تجّار المشاكل.. لا سلطة تعلو فوق سلطة العشيرة في العراق

تجّار المشاكل.. لا سلطة تعلو فوق سلطة العشيرة في العراق

ظهرت فئة جديدة في المجتمع العراقي بعد عام 2003 تسمى “تُجّار مشاكل”، وهم من المستفيدين من ضعف مؤسسات الدولة الأمنية والقضائية. هؤلاء صارت لهم دواوين خاصة بهم يقصدها الكثيرون ويصحبهم إليها من يطلق العراقيون عليهم تسمية “العلاسة”؛ والعلاس هو من يبيع خبر “مشكلة” تقع بين طرفين في مكان ما من بغداد. ويتفق بعد عرض المشكلة على تاجر المشاكل على إكرامية منه، بعد أن يتسلّم ثمن وساطته بين الخصمين.

تُجّار المشاكل ازاداد ثراؤهم، الذي ظهر من خلال طريقة لبسهم، وارتيادهم أرقى المطاعم في العاصمة، وانتقالهم بأحدث موديلات السيارات. تصحبهم في الكثير من الأوقات حاشية يُطلق عليها اسم الـ”صكاكة”؛ وهم شركاء التَّاجر في تمثيل دور “الخيرين” -مفردها خِير- على الزبائن، لزيادة ثقة الزبون بالتَّاجر، وبحله الموعود لقضيته.

“تُجّار مشاكل”، الذين ازاداد ثراؤهم بعد عام 2003، وجه آخر من وجوه الفساد المستشري في العراق. وقد حل هؤلاء مكان السلطات الأمنية التي لا تحرك ساكنا لفض النزاعات وإرجاع “الحقوق”، حتى أن من لا ينتمي إلى أي عشيرة أجبر على البحث عن واحدة ليحتمي بها حتى لا تستباح عائلته.

ويقول ناهض حسين (35 سنة) من الزعفرانية ببغداد إنه التجأ يوماً إلى أحد هؤلاء التُّجَّار، لغرض تسوية مشكلة وقع فيها ابنه المراهق مع الجيران. وأضاف لـ”العرب” “هؤلاء التُّجَّار تخصَّصوا بعدة تخصَّصات، منها فضُّ ‘الطلايب’ -المشاكل- العشائرية، كالدهس، والقتل الخطأ، والطلاق، والشّجَارات بين الجيران، و’الدكات السود’ -الاغتصاب والخيانات الزوجية، والسرقة من البيوت، والقتل العمد-، فيما تخصص آخرون بحل المشاكل التي تقع بين أصحاب المقاولات والمشاريع الحكومية. ويحمل البعض الآخر تخصَّص التنسيق مع متنفذي الأحزاب في العراق، للحصول على وظائف حكومية، وكل وظيفة بثمن”.

واستطرد حسين قائلا “لم أكن منتمياً إلى أي عشيرة، فلم أحتج إلى عشيرة في التسعينات (من القرن الماضي)، ولكن بعد 2005 اختلفت الأمور، وعند أول مشكلة وقع فيها ابني مع ابن الجيران وكسرت يده عرفت ذلك؛ وجدت أن لا شرطة ولا قضاء يستطيعان معاقبة الجناة. لذلك وصفوا لي ديوان أحد هؤلاء بمنطقة العبيدي في أطراف بغداد، كان متخصّصاً بفضِّ المشاكل البسيطة، أوصلني أحد العلاسة إلى ديوانه بعد أن مدحه لي، وحكيت له ملابسات الاعتداء، وعنوان المعتدي، واتفقنا على كلفة أتعابه، وهي ربع قيمة ‘الفصل’ -التعويض- الذي أحصل عليه من المعتدي، ومقدمة، لتغطية أجور الصكاكة -أتباعه-، يومية الفرد منهم 50 ألف دينار -الدولار 1150 دينارا- من الذين سيحضرون ‘الكعدة’ -الجلسة العشائرية- وثمن كارتات الاتصالات الهاتفية، وإكراميّة مرسل ‘الكوامة’ -التحذير العشائري للخصم -وكلفني ذلك مليون دينار -870 دولاراً- كمقدمة”.

وأضاف حسين “كنت غير طامع في مبلغ التعويض من عشيرة الخصوم، ولكن إذا لم تظهر لي عشيرة تطالب بحق ابني بالفصل العشائري سيتمادى الجميع في ضرب أولادي، والاعتداء على عائلتي”.

