فرض تصاعد حدة الصراعات في بعض دول منطقة الشرق الأوسط طيلة الأعوام الأربعة الماضية، أعباء اقتصادية ثقيلة، تحمّلت الموازنات العامة للدول جزءًا كبيرًا منها. ولعبت المتغيرات الاقتصادية التي لم تكن مواتية بأي حال، كتباطؤ النمو الاقتصادي، بجانب تزايد النفقات الاجتماعية، وأعباء اللاجئين، ومتطلبات التنمية الاقتصادية، دورًا في ارتفاع عجز موازنات كثير من الدول مثل المغرب، ومصر، ولبنان، والأردن، مما أدى بها إلى التوسع في الاقتراض الخارجي والداخلي على حد سواء. وإزاء ذلك، وكما تشير إليه بيانات الديون العامة للدول، فقد وصلت إلى مستويات مرتفعة للغاية، واعتبر بعض المحللين أنها تخطت بذلك الحدود الآمنة، وهو ما يتطلب من دول المنطقة اتخاذ إجراءات حاسمة وسريعة للإصلاح المالي، وتقليص عجز الموازنات، فيما تبقى الحلول الاقتصادية أحيانًا عاجزة أمام تشعب أو تعقد التفاعلات السياسية الداخلية للعديد من دول المنطقة.
مستويات قياسية:
خلال السنوات الأربع الأخيرة، قفزت ديون أغلب دول منطقة الشرق الأوسط إلى مستويات مرتفعة، وكانت الدولُ غير النفطية الظاهرة الأبرز في هذا الصدد. ففي الأردن بلغت نسبة الدين العام 80.3% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2014، مقابل 61% بنهاية عام 2010. أما المغرب، فاستمرت نسبة الدين العام في الارتفاع من عام لآخر، وبينما وقفت نسبة الدين العام عند مستوى 50.3% عام 2010، تزايدت سريعًا إلى 62.8% عام 2013، قبل أن يُطلق المجلس الأعلى للحسابات، وهو الهيئة المنوط بها مراقبة الحسابات العامة بالمغرب، تحذيراته بخطورة نسب الدين العام، بتسجيله قرابة 76% عام 2014.
وبنهاية سبتمبر 2014، كان الدين العام في مصر قد وصل إلى 86% من الناتج المحلي الإجمالي، لا سيما مع زيادة الاقتراض من مؤسسات التمويل الدولية، واستقبال الودائع الخليجية التي ضمنها مؤتمر دعم وتنمية الاقتصاد المصري الأخير. ومن المتوقع، طبقًا لوزارة المالية المصرية، أن تصل نسبة الدين العام إلى 91.5% في نهاية العام المالي 2014/2015. وتعد نسبة الدين العام في لبنان هي الأخطر بين نسب ديون دول المنطقة، حيث بلغت 134% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2014، بينما كانت 131% في عام 2012. ولم تسلم الدول النفطية بدورها من الدخول في دائرة الاقتراض، فمع تراجع الأسعار العالمية للنفط منذ منتصف 2014 إلى أكثر من النصف؛ تسعى العراق إلى إصدار سندات بقيمة 5 مليارات دولار لسد عجز الموازنة، بحسب ما أعلنه وزير المالية العراقي هوشيار زيباري.
أسباب متعددة:
ساهمت تغيرات عدة، سياسية واقتصادية واجتماعية؛ في ارتفاع النفقات العامة لبعض الموازنات، في مقابل تراجع الإيرادات العامة. وجراء ذلك، تصاعد العجز في الموازنات العامة، مما أدى إلى زيادة الاقتراض الخارجي للدول، وتتمثل هذه التغيرات في:
1- اتساع نطاق الصراعات داخل الإقليم، بشكل أنتج خسائر اقتصادية كبيرة، ليس لدول الصراع فقط، وإنما لدول الجوار أيضًا، حيث تحملت الموازنات العامة للبنان والأردن أعباء اقتصادية كبيرة، نتيجة تدفقات اللاجئين السوريين، وأشار البنك الدولي إلى أن تدفق اللاجئين السوريين على لبنان ساهم في خفض تحصيل الإيرادات الحكومية بقيمة 1.5 مليار دولار، مع زيادة النفقات في الوقت نفسه بقيمة 1.1 مليار دولار، بسبب الارتفاع الكبير في الطلب على الخدمات العامة. كما أدت الأزمة السورية إلى تراجع نشاط قطاع السياحة، وهو أهم قطاع في هيكل الاقتصاد اللبناني. بينما أثر إغلاق الحدود الأردنية مع سوريا والعراق على إمكانية انتقال السلع، وأدى إلى انخفاض الصادرات الأردنية.
