الأمن القومي.. عندما يكون ذريعة لانتهاك حقوق الإنسان

الأمن القومي.. عندما يكون ذريعة لانتهاك حقوق الإنسان

من المملكة المتحدة إلى المملكة العربية السعودية، تستخدم الدول مصطلح ” الأمن القومي” لتبرير حملات القمع ضد المعارضة السياسية.

وعلى الرغم من انتهاء قسم من قانون “باتريوت” الأمريكي في بداية هذا الشهر، فإن تأثير وإرث هذا القانون لا يزال مستمرًا في جميع أنحاء العالم، فبعد عام 2001، وضعت عشرات الدول في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية وأوروبا قوانين مكافحة الإرهاب؛ وأصدرت بعض الدول مثل المملكة العربية السعودية وكينيا والمملكة المتحدة بعض قوانين مكافحة الإرهاب المثيرة للجدل؛ بسبب خلطها الخاطئ بين الإرهاب والمعارضة السياسية.

غموض متعمّد

توجيهات حكومة المملكة المتحدة على قانون مكافحة الإرهاب والأمن، والتي دخلت حيز التنفيذ في فبراير من هذا العام، تشير إلى أن “المنظمات المتطرفة” و”الفكر المتطرف” دخلت بغموض متعمد تحت مسمى “الحرب على الإرهاب”. وهذا القانون، الذي لا يعرف ماهية الإرهاب يُدخل نفسه في عدد كبير من المجالات العامة، ويُفرض على المهنيين العاملين في المدارس والجامعات ونظام الرعاية الصحية بحجة”منع الناس من الانجرار إلى الإرهاب“.

إنّ حشد العاملين في القطاع العام من أجل مراقبة الأفراد على نحو فعّال على أساس العِرق أو الدين أو المعارضة السياسية، هو انعكاس تشريعي لقناعة رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون بأن المملكة المتحدة كانت “لفترة طويلة جدًا مجتمعًا متسامحًا بشكل سلبي، إذ قال “كاميرون” للمواطنين: طالما أنكم تمتثلون للقانون، سوف نترككم وشأنكم. هذه الحكومة سوف تطوي بشكل قاطع صفحة هذا النهج الفاشل.”

واعترض نافي بيلاي، المفوض الأعلى السابق لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، على تعريف الأمم المتحدة الغامض للإرهاب، واعترف في عام 2013 بأنّ ” عدم وجود تعريف واضح للإرهاب يعني أنه مفتوح لسوء استخدام جميع أنواع الأنشطة اعتمادًا على الطريقة التي ترى بها سلطة الدولة الوضع، ثم تأتي في إطار هذه الشبكة الواسعة من الإرهاب. كما أنّ تعريف المملكة المتحدة للإرهاب فضفاض وله نطاق واسع للغاية. “

وكما نعلم جميعًا، يتم تبرير ردود الدولة تجاه التهديدات الإرهابية في سياق “الأمن القومي”، ومفهوم الأمن القومي ليس حديثًا، لأنّه قدّم للدول القومية حجة مقنعة يمكن من خلالها ترشيد استخدامات السُلطة التنفيذية. ولأنه يميل إلى أن يكون ممزوجًا بالسيادة الوطنية نفسها، ويتم استدعاء مفهوم “الأمن القومي” لتجاوز الترتيبات الدستورية القائمة، ومنح السُلطة التنفيذية تفويضًا لاتخاذ إجراءات تعسفية وغير خاضعة للمساءلة. ولطالما استخدمت الدول الليبرالية إجراءات الأمن القومي، وكانت شائعة أيضًا بين الدول الغربية أثناء الحُكم الاستعماري. ولقد أُعيدت صياغة “الحرب على الإرهاب” إلى جانب عولمة العقلانية المسيطرة للأمن القومي، التي تؤثر في الحياة الاجتماعية والسياسية ككل.

الأمن القومي ليس بالمفهوم الجديد لكنه يعمل اليوم مع عقلانية جديدة، وعلى الرغم من هذا، كافح نشطاء المجتمع المدني من أجزاء كثيرة من العالم ضد الآثار المدمرة للأمن القومي على الأفراد والمجتمعات، وعلى الحياة الاجتماعية والسياسية بصفة عامة. وردود فعل الدول إزاء هذا النشاط يعني أن سُبل نشاط المجتمع المدني في أجزاء كثيرة من العالم اليوم حيث الأمن المعولم، مغلقة تمامًا.

خصائص مركزية

في عملها على “دولة الأمن القومي”، حدّدت كورينا مولين الخصائص المركزية لهذه الدولة، ومنها: “مركزية السُلطة في يد السُلطة التنفيذية، وعسكرة مختلف جوانب الحياة، وممارسات بوليسية واستخباراتية عنصرية كوسيلة للرقابة الاجتماعية والسياسية “. في مثل هذه الظروف، يصبح الجمهور والمؤسسات التشريعية (على الرغم من وظيفتها الأساسية وهي مساءلة الدولة) أداة للسُلطة.

