاح وإعادة دمجهم. ويجب أن يتم التجنيد في الحرس الوطني على المستوى الفردي – لا على مستوى الوحدات – بغية منع أعضاء الميليشيات من مجرّد ارتداء البزات الحكومية، فيما هم يُبقون على ولاءاتهم السابقة وتماسُكهم بصفتهم جهات فاعلة غير حكومية. كما يتعيّن توفير الفرص لعناصر الميليشيات لتنتقل إلى العمل المدني أو القطاع الخاص أو لتحصل على مزيد من التعليم.
فضلاً عن ذلك، ينبغي أن يترافق إنشاءُ الحرس الوطني مع الجهود المبذولة ضمن صفوف الجيش والآيلة إلى مراجعة سلاسل القيادة التي تربط الحرس والجيوش النظامية ومختلف هيئات الشرطة والأمن الأخرى، تحت إشراف مدني وفي إطار المهمة العامة لجهاز الأمن ككلّ ومسؤولياته. ويمكن أن تبدأ هذه الجهود بإجراءات وتوجيهات رسمية، إلا أنه يجب توسيعها لتشمل تغيير العادات وثقافات انعدام الثقة المتجذّرة بين الجيش والمدنيين، والتي تُعَدّ ميراثَ عقودٍ من الحكم السلطوي.
كذلك لابد لأي مبادرة متعلّقة بالحرس الوطني أن تترافق مع مفاوضات تهدف إلى اتفاق سياسي شامل يتضمّن تقاسم السلطة والتوصّل إلى تسويات. ونجاح الحرس الوطني لايعتمد، في نهاية المطاف، على فعاليته التكتيكية على المدى القصير وحسب، بل أيضاً على درجة التأييد المحلي، الذي يمكن أن يُشجَّع من خلال تعزيز الدمج والتبادل. كما يمكن أن تساعد التعديلات الدستورية في توطيد العلاقة المتبادلة وتعزيز الثقة بين حكومة مركزية وقوات ميليشيا دون وطنية. ونظراً إلى الروابط المناطقية لمعظم الميليشيات، تؤدّي قوات الحرس الوطني دوراً أساسياً في أي خطوة نحو الفيدرالية ونقل السلطة. لكن في نهاية المطاف، هذه التدابير القانونية والدستورية يجب أن تترافق مع خطوات غير رسمية تضمن ولاء مقاتلي الميليشيات للدولة والتزام الحكومة المركزية بالاستقلالية المحلية.
أما الحكومات الغربية فيمكن أن تساهم في هذه التدابير بعددٍ من الطرق. الطريقة الأكثر وضوحاً هي من خلال برامج التدريب والتجهيز. فالولايات المتحدة استندت إلى حدّ بعيد إلى خبرتها الخاصة في دمج الحرس الوطني ضمن جيشها النظامي كنموذج لإنشاء قوات حرس وطنية أخرى. لكن بلداناً أخرى تمتلك هيكليات أخرى لقوات ميليشيات بدوام جزئي، قد تشكّل أمثلةً أفضل تحتذي بها الدول العربية. ونظراً إلى الصلات الأوسع القائمة بين قوات الحرس الوطني وبين إصلاح قطاع الأمن والانفتاح السياسي، يجب أن تُحدَّد أيُّ مساعدة تُقدِّمها جهات خارجية لحرس وطني تحديداً دقيقاً لتفادي قلب الموازين في المفاوضات الدقيقة بين أصحاب السلطة المناطقيين والحكومة المركزية.
يمكن للقوى الغربية أن تساعد أيضاً في تمتين مكانة قوات الحرس الوطني من خلال العمل على تخفيف التهديدات الأمنية الإقليمية وكبحها. وبما أن العديد من الحكومات تبدي قلقها إزاء احتمال أن تتحوّل قوات الحرس الوطني إلى وكلاء للقوى الأجنبية وتُستخدَم لزعزعة الدولة داخلياً، فإن إيجاد وسائل لتخفيف هذه التهديدات الخارجية يمكن أن يساهم في جعل الحرس الوطني مستساغاً أكثر.
