مصر تسلك طريق الديون الشائك من أجل مشاريع خدمية غير منتجة

مصر تسلك طريق الديون الشائك من أجل مشاريع خدمية غير منتجة

القاهرة – لا أحد ضد تطوير العشوائيات وبناء مساكن آمنة للفقراء، ولا خلاف على أهمية التنمية وزيادة جودة ورفاهية الحياة، شرط أن تكون ناجمة عن خطط واضحة وحصيلة محددة ونابعة من نمو اقتصادي حقيقي ورؤية سياسية بعيدة المدى.

لكن، يتحول الأمر إلى مخاطرة، حين تقدم دولة مثقلة بالأزمات مثل مصر، على رهن مشاريعها التنموية بسلسلة ديون تضيّق عليها الخناق على المدى الطويل. ولئن كانت الغاية من هذه الاستدانة تغيير واقع اقتصادي ضعيف فإنها تتحول إلى قنبلة موقوتة لأن هذه المشاريع تأتي على حساب أعباء اجتماعية، قد يفوق حطامها مكاسب تجميل سياسات الحكومة وشراء رضاء شعبي قصير الأجل.

يلفت المتابع للحالة المصرية الكثير من التصريحات التي تنذر بموجة ديون جامحة تسعى الحكومة للحصول عليها، لسداد أقساط ديون سابقة أو تحقيق وعود عجزت المشروعات الراهنة عن تمويلها، ما كاد يؤدي إلى مشكلات لها إفرازات سياسية، ربما يفضي الفشل في الحد منها إلى مشكلات ممتدة.

ولعل طلب مصطفى مدبولي، رئيس مجلس الوزراء المصري مؤخرا، من البنك الدولي إتاحة تمويل إضافي لدعم برنامج الإسكان الاجتماعي لمحدودي الدخل بقيمة 500 مليون دولار، لدعم المستفيدين من برنامج الإسكان الاجتماعي رسالة واضحة على تنويع مصادر الديون، ومحاولة لتخفيف أضرارها المستقبلية.

كانت القاهرة قد اتفقت خلال العامين الماضيين على الحصول على نحو 12 مليار دولار من صندوق النقد الدولي لإجراء إصلاحات اجتماعية عبر هيكلة سياساتها الاقتصادية لتصب في صالح محدودي الدخل، لكنها أخفقت ونالت من الفقراء.

مع اقتراب أُفُول نجم تمويل الصندوق وتسلم الحكومة آخر قسط من حزمة الإنقاذ في ديسمبر المقبل، أضحت القاهرة تسعى لتنويع مصادر قروضها، من جهات تمويل مختلفة، تارة من صندوق النقد، وأخرى من البنك الدولي، وثالثة من بنك التنمية الأفريقي، وغيرها من مؤسسات الإقراض الدولية.

سد الفجوات الاجتماعية
قامت الحكومة المصرية بالتوسع في سدّ الكثير من الفجوات الاجتماعية، وتبنّي مشروعات ليس لها عائدات اقتصادية، لتحقيق أهداف سياسية قبل تخفيف المعاناة. وتوسّعت في هذا المجال، ما جعلها ملزمة الآن بكسب رضاء المواطنين، لأن الشريحة الناقمة إذا فشلت في الحصول على مكاسب مادية، قد تتحول نقمتها إلى شرارة تفجر بعض القضايا السياسية.

بلغ حجم الدعم النقدي للمواطنين للحصول على وحدات إسكان اجتماعي من برنامج الدعم الحكومي نحو 3.2 مليار جنيه (180 مليون دولار).

ويرى البعض من المراقبين أن هذه النوعية من المشروعات جيّدة وتسد فجوة مجتمعية كبيرة، لكن مشكلتها أنها غير بعيدة عن الأهداف السياسية، فهناك تحرّكات لهندسة بعض المناطق الحيوية في مصر، لإبعاد الطبقات المهمّشة عنها، وجعلها قاصرة على توظيفها من جانب رجال الأعمال، وهو ما يؤدّي على المدى البعيد إلى زيادة جاذبية مدينة كبيرة مثل القاهرة، لكنه يثقلها بأعباء طبقية وسياسية.

