يسود التوتر العالي منطقة الشرق الأوسط الكبير، بدءاً من موريتانيا في شمال إفريقيا امتداداً على طول الخط إلى باكستان، حيث الهجمات الإرهابية والانتفاضات والحروب التي تندلع في أجزاء مختلفة. ولم يسبق أبداً أن شهدت هذه المنطقة مثل هذا الاشتعال في التاريخ أبداً. وقد يقول المرء إنه لا جديد في هذه المنطقة التي تعج بالمشاكل. ومع ذلك، ثمة عوامل جديدة تجعل من هذه الفترة مختلفة عما كانت عليه في العقود الماضية. ولعل أهم عامل هو الدور المتضائل للولايات المتحدة.
بنظرة فاحصة إلى الوضع في هذه المنطقة، بدءاً بشمال إفريقيا، تبدو الولايات المتحدة متواجدة بالكاد في أهم معركة تُخاض ضد تنظيم القاعدة في المغرب، حيث تقود فرنسا الجهد لاقتلاع المقاتلين الإسلاميين الراديكاليين من مالي. وفي ساحل المتوسط، وتحديداً في سورية، رفضت واشنطن كل الدعوات الموجهة إليها إما للتدخل أو لمساعدة الثوار في قتالهم ضد نظام مدعوم إيرانياً، وبقيت تراقب بلا حراك الجماعات الإسلامية المرتبطة بتنظيم القاعدة وهي تؤسس لنفسها موطئ قدم في مكان استراتيجي بقدر كبير مثل سورية. ولعل الأكثر إثارة لدهشة العديد من المراقبين هو مشاهدة البحرية الروسية وهي تتحرك بكامل قوتها قبالة الخط الساحلي السوري، مجرية مناورات ومزودة النظام السوري بالأسلحة. وحتى صواريخ الباتريوت التي نشرت تحت مظلة الناتو على طول الحدود التركية السورية، كانت في معظمها من تزويد البلدان الأوروبية -ألمانيا وهولندا. وفي منطقة الخليج العربي، تم خفض حجم الأسطول الأميركي بسحب حاملتي طائرات من القوات الضاربة. وأخيراً في أفغانستان، ستشرع الولايات المتحدة قريباً في خفض قواتها بما يمهد لانسحابها التام مع حلول نهاية العام 2014.
مع استعار النقاش في الولايات المتحدة حول الفصل الذي يمكن أن يقود إلى خفض 600 مليار دولار من قيمة النفقات الدفاعية، يتساءل المراقبون في الشرق الأوسط عن الأثر المحتمل لهذا الخفض على التواجد الأميركي في المنطقة. ويتساءل حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة أكثر عندما يسمعون المسؤولين الأميركيين يتحدثون عن الأولويات الجديدة للتحول إلى آسيا، ونية خفض الانخراط في الشرق الأوسط. وسيصب هذا، بشكل رمزي، في قناة الدعاية الإيرانية القائلة بان الولايات المتحدة لا تعدو كونها قوة متداعية، وأن طهران ستكون القوة المهيمنة الجديدة الصاعدة في المنطقة. وفي العموم، من المرجح أن تكون إيران مسرورة جداً. وتعتبر استراتيجية الجمهورية الإسلامية متعددة الأعوام والرامية إلى إبعاد الولايات المتحدة من المنطقة ناجحة، وتعطي إيران دفعة تمس الحاجة إليها فيما تسقط سورية في أتون فوضى عارمة سياسية. للعديد من الأعوام، دعت إدارة الرئيس محمود أحمدي نجاد الولايات المتحدة مراراً لمغادرة المنطقة، ومنطقة الخليج على وجه التحديد، والسماح لبلدان المنطقة بضمان أمنها الخاص وخلق بناء هندسي أمني خليجي جديد بدون أميركا. وما تزال الولايات المتحدة وحلفاؤها عالقين في حرب باردة مع إيران وحلفائها المحوريين في الشرق الأوسط. وبينما ما تزال واشنطن وحلفاؤها العرب ينتظرون رؤية ما إذا كانت النبوءات الأميركية بانهيار النظام الإيراني تحت طائلة العقوبات الاقتصادية، تتصاعد مشاعر الدهشة من رؤية الولايات المتحدة وهي توشك على الانسحاب بسبب المتاعب الاقتصادية وتغير أولويات السياسة الخارجية. وستكون هذه صدمة كبيرة لمنطقة كانت قبل عشرة أعوام تستضيف أكثر من 200 ألف جندي أميركي منتشرين فيها، فيما كان هناك بالكاد أي تواجد لقطع بحرية روسية أو صينية. ومن الممكن وصف الحالة راهناً أفضل ما يكون بأنها انتقال من السياسات التدخلية المتطرفة لإدارة جورج دبليو بوش إلى سياسات إدارة باراك أوباما القائمة بشكل متطرف على عدم التدخل، والتي وُصفت بأنها تقوم على “القيادة من الخلف”، بينما يصفها بعض المسؤولين الإقليميين بأنها سياسات “انعزالية”. يجب أن تكون هناك أرضية وسطى حيث تستطيع الولايات المتحدة قيادة جهود جماعية على الأرض بدلاً من التدخل بشكل أحادي أو استثناء نفسها من التدخل جملة وتفصيلاً.
ثمة مخاوف إقليمية من احتمال صعود مدرسة جديدة للفكر في واشنطن، والتي تناسب السياسة الخارجية الأميركية والمتطلبات العسكرية في العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين، وهو ما يدعوه البعض “النزعة الكولونيالية الجديدة” التي تسعى إلى سحب أميركا من الحلبات الإقليمية، وإنما من دون خطة واضحة حول من سيملأ الفراغ.
