أريحا، الضفة الغربية- عندما تم توقيع اتفاقيات أوسلو قبل ربع قرن، احتفل سكان أريحا. فقد منحت الاتفاقيات مدينتهم الصحراوية المتربة القديمة بعمر 11.000 سنة الحكم الذاتي قبل أي مكان آخر في الضفة الغربية. ورأى فيها الفلسطينيون موطئ قدم لما كانوا يثقون بأنها ستصبح دولتهم الجديدة.
لكن أي شيء لم يتكشف على النحو الذي توقعوه.
ثمة كازينو جديد برّاق، افتُتح بصخب كبير في العام 1998 لإغراء المقامرين الإسرائيليين بالقدوم، والذي ما يزال خاوياً منذ العام 2000، عندما مُنِعوا من دخول المدينة. والمستشفى العام الذي بعمر عقدين حصل لتوّه فقط على مصعد بفضل منحة من اليابان. وربما تكون أفضل مؤسسة معروفة للحكم الذاتي في المدينة هي السجن المرهوب على نطاق واسع باعتباره قلعة محصنة للسجناء السياسيين.
والمستقبل السياسي المشرق الذي استحضرته أوسلو تحول بدلاً من ذلك إلى فخ مرير.
اتفاقيات أوسلو، التي تم الكشف عنها أول مرة في حديقة البيت الأبيض بمصافحة بين إسحق رابين وياسر عرفات في 13 أيلول (سبتمبر) 1993، بلغت ذروتها بالاعتراف المتبادل بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت إسرائيل قد حظرتها منذ وقت طويل واعتبرتها كمنظمة إرهابية، وبأول اتفاق رسمي في جهد متدرج ذي مراحل لحل الصراع الذي عمره بطول قرن.
دعت الاتفاقيات إلى إبرام اتفاق سلام شامل بحلول العام 1999، والذي كان من المتوقع على نطاق واسع أن يفضي إلى إقامة دولة للفلسطينيين، وبالنسبة لإسرائيل، تحقيق الهدف الذي طال أمده المتمثل بمبادلة الأرض بالسلام.
اليوم، مع ذلك، أصبحت عملية أوسلو محتضرة، بعد أن لم تسفر عن اتفاق سلام ولا دولة فلسطينية. ويكاد يكون إنجازها الأساسي الوحيد المقيم هو “السلطة الفلسطينية”، التي تأسست كسلطة حكم ذاتي انتقالي مؤقتة، لكنها ما تزال مستمرة في العمل بعد عقدين من تاريخ انتهاء صلاحيتها. وقد قطعت السلطة خطوات في تقديم الخدمات الأساسية وخلقت الوظائف لنحو ربع القوة العاملة في مناطقها، لكنها أصبحت باطراد أكثر أوتوقراطية، وتلطخت باتهامات بالفساد.
مع ذلك، يعتقد نحو ثلاثة من كل أربعة فلسطينيين أن الظروف الآن أصبحت أسوأ مما كانت عليه قبل توقيع الاتفاقيات.
يقول أحمد ضراغمة، 26 عاماً، الموظف الحكومي من طوباس في شمال الضفة الغربية، والذي كان متواجداً في أريحا لاصطحاب صديق أُطلق سراحه من سجن إسرائيلي: “كانت اتفاقيات أوسلو كارثة على الشعب الفلسطيني. ليس هناك وظائف. أنا أعمل لدى السلطة الفلسطينية، حتى مع أنني ضدها”.
أن تكون السلطة الفلسطينية قد استمرت وأن تكون عملية السلام قد انهارت، فإن ذلك يشهد على مقدار ما كسبته إسرائيل. فقد جعلت اتفاقيات أوسلو الفلسطينيين مسؤولين عن ممارسة دور الشرطي على أنفسهم في الضفة الغربية، وهو ما أفضى إلى تحسينات هائلة في الأمن الإسرائيلي من الإرهاب في السنوات الأخيرة بكلفة صغيرة على إسرائيل. ومنحت الاتفاقيات السلطة الفلسطينية المسؤولية عن تقديم الخدمات، مثل الصرف الصحي والمستشفيات، والتي كانت لتكلف بغير ذلك إسرائيل، كقوة احتلال، مئات الملايين من الدولارات. وسمحت لإسرائيل بأن تؤجل، إلى ما لا نهاية فيما يبدو، انسحاباً أوسع من الضفة الغربية.