الواقع أن قوات الحرس الوطني هي مؤسسات سياسية وليست مجرّد أدوات عسكرية. فهذه القوات يمكن أن يكون لها عواقب بعيدة المدى على الاستقرار والتماسك السياسيَّين. وهي ليست ترياقاً للتحدّي الخاص ببناء دول فعّالة، لكنها يمكن أن تؤدّي دوراً مهماً في معالجة المخاوف الأمنية والمضي قدماً نحو تقاسم للسلطة أكثر فعالية.
يودّ الكاتبان أن يعربا عن امتنانهما للمساعدة البحثية التي قدّمها علاء الربابعة، الذي عمل باحثاً مبتدئاً في مؤسسة كارنيغي للسلام في العامَين 2014-2015. كما يودّان أن يعربا عن شكرهما ليزيد صايغ وبيتر كول لتعليقاتهما البنّاءة على المسودات المتعددة. أُجري هذا البحث تحت إشراف منحة سخيّة قدّمها مركز بحوث التنمية الدولية لمركز كارنيغي للشرق الأوسط.
هوامش
1 Yezid Sayigh, “Militaries, Civilians, and the Crisis of the Arab State,” Washington Post, December 8, 2014, www.washingtonpost.com/blogs/monkey-cage/wp/2014/12/08/militaries-civilians-and-the-crisis-of-the-arab-state.
2 Ibn Khaldun, An Arab Philosophy of History: Selections from the Prolegomena of Ibn Khaldun of Tunis, trans. Charles Issawi (Princeton: Darwin Press, 1987).
3 Philip Khoury and Joseph Kostiner, eds., Tribes and State Formation in the Middle East (Berkeley, CA: University of California Press, 1990).
4 Mehran Kamrava, “Military Professionalization and Civil-Military Relations in the Middle East,” Political Science Quarterly, 115:1 (2000); Yezid Sayigh, “Agencies of 4 Coercion: Armies and Internal Security Forces,” International Journal of Middle East Studies 43, no. 3 (2011): 403–405.
5 Robert Springborg, “The Role of the Militaries in the Arab Thermidor,” memo prepared for “The Arab Thermidor: The Resurgence of the Security State” workshop, London School of Economics and Political Science Middle East Centre, October 10, 2014, http://pomeps.org/2014/12/12/the-role-of-militaries-in-the-arab-thermidor.
6 Paul Staniland, “Between a Rock and a Hard Place: Insurgent Fratricide, Ethnic Defection, and the Rise of Pro-State Paramilitaries,” Journal of Conflict Resolution 56, no. 1 (2012): 16–40; Håvard Mokleiv Nygård and Michael Weintraub, “Bargaining Between Rebel Groups and the Outside Option of Violence,” Terrorism and Political Violence (2014): 1–24.
7 Sam Dagher, “Syria’s Alawite Forces Turned Tide for Assad,” Wall Street Journal, August 26, 2013; Robert Fisk, “The Militia that Transcends Tribal Division,” Independent, November 16, 2014.
8 April Longley Alley, “Assessing (In)Security After the Arab Spring: The Case of Yemen,” PS: Political Science & Politics 46, no. 4 (2013): 721–26; Nadwa Al-Dawsari, “The 8 Popular Committees of Abyan, Yemen: A Necessary Evil or an Opportunity for Security Reform?” Middle East Institute, March 5, 2014, www.mei.edu/content/popular-committees-abyan-yemen-necessary-evil-or-opportunity-security-reform; Nasser Al-Sakkaf, “The Popular Committees of Abyan,” Yemen Times, August 26, 2014, www.yementimes.com/en/1810/report/4243/The-popular-committees-of-Abyan.htm.
9 “A veteran militia leader in southern Yemen emerges as key ally of president against rebels,” Fox News, March 24, 2015, http://www.foxnews.com/world/2015/03/24/veteran-militia-leader-in-southern-yemen-emerges-as-key-ally-president-against/.
(تمت زيارة الموقع في 10 نيسان/أبريل 2015)
10 Alissa Rubin and Damien Cave, “In a Force for Iraqi Calm, Seeds of Conflict,” New York Times, December 23, 2007, www.nytimes.com/2007/12/23/world/middleeast/23awakening.html?pagewanted=all&_r=2&.