يقول راضي حميد (50 سنة) “دهس سائق وهو في حالة سكر أخي قبل سنة، فمات بالحادثة، وجاء من عشيرة السائق من يطلب ‘عطوة’ -فترة أمان- لكي ترتب العشيرة أمرها، وتأتي وجوهها لدفع الفصل، وبدأت الكعدة بطلب مبلغ 200 مليون دينار من عشيرة الخصم، وبدأت مناظرات عشائرية بين شيخي العشيرتين، ومقارنة ‘ثايات’ -قوانين- العشيرتين في مثل هذه الحادثة، وكان بعض الصكاكة -أعوان الشيخين- قد ارتدوا عمامات سوداء، وآخرون لفوا على رؤوسهم ياشماغات زرق، وآخرون اعتمروا عمائم عصفورية، وآخرون ارتدوا كيشوانيات حمر، للإيهام بأن هناك طائفتين في العشيرة: شيعة وسنة، لزيادة هيبة العشيرة. وهؤلاء مهمتهم تأييد أقوال شيخهم، بهز رؤوسهم، وبين الحين والآخر يذكرون مناقب الشيخ ومناقب أبيه وجده، ومدحه بأهزوجة شعبية أو ترديد بيت شعر”.

وأضاف حميد “تكررت في الكعدة أحاديث نبوية وسور قصيرة من القرآن، وقصص من ألف ليلة وليلة، وشيخا العشيرتين يفعلان ذلك، كما في تمثيلية معدة مسبقاً. وأحدهما يلقي الحجة على الآخر، وآخرون يعترضون، ويتم التنزيل من قيمة التعويض المالي تكريماً للحاضرين، حتى توقفا عند عشرين مليون دينار. وأضافوا إليها ثلاثة ملايين دينار كمصاريف كعدة. وعرفنا بعد ذلك أن شيخ عشيرة الخصم هو أيضاً من تُجّار المشاكل، وقد تم الاتفاق بين الشيخ، الذي استأجرناه من منطقة الراشدية، وصكاكته على مبلغ الفصل، وكل ما جاء في الكعدة، وديوانه لا يبعد سوى مئة متر عن ديوان الشيخ المنافس، وهما يقضيان الأماسي معاً في أحد مطاعم العاصمة أو نواديها. وكان قد اتفق معنا على مبلغ أربعة ملايين دينار، من التعويض دون نفقات الأعوان. وهما في الحقيقة ينتحلان دوري شيخين لعشيرتين معروفتين، هما فيها مجرد فردين عاديين، أو مما يسميه العراقيون ‘ذبابي الجرش’ -طالبو الأمان عند العشيرة- لا أكثر من ذلك”.

وقال الناشط المدني المحامي نعمان خريبط “كانت مؤسسات الدولة قوية في الثمانينات (من القرن الماضي)، وكان من يعتدي على تخصّصات القضاء أو يأخذ دورها في التحكيم يعاقب وفق القانون 34 بفقرتيه ألف وباء، وتعديلاتهما للعام 1981 بالسجن عشرين عاماً”.

واستطرد خريبط “وبعد 2003 تغيرت نظرة المجتمع إلى الفرد، وصار الذي بلا عشيرة فرداً مستضعفاً، معرضاً في كل وقت للاعتداء عليه وعلى عائلته من قبل من لديهم عشائر قوية تدافع عنهم. وكلما كان سلاح العشيرة متطوراً ازدادت هيبتها، وهيبة الأفراد الذين ينتمون إليها”.

وأضاف خريبط “جاء في المادة 43 من الدستور العراقي الدائم، الذي صدر العام 2005 ما يعبر عن حرص الدولة على الكيانات العشائرية، والنهوض بها شرط التزامها بالقانون، ومنع الأعراف العشائرية، التي لا تتطابق مع حقوق الإنسان. وهذا أعطى الضوء الأخضر لممارسة العشيرة دورها الجديد في المجتمع”.

وأكد الباحث الاجتماعي حاتم رمضان “أن ليس كل شيوخ العشائر من تُجَّار المشاكل ولكن البعض منهم، وهم يتعيشون من الظاهرة. وقد حضرتُ العديد من مجالس الفصول، كفصل قبيلة آل حمدان بني تميم مع الجبور البوطعمة، وفصل بني تميم النوفل، وبني أسد، وقد حضر الشيخ كاظم جواد النوفل ‘فريضة’ بني تميم -والفريضة تعني مبتكر الحلول للمشاكل المعقدة بما يرضي الطرفين-، علما أن أكثر من 2000 قتيل يسقط سنوياً من العشائر بسبب المشاكل التي تقع بين الأفراد، ولولا هذه المجالس لتضاعف عدد الضحايا”.