لكن ما لدى الفلسطينيين ليعرضوه عن هذه السنوات الخمس والعشرين، مع ذلك، هو سجل أكثر تشوُّشاً -قصة تحذيرية عن كيف أن الدولة المؤجلة يمكن أن تصبح دولة غير متاحة ومرفوضة.
يقول علي الترتير، مستشار البرامج في “الشبكة”، شبكة السياسة الفلسطينية: “إذا كنا نتحدث عن السلطة الفلسطينية كخطوة في اتجاه إقامة الدولة، فقد فشلت فشلاً ذريعاً. وإذا اعتبرناها خطوة نحو تقرير المصير، أو نحو تحقيق الحقوق الفلسطينية السياسية والإنسانية، فقد فشلت مرة أخرى. لكننا إذا كنا نتحدث عن توفيرها الوظائف كبيروقراطية، فقد نجحت”.
مشكلة عميقة وآفاق قاتمة
إذا كانت أوسلو قد خذلت الفلسطينيين، فإن جزءاً من ذلك الفشل كان من صنع الذات. فقد أدت زيادة في الهجمات العنيفة بعد أوسلو، متبوعة بالانتفاضة الثانية المميتة التي اندلعت في العام 2000، إلى إثارة حفيظة الكثير من الإسرائيليين وتأليبهم ضد صنع السلام، وقادت إسرائيل بالتالي إلى تهميش العملية.
في النهاية، تُرك الفلسطينيون في ليمبو مُحبِط: فحتى بينما فشلت قيادتهم بثبات في إقامة جبهة متماسكة متحدة من أجل الاستقلال، أصبح بيروقراطيو السلطة أكثر فعالية باطراد في إدارة حياة السكان والسيطرة عليها في الضفة الغربية.
باعتبار أنهم ما يزالون بلا دولة، أصبح أبناء الشعب الفلسطيني واقعين في مأزق عميق، وأصبحت آفاقهم أكثر قتامة من أي وقت مضى. وقد انقسم الجسم السياسي، بطريقة ربما لا رجعة فيها، بين السلطة الفلسطينية بقيادة محمود عباس وفصيله، فتح، وبين المجموعة الإسلامية المتشددة، حماس -التي عارضت أوسلو وتسعى إلى القضاء على إسرائيل- في قطاع غزة. وما تزال جهود المصالحة تواجه الفشل.
ليس للسيد عباس، المريض في الثمانينيات من عمره، أي خليفة واضح. وبعد انتخابه مرة واحدة فقط، في العام 2005، أصبح الآن في سنته الرابعة عشرة مما كان ينبغي أن يكون فترة رئاسية من أربع سنوات. وبعد أن أقصى منتقديه، أصبح أكثر قمعاً للمعارضة باطراد، حتى على “فيسبوك”. وهو يحكم مجاله المتضائل بالمراسيم.
في إسرائيل، تلاشى معسكر السلام الذي دعم أوسلو جراء موجات العنف. ويناقش اليمين المهيمن ما إذا كان يجب إدارة الاحتلال إلى الأبد، أم إعلان النصر وضم الكثير من الضفة الغربية. وقد زاد عدد المستوطنين الإسرائيليين هناك، فيما يعتبره الكثير من العالم انتهاكاً للقانون الدولي، أكثر من ثلاثة أضعاف، ليصل إلى نحو 400.000. كما يعيش 200.000 مستوطن آخرين في القدس الشرقية التي ضمتها إسرائيل، والتي يطالب بها الفلسطينيون لتكون عاصمتهم المستقبلية.