2- تزايد الأعباء الاجتماعية، إذ ارتفع سقف المطالب الاجتماعية منذ اندلاع الثورات العربية، والتي تزامنت معها دعوات شعبية بزيادة الأجور، وتقديم ضمانات إضافية للتأمينات الاجتماعية والصحية، وإتاحة فرص العمل. ومن أجل استيعاب المطالب الاجتماعية الكامنة، حرصت بعض دول المنطقة على زيادة مخصصات الإنفاق الاجتماعي، فقد اعتمدت وزارة المالية المغربية 130 مليار درهم (15.2 مليار دولار) في موازنة عام 2015 لدعم البرامج الاجتماعية، والتعليم، والصحة. كما أدت خطط رفع الدعم عن الطاقة والمياه في الأردن إلى تبني الدولة برامج لتوسيع شبكات الضمان الاجتماعي، والتأمين الصحي، وزيادة نفقات التعليم والصحة. وفي مصر استمرت المصروفات العامة في الارتفاع، نتيجة زيادة المصروفات الاجتماعية، وتطبيق الحد الأدنى للأجور بالأجهزة الحكومية، وزيادة معاش الضمان الاجتماعي.
3- متطلبات التنمية والبنية التحتية، حيث توجهت عدة دول للتوسع في مشروعات البنية التحتية، لا سيما في مجال الطاقة، والمياه، وشبكات الصرف الصحي، فقد خصصت المغرب خلال موازنة 2015 نحو 189 مليار درهم (19.2 مليار دولار) للاستثمارات العامة، بزيادة 300 مليون دولار عن الموازنة السابقة، وتوسعت بدورها كل من مصر والأردن في ضخ استثمارات عامة بالبنى التحتية، من أجل تعزيز النمو الاقتصادي، وتوفير فرص العمل.
وضع متغير:
حتى الوقت الراهن، تظل السلامة المالية لدول المنطقة في موقف جيد نسبيًّا، طالما أنها قادرة على سداد أقساط ديونها، وأداء مدفوعات الفوائد، بما يُبعد شبح الانهيار المالي، خاصةً أن بعضها يحتفظ بتصنيفات جيدة لديونها السيادية من قبل وكالات التصنيف الائتماني. ولكن ما يُثير الانتباه أنه إذا استمر تباطؤ نمو اقتصادات دول المنطقة، وارتفاع نفقاتها، بما يفوق إيراداتها، فإن ذلك سيضع تلقائيًّا الموقف المالي لأغلب دول المنطقة في خطر على الأمد المتوسط. وما تؤكده البيانات حاليًّا أن نسب الدين العام لبعض دول الإقليم (كالمغرب، والأردن، ومصر) في حدود مقبولة، رغم ارتفاعها نسبيًّا، بينما تمثل لبنان أكثر الحالات خطورة في المنطقة، بل ومن أعلى نسب الدين العام في العالم. وختامًا، يظل نجاحُ دول المنطقة في سد عجز ميزانياتها مرهونًا ليس فقط بالمتغيرات الاقتصادية كإصلاح المالية العامة، وزيادة كفاءة الإنفاق العام، وإنما أيضًا بتحقيق انفراجة سياسية تفك تشابكات الوضع السياسي الداخلي والإقليمي معًا.
وحدة الدراسات الاقتصادية
المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية