التهديدات الجيوسياسية في موصل ما بعد “داعش”

التهديدات الجيوسياسية في موصل ما بعد “داعش”

قد تعمد تركيا إلى دعم بعض الأحزاب والأطراف السياسية على حساب أخريات في هذه المدينة، من أجل زيادة مستويات الفوضى. وبهذه الطريقة، سوف تتمكن من تبرير تواجدها المستقبلي في الموصل. وفي حال اشتبكت القوات التركية مع وحدات الحشد الشعبي، فإن ذلك قد يفضي بدوره إلى خلق صراع إقليمي هائل مع إيران حول منطقة الموصل. ولذلك، يجب أن يستخدم العراق كل الوسائل الممكنة المتاحة له لإجراء المزيد من المفاوضات مع تركيا من أجل إنهاء هذه المسألة قبل فوات الأوان.
*   *   *
في العام 2014، سيطر تنظيم “داعش” على مدينة الموصل. وكانت تلك المجموعة الإرهابية قادرة على استغلال ظروف هذه المدينة لمصلحتها. وبذلك، وسعت هيمنتها على مدينة الموصل لمدة عامين كاملين. ثم في العام 2017، أطلق الجيش العراقي عملية ناجحة لتحرير الموصل. واعتقد سكانها أن مرحلة جديدة ومختلفة سوف تبدأ في مدينتهم. ولكن، للأسف، هناك الآن الكثير من الأدلة التي تؤكد على أن هناك الكثير من التحديات الجديدة التي تلوح في الأفق.
تشكل عودة ظهور “داعش” أخطر تهديد يخشاه سكان الموصل. وفي الآونة الأخيرة، تمكن الإرهابيون من ارتكاب العديد من الجرائم وتنفيذ الكثير من الهجمات في الموصل. كما عادوا أيضاً إلى تجنيد المقاتلين من هذه المدينة. وبالإضافة إلى ذلك، صدرت العديد من التقارير التي تؤكد أن الخلايا النائمة لتنظيم “داعش” أصبحت الآن أكثر نشاطًا من السابق، وهي تشكل تهديداً محتملاً للقوات العراقية. ولذلك، يقول سكان الموصل، وخاصة الأقليات مثل الأيزيديين، أن مدينتهم قد تسقط مرة أخرى في أيدي الإرهابيين.
ما تزال المنافسة على السيطرة على مدينة الموصل مستمرة بين الأطراف العراقية المختلفة. والآن، أصبحت الأحزاب والأطراف الكردية التي كانت قد سحبت قواتها من مدينة الموصل في أعقاب هجمات تنظيم “داعش”، إلى عودة هذه القوات إلى المناطق التي كانت تنتشر فيها قبل الانسحاب. ولا تحب الحكومة العراقية المركزية التي يهيمن عليها الشيعة في بغداد إعطاء الأحزاب الكردية أي فرصة للوصول إلى تحقيق هذا الحلم لأسباب جيوسياسية. وتعتقد الحكومة أن هذه الأطراف الكردية تريد إعادة نشر قواتها العسكرية في الموصل وكركوك من أجل دعم خطة استقلالها عن العراق. وقد يؤدي هذا الخلاف إلى وضع مصير مدينة الموصل على المحك. وإذا ما اندلع أي صراع، فسوف تعاني مدينة الموصل كثيراً.
في ضوء هذه القضية، هناك نوع من الانقسام بين قبائل الموصل. وتريد بعض القبائل العربية في هذه المدينة عودة القوات الكردية إلى التمركز في أماكنها السابقة. ويقول هؤلاء المؤيدون أن هذه القوات تعرف جغرافيا المحافظة، ولديها نظرة شاملة حول نقاط ضعفها الأمنية. وأكد الشيخ مزاحم الحويط، الناطق باسم القبائل العربية في الموصل، أن “قوات البشمركة الكردية يجب أن تعود إلى المنطقة وإلى تسيير دورياتها لمراقبتها بسبب زيادة الأنشطة الإرهابية، وبسبب تجربة السكان المحليين السابقة مع الاستقرار في ظل وجود الأمن الكردستاني”. لكن هذا الرأي لا يعبر عن كل الآراء القبَلية تجاه هذه القضية. وهناك بعض رجال القبائل الآخرين الذين يرفضون هذا التصريح. وبدلاً من ذلك، يقولون إن القوات العراقية فقط هي التي يجب أن تكون موضع ترحيب في مدينة الموصل. وقد يؤدي هذا الاختلاف في الآراء إلى تبادل اتهامات بالخيانة وإلى تأجيج العداوات المحلية بين هذه القبائل. وفي هذا السيناريو، سيكون نشوب القتال متوقعاً إلى حد الكبير في هذه المدينة، حيث تنتشر الأسلحة على نطاق واسع وحيث يتم استخدامها بسهولة في أي مشكلة قبلية بسيطة.
يشكل وجود حزب العمال الكردستاني في الموصل مصدراً للصداع بالنسبة للكثير من الأطراف. وعندما انسحبت القوات العراقية والكردية من منطقة سنجار في الموصل، واجه سكانها الأيزيديون حملة إبادة جماعية. ثم دخل مقاتلو حزب العمال الكردستاني إلى المكان لإنقاذ هؤلاء الناس الأبرياء من وحشية تنظيم “داعش”. وأفضى ذلك التدخل إلى زيادة التعاطف الشعبي مع حزب العمال الكردستاني. وفي المقابل، تعتقد كل من أنقرة وإربيل وبغداد أن على حزب العمال الكردستاني مغادرة مدينة الموصل. وتعتقد هذه الأطراف بأن الحزب يشكل خطراً على أمنها القومي. ولذلك، تقوم تركيا في الوقت الحاضر باستهداف الحزب عسكرياً. وفي حال واصل حزب العمال الكردستاني رفضه الدعوة العراقية إلى إخلاء مواقعه في الموصل، فإن ذلك قد يؤدي إلى تعقيد العلاقات العراقية-التركية، وربما يفضي إلى مواجهة بين حزب العمال الكردستاني والقوات العراقية. وسوف يلقي تحقق مثل هذا الاحتمال بظلال عميقة على الموصل ووضعها الأمني الهش.
كما تشكل القوات التركية المتمركزة في معكسر بعشيقة في الموصل تحت ذريعة محاربة تنظيم “داعش”، مكمن خطورة آخر على مدينة الموصل وأمنها. وما تزال لدى تركيا مزاعم ومطالبات تاريخية في الموصل، وهي تؤكد أنها ستقوم ذات يوم بضم الموصل إلى جغرافيتها. وهكذا، فإنها قد تستخدم هذا التواجد لخدمة هذا الغرض في حال واجهت الموصل أي اضطرابات داخلية.
بالإضافة إلى ذلك، قد تعمد تركيا إلى دعم بعض الأحزاب والأطراف السياسية على حساب أخريات في هذه المدينة، من أجل زيادة مستويات الفوضى. وبهذه الطريقة، سوف تتمكن من تبرير تواجدها المستقبلي في الموصل. وفي حال اشتبكت القوات التركية مع وحدات الحشد الشعبي، فإن ذلك قد يفضي بدوره إلى خلق صراع إقليمي هائل مع إيران حول منطقة الموصل. ولذلك، يجب أن يستخدم العراق كل الوسائل الممكنة المتاحة له لإجراء المزيد من المفاوضات مع تركيا من أجل إنهاء هذه المسألة قبل فوات الأوان.
وأخيراً وليس آخراً، فإن الجغرافية الاجتماعية لمدينة الموصل، وخاصة في أعقاب هزيمة “داعش”، ما تزال مضطربة وهشة إلى حد بعيد -حتى أن سكان الموصل يتحدثون علناً عن مخاوفهم من بعضهم البعض. وأتذكر أنني قرأت في صحيفة “الغارديان” التماساً وجهه شخص أيزيدي إلى السلطات العراقية، والذي اشتكى فيه من غياب الثقة بين مكونات الموصل الديمغرافية. وبغية وصف هذه العواطف تجاه الآخرين خلال سيطرة تنظيم “داعش” على الموصل، قال: “كانوا جيراننا، والآن أصبحوا قاتلينا”. ويجب أن تكون إعادة تأسيس علاقات سلمية في هذه البيئة الاجتماعية الهشة مهمّة عاجلة، والتي يجب أن نأخذها جميعاً في الاعتبار. وبخلاف ذلك، فإننا سنظل نواجه قدراً متزايداً من ردود الفعل العنيفة في هذه المدينة المتميزة بتنوعها السكاني. وربما يتسبب ذلك في خلق “غيتوهات” منفصلة لكل أبناء عرق أو دين. وسوف يؤدي تكوُّن مثل هذا المشهد في نهاية المطاف إلى تدمير الوحدة الجغرافية للموصل، وبالتالي وحدة العراق على المدى الطويل.
إن الأمم التي تفشل في التنبؤ بمستقبلها ولا تجهز أنفسها جيداً لمواجهة تحدياتها تكون أكثر عرضة لمواجهة النكسات والخسائر. وهنا، نود أن نحذر الأحزاب والفرقاء العراقيين من المخاطر التي ستعاني منها مدينة الموصل في المستقبل. وإذا أهملوا العناية بهذه المسائل، فإن الكثير من العواقب السيئة سوف تظهر في المجال الجيوسياسي العراقي. والآن هو الوقت الحاسم لكي تعمد هذه الإطراف إلى إيجاد حلول مناسبة لمواجهة كل هذه التهديدات قبل أن يفوت الأوان.

دياري صالح

الغد