بما أن العالم العربي غير مهتم إلى حد كبير بالقدوم لمساعدة الفلسطينيين، كان الرئيس ترامب عاكفاً على قلب المبادئ الأساسية التي سار عليها كل مَن حاول التوسط في صنع السلام قبله. وهو يتفاخر بأنه أزال القدس “عن الطاولة” عن طريق الاعتراف بها عاصمة لإسرائيل، ويعمل على التقليل من شأن مشكلة اللاجئين عن طريق محاولة تجريد أبنائهم وأحفادهم من صفة لاجئ، كما أنه رفض تأييد حل الدولتين، وهو الهدف الذي قاد الفلسطينيين إلى أوسلو في المقام الأول.
كل هذا يترك الفلسطينيين عالقين، بعد أن لاحقوا حلم أوسلو طويلاً وبعيداً حتى غرفة الانتظار، فقط ليكتشفوا أن هذه الغرفة الضيقة بلا مخرَج.
تكمن ترتيبات أوسلو الأمنية -التي منحت الفلسطينيين المسؤولية عن الأمن الداخلي، و، بالتنسيق مع إسرائيل، مكافحة الإرهاب- في الأساس من ذلك الفخ. فقد قللت هذه الترتيبات الحاجة إلى الجنود الإسرائيليين للقيام بدوريات في المناطق العدائية في الضفة الغربية، ووفرت الحماية لقيادة السلطة ضد حماس.
لكنها صورت قوات الأمن الفلسطينية والقيادة أيضاً كمتعاونين مع الاحتلال في نظر الكثير من الفلسطينيين الذين يرون القليل من النفع في مساعدة إسرائيل على حماية نفسها. ويريد سبعة من كل عشرة فلسطينيين وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل، وفقاً لاستطلاع حديث أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية.
وعلى الصعيد الاقتصادي، أيضاً، يخدم الترتيب الحالي مصالح إسرائيل: فمانحو السلطة الفلسطينية الأجانب هم الذين يدعمون الخدمات في الضفة الغربية، مما يعفي إسرائيل من التزاماتها كقوة احتلال. ويعتمد الفلسطينيون في وجودهم على البضائع والمواد الغذائية والكهرباء الإسرائيلية. ويؤدي ارتفاع نسبة الديون الاستهلاكية الفلسطينية إلى إدامة الوضع الراهن فحسب، كما يقول الخبراء.
يقول ناثان ثرول، مدير المشروع العربي الإسرائيلي في مجموعة الأزمات الدولية: “لديك مجموعة كاملة من الفلسطينيين في الضفة الغربية الذين يعتمدون على وظائف السلطة الفلسطينية في دفع أقساط سياراتهم وقروضهم العقارية، وهم ينظرون بخوف حقيقي إلى إمكانية انهيار أوسلو -أي السلطة الفلسطينية”.
لعبة اللوم
يشكل توزيع اللوم على الأطراف صناعة منزلية للمحللين، والمفاوضين السابقين، والمشتغلين في حملات الضغط، والحزبيين.
وفي حقيقة الأمر، فشل الطرفان في السعي إلى -أو الانخراط بشكل مجدٍ في- محادثات السلام منذ تقوضت محاولة إدارة أوباما لإعادة استئناف المفاوضات في العام 2014. كما قوض الجانبان منذ وقت مبكر، ما كان -لدى تقييمه بأثر رجعي- إنجازاً هشاً للغاية.
كان متطرف يميني إسرائيلي هو الذي ارتكب مجزرة قتَل فيها 29 مسلماً في الخليل في العام 1994، مطلقاً أول موجة من التفجيرات؛ وكان آخر هو الذي اغتال السيد رابين في العام 1995، ملحقاً ضرراً بليغاً بأوسلو وواضعاً إياها في خطر كبير. وكانت إسرائيل هي التي أوقفت الانسحابات المتفق عليها من المناطق المحتلة، لتسيطر بالكامل على 60 في المائة من الضفة الغربية. كما كان انسحاب إسرائيل أحادي الجانب من غزة أيضاً مفاجئاً تماماً إلى حد دفع المنتقدين إلى القول إنه أسهم في استيلاء حماس على السلطة هناك.