11 Abbas Baghdadi, “Iraqi Security Forces Reported to Have ‘300,000 Ghost Personnel’ on Payroll,” Az-Zaman, December 10, 2014, www.azzaman.com/english/?p=682.11
12 للحصول على مزيد من المعلومات حول قوات الحشد الشعبي، أنظر: كيرك سويل، “صعود الدولة الميليشياوية في العراق”، صدى، 23 نيسان/أبريل 2015:
http://carnegieendowment.org/sada/2015/04/23/ar-59889/i7pz.
13 White House, “Statement by the President on ISIL,” September 10, 2014, www.whitehouse.gov/the-press-office/2014/09/10/statement-president-isil-1.
14 David Siddhartha Patel, “ISIS in Iraq: What We Get Wrong and Why 2015 Is Not 2007 Redux,” Brandeis University, Crown Center for Middle East Studies Briefing, no. 87 (January 2015), www.brandeis.edu/crown/publications/meb/MEB87.pdf.
15 http://www.iraqinationality.gov.iq/attach/iraqi_constitution.pdf
16 “العراق.. نص مشروع قانون “تشكيل الحرس الوطني””، العربية، 4 تشرين الأول/أكتوبر 2014.
http://www.alarabiya.net/ar/arab-and-world/iraq/2014/10/04/العراق-نص-مشروع-قانون-تشكيل-الحرس-الوطني-.html
17 عثمان المختار، “العراق: بدء تشكيل “الحرس الوطني” بإشراف أميركي”، العربي الجديد، 14 أيلول/سبتمبر 2014.
http://www.alaraby.co.uk/politics/2014/9/14/ العراق-بدء-تشكيل-الحرس-الوطني-بإشراف-أميركي
18 “13 October 2014,” Daily Updates From Anbar, October 13, 2014, http://anbardaily.blogspot.com/2014/10/13-october-2014.html.
19 Ahmed Mohammed, “New Awakening? Locals in Kirkuk Slowly But Surely Turn Against Extremists,” Niqash, September 18, 2014, http://bit.ly/1EcvSTu.
20 “واشنطن تبحث عن حلفاء سنة في العراق لمحاربة “داعش””، الشرق الأوسط، 16 أيلول/سبتمبر 2014.
www.aawsat.com/home/article/183236
21 Patel, “ISIS in Iraq: What We Get Wrong and Why 2015 Is Not 2007 Redux,” 6.
22″عشائر الأنبار تطالب العبادي بإبعاد الميليشيات عن مناطقها”، العرب، 9 شباط/فبراير 2015.
www.alarab.co.uk/?id=44788
23 Oliver Holmes, Suleiman al-Khalidi, Jason Szep, and Ned Parker, “U.S. Scouts for Sunni Allies on the Ground in Iraq,” Reuters, September 16, 2014, www.reuters.com/article/2014/09/16/us-iraq-crisis-sunnis-insight-idUSKBN0HB0BD20140916.
24 Daishad Abdullah, “Iraqi Turkmen Demand Formation of Own Military Force,” Asharq al-Awsat, December 12, 2014, www.aawsat.net/2014/12/article55339428.
25 Howard LaFranchi, “In Iraq, battle to oust Islamic State outstrips needed political reforms,” Christian Science Monitor, April 16, 2015; Claudette Roulo, “Coalition Airstrikes Enable Renewal of Tikrit Ground Offensive,” DoD News, March 27, 2015, http://www.defense.gov/news/newsarticle.aspx?id=128480.
26 Hamza Mustafa, “Iraq: Sunni Parties Seek Talks With Shi’ite Militia Groups,” Asharq al-Awsat, February 17, 2015, www.aawsat.net/2015/02/article55341526/iraq-sunni-parties-seek-talks-shiite-militia-groups.
27 Khalid al-Ansary and CarolineAlexander, “Iraq Says Its Forces Recaptured Tikrit From Islamic State,” Bloomberg News, March 31, 2015, http://www.bloomberg.com/news/articles/2015-03-31/iraq-s-abadi-says-security-forces-reached-center-of-tikrit-city; Isabel Coles, “Fleeing Tikrit residents fear no return as Iraqi forces close in,” Reuters, March 5, 2015, http://www.trust.org/item/20150305152915-9le0s/?source=shtw.