تعتقد هذه المدرسة من النزعة الكولونيالية الجديدة بأن الولايات المتحدة لن تعود في حاجة مع مرور الوقت إلى أن تكون القوة المهيمنة في منطقة الخليج بشكل رئيسي، لحماية إمدادات النفط ومرورها للعملاء والحلفاء في الشرق. ولا يدور السبب وراء التحول الاستراتيجي حول الأموال، لكن التغير الجذري هو واقع أن أميركا لا تستطيع أن تكون في كل مكان في نفس الوقت، كما أن مصادر الطاقة أصبحت أقرب إلى الوطن، وخاصة مع استخراج ثروة الطاقة من النفط والغاز من الصخر الزيتي.
تسمح النزعة الانعزالية الجديدة في السياسة الخارجية الأميركية للبلدان العربية بمراقبة نفسها عندما يتعلق الأمر بالجيشان الإقليمي، تاركة أميركا سعيدة على الخطوط الجانبية. وقد أتاح الربيع العربي لهذه البلدان، مثل الإمارات العربية المتحدة وقطر، استعراض قدراتها في القوة الجوية في الائتلاف الذي قاده الناتو ضد ليبيا لإسقاط القذافي. كما يزيد الحلفاء الأوروبيون من حصتهم في المسؤولية، بالرغم من المشاكل الاقتصادية في الوطن. ويستمر هذا الاتجاه في سورية، حيث تتولى البلدان العربية حمل جزء من العبء، وفي مالي حيث تصبح القوات الإفريقية أكثر انخراطاً، وحيث تمر منطقة الشرق الأوسط الكبير بمخاض تحولات تكتونية.
يمكن أن يكون ارتقاء شخصيات أميركية مثل السناتور رون باول وأثر حزب الشاي الذي ينافح عن خفض الانخراط الأميركي في القضايا الدولية والتركيز بدلاً من ذلك على القضايا المحلية، إشارة إلى أن ثمة أشياء ستتم في واشنطن، إلى درجة ربما يجب على المسؤولين في الشرق الأوسط أن يكونوا مستعدين لها. وقد جعلت سياساتهم حليف أميركا رقم واحد في المنطقة، إسرائيل، شديدة القلق. كما يشعر حلفاء أميركا العرب بالقلق أيضاً. ومن المرجح أن تكون دول مجلس التعاون الخليجي غير سعيدة على الإطلاق بسبب التحول الاستراتيجي للولايات المتحدة، وبشكل أساسي، سيكون أسواً كوابيس دول الخليج هو أن يصبح ذلك حقيقة: لن يقتصر الأمر على خفض البصمة الأميركية في المنطقة بشكل جذري، وإنما ستصبح إيران على الأرجح قوة نووية أيضاً، وستتعامل واشنطن مباشرة مع طهران عبر التجاوز عن الحلفاء الخليجيين الرئيسيين. وستجبر دول مجلس التعاون الخليجي على الالتفات إلى الشرق لتوفير الضمانات الأمنية، حيث يرجح أن تستفيد من ذلك كل من الهند والصين. وقد لا تكون روسيا بعيدة جداً في الأعوام المقبلة.
من الواضح أن أميركا في حالة تراجع استراتيجي من المنطقة، كما أن الافتقار إلى الإرادة عند واشنطن للانخراط بنفسها في حالات الطوارئ المستقبلية في الشرق الأوسط الكبير آخذ في النمو بقوة. وسيفضي نأي أميركا بنفسها، إذا ما نفذ بالكامل، إلى قتل آليات أميركا الرئيسية في استعراض القوة -القوة الجوية والبحرية والعمليات الخاصة- إذا تطلب الأمر ذلك. وسيكون أثر هذا الانعزال كونياً لا إقليمياً. ومن شأن نقل المعلومات الاستخبارية للحلفاء واستخدام الطائرات من دون طيار أن يضعف صوت أميركا في وقت ستكون فيه واشنطن بحاجة لأن تُسمع خلال أزمة أو صراع. وفي الشرق الأوسط الكبير، ستكون واشنطن مهتمة فقط بالحفاظ على علاقات وسط-وسط صحية، بالرغم من التخفيض والتسامح مع وقف المباحثات والتركيز على تطوير درع صاروخي باليستي ضد إيران أو أي صواريخ أخرى. ومن الواضح أن التكنولوجيا والروبوتات عن بعد هي الآن سلاح الخيار في أميركا.
وتبعاً لذلك، نحتاج إلى أن نسأل أنفسنا: ماذا سيحصل للتواجد العسكري الأميركي في الشرق الوسط إذا تم تنفيذ الانعزال؟ وكم سيكون أثر ذلك على ميزان القوة العربي-الإيراني؟ ماذا سيحدث مع الناتو؟ وكيف سيتم النظر إلى الناتو في المنطقة، مع الأخذ في الاعتبار حقيقة أن معظم المسؤولين العرب يعتقدون بأن الولايات المتحدة هي الناتو؟ وهكذا، ثمة العديد من الأسئلة التي تتعلق بأثر التغاضي على السياسة الخارجية الأميركية وأولويات واشنطن الدولية التي تحتاج إلى استجابة من إدارة أوباما. صحيح أن الممارسات العدوانية والأحادية تقود في الغالب إلى مشاكل وحروب، لكن اللامبالاة وفرط الحذر يقودان أحياناً إلى استدعاء مشاكل وحروب غير مرغوب فيها. ينبغي السعي إلى أرض وسطى.
ترجمة: عبد الرحمن الحسيني
صحيفة الغد الاردنية