خلال هذه الفترة، قامت إسرائيل بتوسيع المستوطنات، ولم يقتصر الأمر على الاستيلاء على مزيد من الأرض فحسب، وإنما أدى إلى إحباط معنويات جيرانها الفلسطينيين أيضاً، كما يقول دانيل كيرتز، السفير الأميركي السابق إلى إسرائيل. وأضاف كيرتز: “على أحد جانبي الطريق توجد قرية فلسطينية، وعلى الجانب الآخر بلدة إسرائيلية جديدة تماماً، بمنازل ذات أسقف حمراء، وأحواض سباحة، وخضرة وأشجار، وفوق تلة مشرِفة”.
لكن هناك أيضاً الكثير مما يجب أن يأسف عليه الفلسطينيون في قراراتهم وأفعالهم الخاصة أيضاً.
مهما كان المبرر، أدى العنف الفلسطيني إلى شل عملية السلام وقاد إلى نكسات مقيمة أخرى: إعادة احتلال إسرائيل لمدن الضفة الغربية في العام 2002، عندما دمرت الكثير مما كانت قد بنته السلطة؛ وبناؤها جداراً عازلاً خلف السخط، ورسخ الاستيلاء على بعض الأراضي، والذي أتاح لها -بتحقيق الهدف الذي حظي بالإطراء، المتمثل في الحد من الهجمات الفلسطينية- عدم الاكتراث لشأن الفلسطينيين والاحتلال على حد سواء.
بتأمل كل ذلك الآن، كما يقول العديد من المحللين، كان خطأ من جانب الفلسطينيين أن يسمحوا للإسرائيليين بتأجيل الحديث عن القضايا الجوهرية للصراع -الحدود الدائمة، ومصير اللاجئين الفلسطينيين والمطلب الفلسطيني بعاصمة في القدس- حتى محادثات الوضع النهائي. وكان خطأ عدم إصرارهم على بند صريح في الاتفاقيات المؤقتة، والذي ينص على تجميد التوسع الاستيطاني الإسرائيلي في المناطق التي تصور الفلسطينيون دولتهم فيها. وكان خطأ من الفلسطينيين أن يساوموا على الاعتراف بحق دولة إسرائيل في الوجود، وعلى نبذ العنف مقابل ما لا يزيد عن اعتراف إسرائيلي بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلاً شرعياً للشعب الفلسطيني.
ويقول السيد كيرتزر، الذي يتذكر شعوراً قاتماً واضحاً بعدم الارتياح والتحسُّب خيم على وجوه بعض الفلسطينيين في احتفال توقيع الاتفاقيات في العام 1993: “ما حصلوا عليه، كان متفاوَضاً عليه بشكل بائس”.
يستنطق آخرون حكمة تكليف منظمة التحرير الفلسطينية بأي مسؤولية عن مكافحة الإرهاب في وقت مبكر. ويقول ديفيد هاتشام، الذي مثل وزارة الدفاع الإسرائيلية في عملية أوسلو: “لم يفعل عرفات ما يكفي لوقف الإرهاب. إما لأنه لم يتمكن من ذلك، أو لأنه لم ير أن هذه المسألة مهمة بما يكفي في ذلك الوقت”.
كما أن الإسرائيليين سرعان ما أدركوا أيضاً أن الفلسطينيين لم يكونوا مستعدين لطيّ مبادئهم، بل إنهم أنكروا المطالبات اليهودية التاريخية بالقدس. وفي محادثات كامب ديفيد في العام 2000، قدم رئيس الوزراء الإسرائيلي، إيهود باراك، ما اعتبره معظم الإسرائيليين عرضاً سخياً لاتفاق نهائي، لكن المحادثات انهارت.
يقول السيد هاتشام عن بدايات أوسلو: “كان هناك حقاً شعور بأننا نبدأ فصلاً جديداً في الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني”. ولكن بحلول العام 2000، أصبح الأمر “حوار طرشان”، كما قال. وأضاف: “لم يكن عرفات مستعداً لعبور النهر المحرَّم”.