ومن الأمثلة البارزة على تأثير إعفاءات الأمن القومي.. ما حدث في تونس في فترة التسعينات، عندما أصدر زين العابدين بن علي قانونًا قمعيًا بشأن حرية تكوين الجمعيات، ليضمن إدانة وتجريم غالبية المعارضين السياسيين. تلك التعديلات التي أجراها زين العابدين على قانون الجمعيات عام 1992 تعني أن أي جمعية يجب أن تعلن رسميًا وتسجل نفسها وفقًا لفئات معينة تحددها الحكومة، وأن تقبل بوجود مخبرين تابعين للحكومة كأعضاء داخل الجمعية، وأعقب ذلك حملات عقابية من القمع الذي تمارسه الدولة، وتدمير النشاط الإسلامي الشعبي، وفرض قيود صارمة على الحركات اليسارية، والنقابات العمالية وجماعات حقوق الإنسان، إلى جانب تجميد الحسابات المصرفية للنشطاء الذين خاطروا بإجراء عمليات خارج سيطرة الدولة، وإزعاج أسرهم، بالإضافة إلى الرقابة اليومية والاعتقال والتعذيب من قِبل الأجهزة الأمنية.

بعد عام 2001، استطاع زين العابدين بن علي وحسني مبارك تبرير قمع المعارضة السياسية باعتباره “مساعدة” في “الحرب على الإرهاب” بدعم صريح من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

كان خنق وحصار المعارضة السياسية في تونس أحد المظالم التي ثار ضدها التونسيون في انتفاضات 2010-2011، والتي شهدت الإطاحة بـ زين العابدين بن علي من السُلطة. ومنذ ذلك الحين قامت تونس بمجموعة من الإصلاحات السياسية، بما في ذلك إصدار دستور جديد في عام 2013 ومرسوم بقانون رقم 88 (2011)، الذي أصلح قانون الجمعيات القديم في عهد بن علي.

ومع ذلك، ظلت عقلانية وممارسات الأمن القومي في تونس كما هي. وردًا على الهجمات على المواقع العسكرية في جبال شامبي في عام 2014، أوقف رئيس الوزراء، مهدي جمعة، بشكل تعسفي وغير متناسب، أكثر من 150 جمعية (بما في ذلك المساجد) بزعم ارتباطها بالإرهاب، وذلك وفقًا لتقرير منظمة هيومن رايتس ووتش. وعلى الرغم من وعود التخلي عن قانون مكافحة الإرهاب التي أصدرها زين العابدين بن علي عام 2003، إلّا أنّ الحكومات التونسية منذ عام 2011 فشلت في تغيير ما يُقال أنّها الدعامة الأساسية للأمن القومي في البلاد. وفي مسوّدة منقّحة لقانون مكافحة الإرهاب في عام 2014، تم انتقاد منظمة هيومن رايتس ووتش بسبب “تعريفها الواسع والغامض للنشاط الإرهابي الذي يمكن أن يسمح للحكومة بقمع مجموعة واسعة من الحريات المعترف بها دوليًا“.

وعلى الرغم من أن كل دولة لديها مجموعة معينة من القوى التاريخية التي تقود ثقافتها السياسية، لكنّ “الحرب العالمية على الإرهاب” سمحت بالتزامن بين الدول في استخدامها للأمن القومي. وتم أنشأ مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مؤسسة عالمية لقانون مكافحة الإرهاب في 28 سبتمبر 2001، وأصدر بالإجماع القرار رقم 1373 (تطبيق أحكام القوة الملزمة من الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة لأول مرة)، التي تحدد الالتزامات المتجددة للدول الأعضاء بشأن قمع ومنع الإرهاب. ولقد كان مجلس الأمن يعمل باعتباره مشرّع العالم، ويضع قوانين للأمن العالمي يُلزم فيها الدول “بالعمل معًا لمنع وقمع الأعمال الإرهابية“. ومن خلال الدعوة إلى إجراءات متضافرة من المؤسسات الدولية (مثل الأمم المتحدة)، والهيئات الإقليمية (مثل الاتحاد الأوروبي والأفريقي) ومجموعة من الدول الشريكة، خلقت “الحرب على الإرهاب” عقلانية جديدة ضمن النظام الدولي.

سردية معولمة

اعتمادًا على سردية معولمة تكيفت بسهولة مع الظروف المحلية، قامت العديد من الدول في شمال وجنوب العالم بتجريم استهداف قطاعات معينة من المجتمع المدني بحجة “الحرب على الإرهاب”. وانتشرت “القوائم السوداء”، و”الحظر” و”النفي” للمنظمات والأفراد بزعم الإرهاب أو دعم الإرهاب. ولنضرب مثالين فقط، الجمعيات الخيرية الإسلامية مثل مؤسسة الأرض المقدسة والحركات السياسية مثل حزب العمال الكردستاني، تم تجريمهما من قِبل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، على التوالي.

