إعادة تأهيل سعودية – إماراتية لمنطقة القرن الأفريقي

إعادة تأهيل سعودية – إماراتية لمنطقة القرن الأفريقي

توجت السعودية والإمارات جهودهما لاحتواء الخلاف التاريخي بين إثيوبيا وإريتريا بعقد قمة ثلاثية في جدة وبالتوقيع على اتفاق سلام تاريخي بين البلدين، بحضور العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش. وفي الوقت الذي تسعى فيه كل من إثيوبيا وإريتريا، لتعزيز المصالحة التي انطلقت عقب إعلان مشترك في يوليو الماضي، أنهى صراعًا حدوديًا استمر نحو عقدين، سيوجه اتفاق السلام إشارة إلى الرئيس السوداني عمر البشير بالكف عن سياسته المتقلبة والعودة إلى المحور العربي، فيما سيؤكد تآكل النفوذ القطري الإيراني في القرن الأفريقي لصالح الإمارات والسعودية.
جدة (السعودية) – دخلت مرحلة المصالحة بين إثيوبيا وإريتريا مرحلة “المكافأة” التي تعدها السعودية والإمارات، في منحى مشترك لبناء سلام لا يتم بالحالة اللحظية بين الجانبين، وإنما يقوم على أسس تؤهله للتحول إلى سلام دائم.

ويحول هذا السلام إثيوبيا وإريتريا إلى أرض خصبة لاستثمارات تملأ فراغا كبيرا تركته خلفها إيران (في الحالة الإيريترية) وقطر (لدى إثيوبيا)، ويحول منطقة القرن الأفريقي إلى منطلق استراتيجية لعمليات التحالف العربي في اليمن، ومنصة لتعزيز السعودية والإمارات نفوذهما في المنطقة.

ووقع الرئيس الإريتري أسياس أفورقي ورئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، الأحد، على “اتفاقية جدة للسلام“ بين جمهورية إثيوبيا الديمقراطية الاتحادية ودولة إريتريا، برعاية العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز وبحضور ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ضمن أعمال قمة رباعية استثنائية تستضيفها المدينة المطلة على البحر الأحمر.

وقال بيان رسمي وزع مساء الأحد إن الملك سلمان قلد الرئيس الإريتري ورئيس الوزراء الإثيوبي قلادة الملك عبدالعزيز.

وحضر مراسم توقيع “اتفاقية جدة للسلام”، الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش والشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي بدولة الإمارات العربية المتحدة.

وجاء توقيع الاتفاق ضمن فعاليات قمة القرن الأفريقي التي دعا إليها العاهل السعودي بمشاركة أربع دول هي: إثيوبيا وإريتريا والصومال وجيبوتي، التي عانت طوال العقود الماضية من صراعات متعددة، تسببت في الكثير من المعاناة لشعوبها، وعوَّقت جهود التنمية والاستقرار فيها.

وحظيت هذه القمة بترحيب إقليمي ودولي واسع، خاصة من قبل القوى الكبرى المهتمة بالأوضاع في منطقة القرن الأفريقي، وبالخصوص فرنسا والولايات المتحدة وبريطانيا والصين وروسيا، نظرًا إلى أهمية إحلال السلام بين دول هذه المنطقة ذات الأهمية الاستراتيجية القصوى.

السودان في عهد الرئيس البشير مستعد للعمل عن كثب مع محور الاعتدال الخليجي، بينما لا يزال هذا المحور يشك في مدى التزام السودان بهذه العلاقات

وجاء توقيع اتفاق السلام الإثيوبي- الإريتري تتويجًا لجهود سعودية مكثفة، أثمرت تحقيق خطوات غير مسبوقة في العلاقة بين البلدين، كان آخرها الثلاثاء الماضي، مع فتح الحدود بين البلدين بعد عشرين عامًا من الصراع والقطيعة.

وشهد وزير خارجية جيبوتي محمود علي يوسف، بمحورية الوساطة السعودية التي أدت إلى إنهاء الأزمة المستمرة بين الطرفين، والتي كانت تؤثر بشكل كبير على دول القرن الأفريقي وشعوبها، وساعدتهما في تجاوز خلافاتهما وتحقيق السلام.