وبدأت بعض الدوائر المعارضة تردد أن هدم المنطقة العشوائية المعروفة بمثلث ماسبيرو في وسط القاهرة، جاء على حساب ساكنيها من الفقراء لزيادة منافع الأثرياء، وتحوّل المشروع الاقتصادي الواعد إلى أزمة سياسية وطبقية. هكذا أصبحت المشروعات التنموية، وغالبيتها خدمية وغير منتجة للموارد، إلى مصدر إزعاج للحكومة حاليا، ويمكن أن تكون مصدرا أكبر في المستقبل، إذا ثبت أن الحكومة عاجزة عن سداد فوائد الديون.

210 مليارات دولار قيمة الدين في مصر، بنسبة ارتفاع تصل إلى نحو 15 بالمئة

يشبّه البعض تمادي الحكومة المصرية في الاقتراض بفترات اضطرت فيها بعض الأنظمة في دول مختلفة إلى التوسع في سياسات الاقتراض، ما جعلها عرضة لضغوط وابتزاز من جانب دائنين، أو تبني تصورات غير ملائمة لواقعها السياسي، وفي جميع الحالات كانت هناك خسائر تكبّدتها الحكومات التي أسرفت في الاعتماد على القروض.

وكشف لويك شاكوير، رئيس بعثة البنك الدولي بمصر، أن حجم التمويل الممنوح من البنوك وشركات التمويل العقاري للمواطنين لشراء وحدات سكنية بلغ نحو مليار دولار. وطلبت سحر نصر، وزيرة الاستثمار والتعاون الدولي، في زيارتها الأخيرة لواشنطن قرضا من البنك الدولي قيمته ثلاثة مليارات دولار لتعمير شبه جزيرة سيناء.

وانتقد مصطفى كامل السيد، أستاذ العلوم السياسية بجامعة القاهرة، اتجاه الحكومة الحالي وقال لـ”العرب”، “لو كنت مسؤولا في البنك الدولي لكان ردي على رئيس الوزراء بشأن القرض، أنني أبدي احتراما كبيرا لطلبكم، لكن أضيف من موقع المحب أن بلدكم مثقل بالديون الخارجية والداخلية والمشروعات المقترحة هي مشروعات هامة جدا، غير أنها خدمية لا تولد دخلا، وقطعا لن تولد دخلا بالعملة الصعبة، بالتالي فإنها ستثقل الاقتصاد بالمزيد من الديون”.

أهداف سياسية
أمام مصر فرصة لتمويل هذه المشروعات المهمة بتغيير أولويات إنفاقها، فبدلا من توجيه موارد ضخمة لبناء عاصمة إدارية جديدة في شرق القاهرة وعاصمة أخرى صيفية في العلمين شمال البلاد، يمكن توجيه هذه الموارد ليس فقط لتمويل الإسكان الاجتماعي ومشروع سيناء بل الاهتمام بالقاهرة التي تعاني كمدينة كبيرة وخصوصا آثارها الإسلامية الكثير من المشاكل.

وأضاف كامل السيد، “الاهتمام بالقاهرة يمكن أن يجلب لمصر ملايين من السياح ويوفر لها العملة الصعبة التي تحتاجها، مع المزيد من ترشيد الإنفاق والاهتمام بالاستثمار في القطاعات الإنتاجية، مثل الزراعة والصناعة والخدمات التصديرية، وهذا سيوفر عناء التوجه لمؤسسات دولية تحملكم أعباء لا تقدرون عليها”.

وألمح إلى أن هذه المشروعات لها أهداف سياسية خاصة بالنظام، وهو ما يعتبره كثيرون أيضا جوهر الأزمة في مصر، فقد طغت المرامي السياسية على غيرها من الأهداف الاقتصادية، فالحكومة تريد كسب ودّ الشعب، من دون تدارك العواقب الوخيمة للتمادي في الاقتراض.

ومع أن الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وجّه خلال فترة رئاسته الأولى وزيرة الاستثمار والتعاون الدولي بعدم التوسع في الاقتراض حماية لحقوق الأجيال المقبلة من أعباء الديون، إلا أن شحّ موارد البلاد دفع الحكومة إلى رفع سقف الاقتراض بلا حدود.