وأكمل رمضان “أكثر من 40 جلسة عشائرية يومياً يتم عقدها في أمكنة مختلفة من بغداد، وهذه المجالس في ازدياد كلما زاد الفقر والجهل وضعفت مؤسسات الدولة القضائية والأمنية. وتوجد إضافة إلى المجالس العشائرية ‘مجالس شرعية’ تحكم خارج إطار القضاء وتعقد بالمقامات الدينية والحسينيات. ولكن للأسف الكثير من القرارت العشائرية تتنافى مع قوانين حقوق الإنسان والقضاء العراقي وما جاء في الدستور العراقي. وتعتبر ظاهرة المجالس في العراق عودة إلى البداوة التي لا ترقى إلى المجتمع الحضري المنشود، مهما كانت الفائدة المرجوة منها في الحدِّ من حوادث الثأر، والاعتداء على الغير”.

لا هيبة للشرطة في حضرة العشيرة
بغداد – أُجبر نقيب في الشرطة على مغادرة بغداد مع عائلته للعمل في إحدى المحافظات العراقية الجنوبية، إثر تعرّضه لتهديد بعد أن اعتقل شخصًا كان يحمل سلاحًا دون ترخيص، ذلك أن العشائر في العراق تفرض نفوذًا يعرقل عمل قوات الأمن. عند حاجز أمني في إحدى مناطق شرق بغداد، أمر نقيب في الشرطة أحمد الذي كان قد تولّى مسؤولياته للتو، باعتقال شخص يحمل في سيارته مسدسًا غير مرخص. لكن سرعان ما وصلت مجموعة من المسلحين وأجبرت القوات الأمنية على إطلاق سراحه.

ويقول النقيب “لم نستطع الاحتفاظ إلا بالمسدس” في ذلك اليوم، ويضيف ”بعد أيام قليلة تلقيت اتصالاً هاتفياً من مجهول، أبلغني برسالة تهديد مختصرة تقول: نعرف أين تسكن، وأين عائلتك، أعد المسدس أفضل لك ولعائلتك”. وتمكن أحمد، بمساعدة عدد من أصدقائه الضباط، الاتصال بممثلين عن عشيرة الشخص، ليقوم هؤلاء بتقديم وثائق غير رسمية، تذكّر بأن حمل المسدس كان وفقًا للقانون، فلم يكن أمام أحمد سوى إعادة المسدس وإغلاق القضية. ويؤكد الضابط “بعد ذلك الحادث، أفضل حلٍ كان أمامي هو الانتقال إلى إحدى محافظات جنوب بغداد للهرب من أي تهديدات أخرى”. واللجوء إلى مجالس العشائر لتسوية الخلافات وتجنب إحالتها إلى القضاء، أمر شائع في العراق. ويتولّى ممثلون عن العشائر التفاوض لتسوية أي خلاف والاتفاق على تعويضات مالية.

ويقول شرطي آخر يُدعى علي، إنه أُجبر على دفع 12 مليون دينار (حوالي 9600 دولار)، بينما دفع زميله برتبة نقيب ثمانية ملايين (6400 دولار) لتسوية نزاع عشائري نشب بفعل اتخاذ إجراءات أمنية لفرض القانون في إحدى مناطق بغداد. ووقع الحادث إثر قيام موقوف لدى الشرطة بتوجيه ضربة إلى علي الذي ردّ بدوره وضربه بعصا ما أدى إلى إصابته بجرح في رأسه. وبعد مرور نحو ثلاثة أسابيع تلقَّى مركز الشرطة الذي يخدم فيه علي، تهديدًا عشائريًا وطلبًا بإقامة مجلس عشائري لمحاسبة الضابط والشرطي لتسوية الأمر. وفي حال رفضهما، ستتم تسوية الأمر من جانب أبناء العشيرة. ويؤكد عليّ أنه حاول الاستعانة بمسؤولين في الشرطة، لكنهم رفضوا إقحام وزارة الداخلية في مشاكل عشائرية، رغم أن الحادث وقع خلال تأديته مهامَّه باعتباره شرطيًّا. لذلك لم يكن أمام علي سوى تسوية الأمر عشائريًا. ويقول الشرطي بغضب “الآن، حتى لو رأيت أشخاصًا لا يحترمون القانون، لن أتدخل أبدا”.

العرب