وقال الوزير الجيبوتي عبر حسابه على تويتر “إن للمملكة العربية السعودية دورًا محوريًا في إحلال السلام بين إثيوبيا وإريتريا، كما أن جهودها المستمرة لمساعدة دول القرن الأفريقي على تجاوز خلافاتها ينصبُّ في إطار الشراكة الأمنية بين دول الخليج ودول القرن الأفريقي؛ حماية للمصالح المشتركة”.

وأضاف أن حكومة جيبوتي تثمن كثيرًا الوساطة التي تقوم بها حاليًا المملكة في حلحلة الأزمة بين جيبوتي وإريتريا، كما أن جهود السلام التي يبذلها رئيس وزراء إثيوبيا خلقت بيئة ملائمة للسلام في القرن الأفريقي.ويفتح اتفاق السلام بين الجانبين أمام السعودية والإمارات فرصة إعادة تأهيل السودان، في الوقت الذي تتراجع فيه حدة القتال في الحرب الأهلية الدائرة في جنوب السودان.

ولطالما شكل الرئيس السوداني عمر حسن البشير عنصرا متقلبا في العلاقات السودانية مع دول الخليج، لكن النفوذ السعودي – الإماراتي المتزايد على حدوده الجنوبية قد يغير المعادلة كثيرا.

وتتبع الرياض وأبوظبي سياسة “النفس الطويل” في علاقاتهما مع البشير، إذ يدرك الجانبان أن الاستثمار في تغيير مسار استراتيجي حدد أبعاد علاقة الخرطوم وطهران، يحتاج إلى اسثمار كاف لإحداث تحول جذري يعيد السودان إلى الدائرة العروبية في المنطقة.

وكانت علاقات السودان متصدعة مع دولة الإمارات، وأيضاً مع باقي دول مجلس التعاون الخليجي، باستثناء قطر. ومنذ عام 1992، حيث جمدت العلاقات الدبلوماسية منذ ما يقرب من عقد من الزمان حتى عام 1999، كان السودان يعتبر الحليف الأقوى لإيران، والعدو اللدود لدول مجلس التعاون الخليجي بقيادة السعودية.

ثم بدأ التقارب في العلاقات بعد ذلك بعد أن قام السودان بإغلاق الأنشطة الإيرانية غير الدبلوماسية في السودان عام 2014. كما أدى سقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر بقيادة الرئيس السابق محمد مرسي إلى لعب دور حيوي في هذا التقارب حيث تخلى السودان عن نظرته إلى جماعة الإخوان المسلمين كركيزة أساسية للنفوذ بالنسبة للبشير.

ويحظى البشير بقاعدة دعم قوية في كل من جماعة الإخوان المسلمين السودانية (عناصر من الجبهة الإسلامية الوطنية) والجيش. لكن المنطقة تشهد توافقا أيديولوجيا متناميا بين السودان من جهة والإمارات والسعودية، اللتين أعلنتا جماعةَ الإخوان المسلمين جماعةً إرهابيةً، من جهة أخرى.

كما دعم السودان الانتفاضة الليبية في عام 2011، وأرسل قوات للقتال ضد نظام العقيد الراحل معمر القذافي، الذي كان يدعم الجماعات المتمردة في السودان التي تهدف إلى الإطاحة بالرئيس البشير.

ومع ذلك، لا يزال السودان متهماً بالعلاقات مع الجماعات الإسلامية في ليبيا مثل جماعة أنصار الشريعة. وعلى الأقل من الناحية التكتيكية، فإن السودان في عهد الرئيس البشير مستعد للعمل عن كثب مع محور الاعتدال الخليجي، بينما لا يزال هذا المحور يشك في مدى التزام السودان بهذه العلاقات.

ويأمل السودان في أن يحظى بدعم سعودي وإماراتي لإنهاء الحرب بين قوات الرئيس سيلفا كير ونائبه رياك مشار في جنوب السودان. وموقف السعودية والإمارات مختلف عن موقف مصر، التي تدعم كير، وتقول تقارير إن معدات عسكرية مصرية ثقيلة تتدفق على جنوب السودان من أوغاندا.