يقول بعض الإسرائيليين إن الفلسطينيين لم يليِّنوا أيديولوجيتهم بعد بما يكفي لإقناعهم بأن الدولة الفلسطينية لن تشكل تهديداً للهوية الإسرائيلية. ويقول عوفر زالزبيرغ، المحلل في مجموعة الأزمات الدولية: “ما السبب في أن نتنياهو ينظر إلى قيام دولة فلسطينية كخطر أمني؟ إنه يعتقد بأن الفلسطينيين سيواصلون تعليم أبنائهم أن الصهيونية غير عادلة، وأن الدولة المجاورة لا ينبغي أن تكون موجودة كدولة للشعب اليهودي”.
الخيار الأقل سوءاً
على الرغم من إخفاقات القيادة، يقبل الكثير من الفلسطينيين بالسلطة الفلسطينية باعتبارها الخيار الأقل سوءاً -ولو أنها تشكل، بالنظر إلى طول عمرها الذي يعادل تقريباً السنوات الست والعشرين سنة التي هي عمر احتلال ما قبل أوسلو منذ حرب العام 1967 وحتى 1993- الواقع الوحيد الذي يعرفه الكثيرون منهم.
مدعومة بنحو 500 مليون دولار سنوياً من المساعدات الخارجية، والتي تشكل نحو 12 في المائة من ميزانيتها، تشكل السلطة أكبر ربّ عمل فلسطيني، موفرة سبل العيش لحوالي 150.000 عامل ومُعاليهم، أي ما يعادل ربع السكان. وبعد الفوضى التي خلفتها انتفاضتان، يسند الكثيرون الفضل إلى السلطة في استعادة القانون والنظام.
يقول طارق الحلبي، 18 عاماً، بينما يجلس مع أصدقائه في مخيم الجلزون القاحل بجوار نصب تذكاري للسكان الذين قتلوا بنيران إسرائيلية: “لولا السلطة الفلسطينية، لكان الناس يقتلون بعضهم بعضا، من اليمين واليسار والوسط”.
لكن آخرين يتعقبون مشكلات حكم السلطة الفلسطينية وصولاً إلى السيد عرفات. فبينما كان يستنزف الأموال في شراء الولاءات وبناء الميليشيات، أملت الولايات المتحدة وإسرائيل -عبثاً- أن يثبت على الأقل كونه رجلاً قوياً قادراً، فقط لتشاهداه وهو يفشل في قمع العنف الذي ترتكبه حماس والفصائل المتشددة الأخرى.
ابتداء من العام 2000، شرع سلام فياض، المسؤول السابق في صندوق النقد الدولي والذي تلقى تعليمه في الولايات المتحدة، في إعادة الأمور إلى نصابها، معززاً الشفافية والمساءلة كوزير للمالية، ثم كرئيس للوزراء. وبحلول العام 2011، أعلنت الأمم المتحدة أن فعالية عمل حكومة السلطة الفلسطينية تجعلها جاهزة لإقامة الدولة -وإنما بلا جدوى.
يلقي مسؤولو السلطة الفلسطينية باللوم على إسرائيل في العديد من مشكلاتهم، بما في ذلك غياب الديمقراطية والتقدم الاقتصادي. ويقول جمال الرجوب، نائب محافظ أريحا: “الاحتلال الإسرائيلي يتحكم في الهواء الذي نتنفسه في الضفة الغربية وغزة. السلطة الفلسطينية تريد تحسين حياة الناس، لكن كل شيء مرهون بالاحتلال الإسرائيلي. الفلسطينيون ليسوا أحراراً. إننا لا نستطيع أن نفتح أجنحتنا ونحلق إلا إذا كنا عُمياناً عن الواقع”.
ويقول مؤيدو السلطة إنها استطاعت -مع كل أخطائها- تحسين الحياة بالنسبة لمعظم الفلسطينيين.
يقول الدكتور ناصر العناني، مدير المستشفى العام في أريحا، الذي بُني وزُود بالمعدات في معظمها من أموال يابانية وأميركية: “معظم الناس، بمن فيهم أنا، سيقولون أنه بعد 25 عاماً من أوسلو، ليس لدينا أي شيء على الصعيد السياسي. لكن الحياة أصبحت أفضل”.