28 Liz Sly, “Petraeus: The Islamic State isn’t our biggest problem in Iraq,” The Washington Post, March 20, 2015; http://www.washingtonpost.com/blogs/worldviews/wp/2015/03/20/petraeus-the-islamic-state-isnt-our-biggest-problem-in-iraq.
29 Sara Margon, “For Iraq’s Sunnis, Sectarian Militias Pose an Extra Threat,” Washington Post, October 24, 2014, www.washingtonpost.com/opinions/for-iraqs-sunnis-sectarian-militias-pose-an-extra-threat/2014/10/24/ed53540e-5b75-11e4-b812-38518ae74c67_story.html.
“الميليشيات الشيعية توسع نفوذها وتعيد رسم خريطة وسط العراق”، الزمان، 31 كانون الأول/ديسمبر 2014.
http://www.azzaman.com/?p=94075
Anna Mulrine, “Worse than the Islamic State? Concerns Rise about Iraq’s Shiite Militias,” Christian Science Monitor, December 23, 2014, www.csmonitor.com/USA/Military/2014/1223/Worse-than-Islamic-State-Concerns-rise-about-Iraq-s-Shiite-militias?cmpid=addthis_twitter.
30 United Nations Support Mission in Libya, “Non-Paper on Potential Initiatives for the Libyan Government to Improve the Security Situation,” October 9, 2012.
حصل الكاتب على هذا النص من مسؤول سابق في الأمم المتحدة.
31 مقابلات أجراها الكاتب في طرابلس، أيار/مايو 2013، وفي مصراتة في كانون الثاني/يناير 2015. للاطلاع على شرح حول تجارب دول أخرى مع الجيوش المدنية والحرس الوطني، أنظر:
Brent C. Bankus, “Volunteers Make a Difference,” Canadian Military Journal, Vol. 9, No. 1, 2008, pp. 39-46, http://www.journal.forces.gc.ca/vo9/no1/07-bankus-eng.asp.
32 “رئيس الوزراء الليبي يعلن تأسيس جهاز الحرس الوطني لحماية منشآت الدولة”، الشرق الأوسط، 19 نيسان/أبريل 2013.
http://archive.aawsat.com/details.asp?section=4&article=725202&issueno=12561#.VUdEdvmqqkp
33 مقابلات أجراها الكاتب في طرابلس والزنتان، ليبيا، أيار/مايو 2013. أنظر أيضاً:
Al-Sharq al-Awsat Online, August 3, 2013.
34 مقابلات أجراها الكاتب في طرابلس، تشرين الثاني/نوفمبر 2013
35 مقابلة أجراها الكاتب مع سالم جحا في مصراتة، ليبيا، تموز/يوليو 2012
36 مقابلات أجراها الكاتب في طرابلس، أيار/مايو 2013
37 Ian Martin, “The United Nations’ Role in the First Year of Transition,” in Peter Cole and Brian McQuinn, eds., The Libyan Revolution and Its Aftermath (New York: Oxford University Press, 2015), p. 140.
38 مقابلات أجراها الكاتب في الزنتان، ليبيا، تشرين الثاني/نوفمبر 2013
39 مقابلة أجراها الكاتب مع الناشطة الراحلة سلوى بوقعيقيص في طرابلس، 21 حزيران/يونيو 2014
40 مقابلة أجراها الكاتب مع قادة “القوة الثالثة” في سبها وبن جواد، ليبيا، كانون الثاني/يناير 2015
41 Frederic Wehrey, “Mosul on the Mediterranean: The Islamic State in Libya and U.S. Counter-Terrorism Dilemmas,” Lawfare (blog), December 17, 2014, www.lawfareblog.com/2014/12/the-foreign-policy-essay-mosul-on-the-mediterranean-the-islamic-state-in-libya-and-u-s-counterterrorism-dilemmas.
فريدريك ويري، أرييل أ. آرام
مركز كارينغي للشرق الاوسط