وأكد هشام إبراهيم، أستاذ الاقتصاد بجامعة القاهرة، أن زيادة الدين ترفع معها نسبة خدمته وبالتالي تستنزف موارد البلاد على حساب برامج الحماية الاجتماعية للفقراء التي سوف تنخفض، وتتراجع معها حزم الدعم المقدمة للمواطنين. وأضاف لـ”العرب” أن ارتفاع الديون يضر بجميع خطط التنمية في المجتمع ويتسبب في عدم عدالة توزيع الدخل، وصعوبة التوسع في برامج الحماية الاجتماعية.

وكلما ارتفعت نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، تسبب ذلك في ارتفاع الأسعار وتراجع الإنتاج، ما يصبغ المجتمع بالطابع الاستهلاكي وحدوث تدهور اقتصادي محتوم، وكلها ملامح سوف تكون لها انعكاسات سياسية على النظام الحاكم، قد تفرض عليه اللجوء إلى خيارات تكبده خسائر فادحة.

سجّلت ديون البلاد مستويات قياسية جديدة قبل بدء خطة الحكومة للسيطرة عليها، فبعد نحو شهرين من إعلان الحكومة أنها تعد خطة عاجلة للحد من الارتفاع المتزايد في الدين عبر تعظيم الإيرادات من خلال عدة محاور، وأعلن البنك المركزي مؤخرا استمرار ارتفاع الدين الداخلي والخارجي.

ولا توجد نية حقيقية للسيطرة على هذه الديون في ظل إعلان عن استعداد الحكومة للعودة إلى سوق الاقتراض الدولي من خلال طرح سندات دولية بقيمة متوقعة تصل إلى نحو 5 مليارات دولار وخطة أخرى لاقتراض نحو 20 مليار دولار من خلال هذه السندات حتى 2022.

وكشف تقرير حديث للبنك المركزي المصري ارتفاع الدين المحلي إلى نحو 210 مليارات دولار في نهاية يونيو الماضي بزيادة سنوية تقدر بـ30 مليار دولار وبنسبة ارتفاع تصل إلى نحو 15 بالمئة تقريبا.

ويتزامن الارتفاع مع الزيادة المستمرة في عجز موازنة البلاد واستمرار سياسة التوسع في الاقتراض من المؤسسات المحلية والأجنبية حتى وصلت الفائدة إلى نحو 19 بالمئة على مستوى أدوات الدين قصيرة وطويلة الأجل.

ورغم تباطؤ وتيرة ارتفاع الفائدة على الأذون والسندات التي تطرحها الحكومة، إلا أن تكلفة الدين مرتفعة في ظل ارتفاع أسعار الفائدة لدى البنك المركزي، وعدم القدرة على خفضها للحفاظ على أموال الأجانب والسيطرة على تضخم الأسعار.

ما يزيد الأمور سوءا أن مصر مطالبة خلال السنوات المقبلة بسداد نحو 65 مليار دولار، بدءا من العام المقبل وحتى 2028 والتي تعدّ أكبر عمليات سداد ضخمة للديون الخارجية.

تشكل هذه المبالغ المستحقة على مصر نحو 68 بالمئة من إجمالي الديون متوسطة وطويلة الأجل، على أن تتراجع وتيرة السداد في الأعوام التالية بعد هذه الفترة. وهذه الأرقام مبدئية وقد تخضع لتغييرات وفقا لاتفاقيات إعادة الهيكلة التي يقودها البنك المركزي، لكنها مرهقة جدا لاقتصاد يسعى للخروج من كبوته.

ويرى الخبير الاقتصادي خالد الشافعي، إن الظاهرة الأخطر التي تلوح في الأفق، بسبب تفاقم مشكلة الدين، هي عدم وجود تنمية شاملة في كل ربوع الدولة، تزامنا مع غياب المشروعات القادرة على تحقيق نهضة تعد المحرك للاقتصاد.

وأوضح لـ”العرب” أنه لا توجد آلية لزيادة مصادر الدخل للطبقات الكادحة ومحدودي الدخل، فضلا عن تزايد مشكلة البطالة وعدم توافر فرص عمل. لذلك ذهبت تقديرات كثيرة إلى أن التنمية في مصر تتم على حطام الديون وبدون سقف اقتصادي أو سياسي، ما يضع الحكومة تحت حزمة كبيرة من الضغوط، التي ربما تقود إلى أزمات مضاعفة

العرب