يكلف التأمين الصحي الحكومي 22 دولاراً في الشهر، كما بُنيت عشرات المدارس، ويمكن الحصول على رخصة قيادة خلال 10 دقائق تقريباً. ويقول الدكتور العناني: “لدي الآن جواز سفر فلسطيني. حتى الولايات المتحدة تعترف به”.
لكن الكثيرين ينتقدون السلطة أيضاً -ويشكتون من المحسوبية والفساد- بقدر ما قد يعترفون بفعاليتها هنا أو هناك.
يقول السيد الترتير من “الشبكة”: “ما صنعته أوسلو كان نفعاً واضحاً بالنسبة لبعض الفلسطينيين والنخبة السياسية. ويترتب على كل الآخرين العيش مع العواقب، والذين ليس لهم أي قول أو رأي في واقع الأمر”.
“لقد وعدونا بدولة”
أصبح واقع إسكات صوت الفلسطينيين أكثر حضوراً حين زادات الانقسامات السياسية قدرة السيد عباس على قمع المعارضة. وقد تم اعتقال الفلسطينيين بسبب انتقاده؛ وتم تجميد الحسابات المصرفية لجماعات المجتمع المدني المرتبطة بمنافسيه. وتم تفريق المظاهرات غير المصرح بها بوحشية.
يقول أحمد رشيد، 22 عاماً، العاطل عن العمل الذي يسكن في مخيم الجلزون، والذي قال إنه أمضى وقتاً في سجن إسرائيلي في العام 2015 بتهمة رمي الحجارة، ثم في سجن السلطة في أريحا في العام 2017 بتهم أمنية غامضة: “إنها غابة. القوي يأكل الضعيف”.
ينظر نصف الفلسطينيين إلى السلطة على أنها عبء، كما وجد استطلاع حديث. ويميل أولئك من الفئة العمرية ما بين 18 و22 عاماً إلى عدم الثقة في النخبة، وهم أكثر تأييداً لحل دولة واحدة من حل دولتين، بينما يرون أن دولة سلطوية فاسدة “ليست جديرة بالوجود”، كما يقول خليل الشقاقي، مدير مركز الاستطلاعات في رام الله.
وتقول فريال القراويل، الممرضة من عورتا: “كلها أكاذيب. لقد وعدونا بدولة. أين هي الدولة؟ كل الاتفاقيات وكل السلطات، بما فيها سلطتنا، أرجعتنا أكثر من 60 عاماً إلى الوراء”.
بينما يركز السيد عباس ومعاونوه على النجاة من إدارة ترامب، يحث آخرون من خارج دائرته الفلسطينيين على إعادة النظر في نظامهم السياسي الذي يصبح غير ديمقراطي باطراد -وإعادة تشغيله، إن لم يكن تحطيمه وبناؤه من جديد بالكامل.
ويقول سام بحور، رجل الأعمال من رام الله: “في نهاية المطاف، فإن السؤال هو كم من الناس على الأرض ممثّلون في النظام السياسي، واليوم هؤلاء قليلون. من دون إعطاء الشباب فرصة للتنفس، سياسياً، سوف يظلون في الشوارع. وسوف يقود ذلك إلى شيء سلبي”.
في أريحا، بدا الاستسلام، أكثر من الغضب، هو المزاج السائد. ويقول سعيد خميس أرملية، 52 عاماً، وهو سائق حافلة المدرسية، بينما يمسح بنظره المدينة من منزله المشرف فوق تلة: “إننا ننام وأبوابنا مفتوحة. لكن الحياة صعبة”.
وتقول زوجته كمايل، 48 عاماً، عن السلطة الفلسطينية: “إنها أفضل من لا شيء”.
شرع الغسق في الهبوط، وأضاءت مصابيح النيون على أرجوحة دوارة عملاقة في مدينة الملاهي الخاوية في المدى، متلألئة مثل لاس فيغاس قصيَّة لم تبلُغها أريحا أبداً.
ديفيد هاليبفينغر
الغد