ولا يتحمل السعوديون والإماراتيون هذا الإرث المعادي للسودان في نظرة البشير، كما هو الحال بالنسبة للمصريين. ويؤهل هذا الواقع الرياض وأبوظبي للدخول بثقلهما في ملف الجنوب، وهو ما قد يمثل إشارة حسن نوايا تجاه البشير، الذي يبدو مستعدا أكثر من أي وقت مضى للتخلي عن تقلباته، والابتعاد كثيرا عن دائرة النفوذ الإيراني.

وتحافظ الإمارات على وجود محدود جدا لها في جنوب السودان، حيث كان التجار والمستثمرون الإماراتيون يعملون بنشاط في هذه المنطقة حتى اندلاع الحرب الأهلية في ديسمبر 2013. كما ساعدت الإمارات في فتح سفارة جنوب السودان في أبوظبي.

الإمارات وإريتريا
تلقت إريتريا دعماً من دولة الإمارات العربية المتحدة منذ بداية كفاحها من أجل الاستقلال عن إثيوبيا. ومن خلال صندوق أبوظبي للتنمية، تعتبر الإمارات واحدة من أكبر خمس دول مانحة للمساعدات إلى إريتريا.

وفي عام 1993، افتتحت إريتريا سفارة في الإمارات وبعد عشر سنوات افتتحت قنصلية في دبي. وازداد التعامل التجاري بين الدولتين بشكل كبير، وأنشأت إريتريا مجالس أعمال في الإمارات تهدف إلى تعزيز التجارة المتزايدة بين الدولتين. ويُقدر أن هناك أكثر من 5 آلاف إريتري يعيشون في دولة الإمارات، ومعظمهم من النساء.

وعملت العلاقات الدبلوماسية المتوترة بين كل من الإمارات وجيبوتي لصالح إريتريا، حيث تحوّلت إريتريا من دعم إيران والحوثيين واتخذت قرارا بتأجير ميناء عصب كقاعدة عسكرية للإمارات.

ومع تأجيج الصراع اليمني وبداية التدخل العسكري بقيادة السعودية، اختارت إريتريا أن تكون بمثابة قاعدة انطلاق للحملة التي تقودها السعودية ضد الحوثيين.

قيام الإمارات باستئجار قاعدة بحرية في بربرة في أرض الصومال، يشكل خطوة أولى في خطة أكبر لإنشاء شبكة قواعد بحرية على المناطق الساحلية في القرن الأفريقي

ولم توفر إريتريا مجالها الجوي وأراضيها وقواعدها الجوية ومواردها البحرية فحسب، بل قامت أيضاً بنشر قواتها البرية كجزء من التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن.

وكانت إريتريا، من خلال علاقتها القريبة بإيران، في وقت ما، تعمل بنشاط على دعم الحوثيين. وقد أوضحت زيارة أفورقي لإيران في مايو 2008 الجانب الذي كانت تتخذه إريتريا في الصراع الإقليمي بين المملكة العربية السعودية وإيران. ولكن في عام 2015، غيرت إريتريا تحالفها بترك الجانب الإيراني فجأة والانضمام إلى التحالف الذي تقوده السعودية.

وبسبب يأسه من إنهاء عزلته الدبلوماسية، كان أفورقي يتأرجح في وقت ما بين دعم إيران أو المملكة العربية السعودية. وكان العامل الرئيسي الذي يحركه هو قلقه بشأن الحالة الاقتصادية لبلاده والعزلة الدبلوماسية التي قضاها لأكثر من عقد من الزمن من قبل جيرانه والمجتمع الدولي لدوره في الصومال، والصراعات على الحدود مع إثيوبيا وجيبوتي واليمن.

ومن خلال هذا التحول في دعم التحالفات، لم تعزز إريتريا مكانتَها الدبلوماسية مع دول مجلس التعاون الخليجي فحسب، بل استطاعت الاستحواذ على عقود استثمارية ساهمت في تحسين الأوضاع الاقتصادية في البلاد كثيرا، حيث وقعت الإمارات عقد إيجار لمدة 30 عامًا يضمن استخدامها لميناء عصب.

الخليج وإثيوبيا

مكنت إريتريا أيضاً التحالف بقيادة السعودية من الحصول على موقع جيوسياسي وجغرافي واقتصادي متميز في منطقة البحر الأحمر. ويرى العديد من المراقبين أن موطئ قدم السعودية والإمارات في إريتريا سيقوّي موقفَهما في الصراع اليمني.