وكان نشطاء المجتمع المدني في طليعة فضح انتهاكات الحروب الداخلية على الإرهاب، وكانوا يعملون في ظروف غير مستقرة، وفي بعض الأحيان دفعوا ثمنًا باهظًا لمعارضتهم. وفي حالات كثيرة، كانت الدول تتهم المنظمات والنشطاء بأنّهم  الخطر الحقيقي على الأمن القومي.

وفي عام 2013، اتهمت الشرطة التونسية المحامية إيمان التريكي، مديرة منظمة الحرية والعدالة لحقوق الإنسان (التي تأسست في عام 2008 من أجل الدفاع نيابة عن ضحايا القمع في عهد زين العابدين بن علي)، “بالتستر على الإرهابيين وحمايتهم.”

الناشط الكيني الأمين كيماثي، المدير السابق للمنتدى الإسلامي لحقوق الإنسان، اُعتقل عام 2010 في أوغندا، حيث سافر لمراقبة جلسات الاستماع في المحكمة للمتهمين الكينين الذين تم تسليمهم بشكل غير قانوني إلى أوغندا لمواجهة اتهامات تتعلق بتفجيرات كمبالا في يوليو عام 2010. وقضى كيماثي سنة في الحبس الانفرادي قبل إطلاق سراحه. وعلى الرغم من وضع الدستور الجديد في كينيا، لكن في الآونة الأخيرة تم استهداف منظمتين لحقوق الإنسان في مومباسا. وتُعرف منظمتا “مسلمون لحقوق الإنسان” و “هاكي أفريقيا” بتوثيقهما لعمليات القتل خارج نطاق القضاء والاختفاء القسري للمتهمين بالإرهاب من قِبل وحدة شرطة مكافحة الإرهاب في كينيا.

وردًا على الهجوم المأساوي على جامعة غاريسا في أبريل الماضي، أضافت الحكومة الكينية منظمة “مسلمون لحقوق الإنسان” ومنظمة “حاكي أفريقيا” إلى قائمة الجماعات المحظورة لعلاقتهما بالإرهاب وجمدت حساباتهما المصرفية. وعلى الرغم من دعوة نشطاء المجتمع المدني أن تعمل الحكومات في إطار المعايير القانونية الدولية، لكنهم دائمًا ما يجدون أنفسهم مستهدفين شخصيًا من قِبل القوانين والممارسات اللاقانونية التي يسعون إلى فضحها.

محادثة قديمة

اعتمادًا على هذا السياق، تأتي بعض برامج ترشيد الأمن القومي من محادثة قديمة حول دستور الدولة القومية الليبرالية.

في النصف الثاني من القرن السابع عشر، أكّد الفيلسوف الإنجليزي جون لوك  “قدرة الدولة على التصرف بتعقل وحذر، من أجل الصالح العام، دون فرض القانون وأحيانًا العمل ضده“. وكانت لا بد من أحكام خاصة لهذه “القوة التنفيذية”، كما يرى المحامي الفيلسوف مونتسكيو خلال الوقت الذي كانت فيه الدولة “معرّضة للخطر من قِبل بعض المؤامرات السرية التي تُحاك ضدها“.

قبل “الحرب على الإرهاب”، كانت العديد من الحريات السياسية والمدنية الأساسية، على الرغم من كونها محمية في مختلف المعاهدات الدستورية الدولية، خاضعة لأحكام خاصة لحماية الأمن القومي.

كان عدد مختار فقط من المحظورات المطلقة، مثل الحظر الدولي ضد التعذيب، خارج بند الأمن القومي. وعلى سبيل المثال، وتُعدّ حرية تكوين الجمعيات والمنظمات، المنصوص عليها في المادة رقم 22 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، المبدأ التأسيسي للدولة القومية الليبرالية الحديثة، ولكن، في الوقت نفسه، يمكن تقييدها قانونًا من خلال “النظام العام” والأمن القومي. وعلى الرغم من أنّ المبادئ الدستورية الليبرالية تشير إلى أنّ الدول سوف تخلق نوعًا من التوازن الدقيق بين الأمن والحقوق، لكن من الناحية العملية غالبًا ما تطغى أنظمة الأمن القومي على الضوابط والتوازنات.

وتشير الإجراءات الأخيرة التي تهدف إلى إنهاء نشاط المجتمع المدني إلى أنّ الدول تتبنى مفهوم الأمن القومي لقمع المعارضة السياسية. لذلك؛ يجب أن يواجه نشطاء المجتمع المدني ليس فقط ممارسات الأمن القومي ولكن حقيقة أن تلك الممارسات مدعومة بعقلانية الأمن المعولم اليوم؛ فمن خلال التركيز العالمي على الأمن، تستمر الدول في تقديم برامج شاملة من عنف الدولة كرد “عقلاني” للتهديدات المتصورة. وفي الوقت نفسه، تعاني المجتمعات الخاضعة للأمن من تدخل دائم وشامل في المجالات الاجتماعية والسياسية. وبالنظر إلى العقلانية المفترضة للأمن القومي، فمن الواضح أن نشاط المجتمع المدني في غاية الأهمية لفضح حقيقة ما تعنيه ممارسات الأمن القومي داخل الدولة.

التقرير