كما يرى المراقبون أيضاً أن قيام الإمارات باستئجار قاعدة بحرية في بربرة في أرض الصومال، يشكل خطوة أولى في خطة أكبر لإنشاء شبكة قواعد بحرية على المناطق الساحلية في القرن الأفريقي.

ويبلغ حجم الاستثمارات الإماراتية في إثيوبيا 363 مليون دولار أميركي في مجالات عدة مثل الصناعات التحويلية والأدوية والألومنيوم والمعالجة الزراعية.

ومع ذلك، تعد هذه الاستثمارات ضئيلة مقارنة بما تطمح إليه إثيوبيا. ومنذ عام 1991، وعلى الرغم من التشجيع والجهود التي تبذلها إثيوبيا من أجل جذب الاستثمار الإماراتي، إلا أن الإمارات لم تستجب في بادئ الأمر. لكن إجمالي التجارة في العقد الماضي ارتفع من 123 مليون دولار إلى 935 مليون دولار أميركي.

وفي نفس الإطار الزمني، شكلت صادرات إثيوبيا أقل من 8 بالمئة من إجمالي حجم التجارة. وبينما زادت صادرات إثيوبيا إلى الإمارات تسعة أضعاف، ازدادت وارداتها من الإمارات إلى ثمانية أضعاف.

تحجيم مستوى الاستثمارات الخليجية إلى إثيوبيا كان متصلا بملفات استراتيجية، كملف سد النهضة، ويبدو أن حكومة آبي أحمد أعطت مؤشرات على إمكانية حدوث اختراق في هذا الملف، منذ أن قررت انتهاج سياسة معتدلة تجاه محور مصر- السعودية- الإمارات

ويقول مراقبون إن التوجه الخليجي، خصوصا في السعودية، بتحجيم مستوى الاستثمارات الخليجية إلى إثيوبيا كان متصلا بملفات استراتيجية، كملف سد النهضة، الذي يمثل قلقا بالنسبة لمصر على حصتها من مياه نهر النيل. لكن يبدو أن حكومة آبي أحمد أعطت مؤشرات على إمكانية حدوث اختراق في هذا الملف، منذ أن قررت انتهاج سياسة معتدلة تجاه محور مصر- السعودية- الإمارات.

وطوال الوقت كانت العلاقات الدبلوماسية مضطربة بين السعودية وإثيوبيا بسبب اختلافهما حول عدد من القضايا الثنائية والإقليمية. ومع ذلك، كانت هناك أوقات تقاربت فيها العلاقات بين الدولتين. وكما حدث في حرب الخليج الأولى عام 1991 حين اتخذت إثيوبيا موقفًا قويًا في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ضد غزو العراق للكويت، فإن الموقف الواضح لإثيوبيا من الحرب الأهلية الليبية في عام 2011 قد عمل على تقارب علاقات دول مجلس التعاون الخليجي، وخاصة الإمارات وقطر، مع إثيوبيا بشكل أكبر مما كانت عليه من قبل، مع الأخذ بعين الاعتبار أن هذه العلاقات كانت بعيدة كل البعد عن أن تكون قوية.

وتضيف العلاقة الوثيقة بين الإمارات وإريتريا سبباً جيوسياسياً آخر للعلاقات غير المتنامية بين الإمارات وإثيوبيا، وخاصة منذ الحرب الإثيوبية الإريترية بين عامي 1998 و2000.

وعملت الأزمة اليمنية وتقارب مصادر الدعم المالي لإريتريا على دعم الجيش الإريتري الذي كان يعاني من ضائقة مالية واقتصادية.

واستخدمت إريتريا علاقاتها الجيدة مع الإمارات من أجل الهروب من حالة العزلة الدبلوماسية التي فُرضت عليها. واحتجاجاً على عدم التشاور، أعربت إثيوبيا عن قلقها ورفضها بشأن الاتفاقيات والدعم المالي المقدم إلى إريتريا من قبل الإمارات والدول الأخرى من أعضاء مجلس التعاون الخليجي.

لكن منذ صعود آبي أحمد للحكم هذا العام، انقلبت معادلة القوة في المنطقة رأسا على عقب، وأبدت إثيوبيا استعدادا أكبر للتوصل إلى سلام دائم، يخرج إريتريا من عزلتها.

العرب