صباح جديد لشقاء معتاد، تستيقظ فيه صفية ثلاثون عامًا، تصحو على صوت أمها مرددة ” العربية هتسيبك وتمشى يا بنتى هِمِّى شوية”. صفية واحدة من آلاف عمال التراحيل، الذين يتعرضون لانتهاكات نفسية وبدنية، يجبرهم قصر ذات اليد على استغلال مواسم قطف العنب، لتتمكن من خلاله إعالة أسرتها ونفسها.
كانت رواية “الحرام” للكاتب يوسف إدريس، هي أكبر تجسيد لقسوة حياة عمال التراحيل، وهو ما عبرت عنه شخصية “عزيزة” عاملة التراحيل، التي جسدتها للسينما الشاشة “فاتن حمامة”، في فيلم مطلع الستينات. تظل قصة عزيزة التي تُضطر للخروج بحثا عن لقمة العيش لأبنائها ولزوجها المريض، عالقة في الأذهان. ورغم مرور أكثر من نصف قرن على الفيلم ما تزال المعاناة مثلما كانت في الغالب تزداد صعوبة، وعليهن مواجهة تحدياتها دون نقابات تدافع عن حقوقهن أو قانون عمل معترف بيهن، لكنهن متروكات لأقدار تتلاعب بها أهواء أصحاب العمل أو مقاولين/مقاولات الأنفار. كما أنّ أغلبهن متروكات في مزارع خاصة مغلقة يعملن بالساعات ولا ينلن سوى ساعة راحة، وكل ذلك من أجل يومية قد لا تتجاوز أل 50 جنيه (حوالي 2.79 دولار).
قانونيا، لا تتمتع العاملات بالزراعة بأي إطار تشريعي يضمن لهم الحماية القانونية اللازمة ويحد من استغلال أرباب العمل وسماسرة الأنفار لهن. فمثلا، نصت المادة 159 من قانون العمل رقم 137 لسنة 1981 على استثناء العاملات في الزراعة من أحكامه. وعلى الرغم من أن قانون العمل الموحد الجديد رقم 12 لسنة 2003 -الذي ألغي العمل بالقانون رقم 137 – قد أنصف المرأة في كثير من مواده إلا أنه أبقي على استثناء عاملات الزراعة بالمادة 79 منه.
هذا الاستثناء يمثل ظلماً بيناً لهذه الفئة مما يعبر عن عدم الاعتراف بالحقوق الواجبة للنساء العاملات في قطاع الزراعة. وتتفاقم المشكلة بسبب حقيقة أن العمال المهاجرين، بوصفهم عمالاً غير منتظمين، يفتقرون إلى الحق في الانتماء إلى منظمة حكومية، مثل نقابة عمالية، تضمن لهن حقوقهن.
تتفاوت الإحصاءات الخاصة بفئة عمال التراحيل، ولعل أكثرها دقة ما جاء في تقرير مركز الأرض الحقوقي منذ عامين أن عدد عمال الترحيل، بلغ خمسة ملايين.
و كشف تقرير مركز الأرض أن عاملات التراحيل يعانون من عدم الاستقرار في فرص العمل، نتيجة موسمية العمل الزراعي، كما يعانون من استغلال مقاولي الأنفار، وانخفاض الأجور الحقيقية عن باقي العاملين بأجر، حيث تتعرض عاملات التراحيل للتميز والاستغلال في ما يتعلق بالأجور، فمتوسط أجر المرأة والطفل يمثل نحو 35% و30,5% على التوالي من متوسط أجر الرجل.
وقد أدى الاعتماد المتزايد على الآلات الزراعية في عمليات تجهيز الأرض والري إلى التقليل من فرص عمل النساء ووضعهم تحت ضغوط وشروط عمل قاسية، أضف إلى ذلك تدهور أوضاعهم المعيشية وتعرضهم للإصابات وغياب أي ضمانة قانونية أو تأمينية أو صحية و بدلات وحوافز وعلاوات.
تتعرض عاملات الزراعة أيضا إلى العديد من الأخطار الصحية، فتعرضهن للكيماويات باستمرار دون أدنى إرشاد صحي أو زراعي يترك أثاره على صحتهن، وكذلك لأمراض الصدر من تعرضهن للأتربة والغبار واستنشاق المواد الكيماوية، كما يصبن بأمراض الكبد والكلى والبلهارسيا، بالإضافة لأمراض الفقر وهي أمراض سوء التغذية مثل نقص الحديد في الدم. وفى هذا الصدد، يشير تقرير مركز الأرض إلى تدهور أوضاعهن الصحية، و إصابة أكثر من 40% منهن بالأمراض الناتجة عن نقص السعرات الحرارية والبروتين، أو مرض السل للعاملين والعاملات منهم في مزارع الياسمين بدون اتخاذ المتطلبات الصحية المفترضة.
تتعرض عاملات التراحيل أيضا للعديد من الانتهاكات المتمثلة في التحرش الجنسي الأمر الذي نتج عنه العديد من قضايا الاغتصاب. خاصة وهن متروكات فريسات لأهواء أرباب العمل والمشرفين عليه دون مظلة قانونية تحمى حقوقهن وحياتهن. وفى هذا الصدد، قالت ” ف- ر” عاملة تراحيل تبلغ من العمر تسعة عشر عامًا: أنها تعرضت شخصيًا لتحرش من رئيس العمال، وابتزاز وتهديد بتسريحيها من العمل مالم أتخضع لأوامره، مما دفعني إلى ترك العمل والتحقت بعمل مماثل رئيسته أنثى تجنبًا لمواقف مشابهة.
إضافة إلى ذلك، تتعرض عاملات التراحيل لمعاملة غير أدمية وخطيرة في وسائل المواصلات حيث يتكدسن رجال وسيدات في عربة نصف نقل، وسائق يقود بسرعة جنونية ليقطع المسافة في أقل وقت ممكن حتى يتمكن من العودة لنقل حمولة ثانية، وقد قد ينتهي الأمر بحادث جسيم يتعرض فيها هؤلاء النساء للإصابة أو والموت. وفى هذا الإطار، يكشف تقرير مركز الأرض انه في الفترة من يناير 2016 حتى سبتمبر 2016. قتل 79 عاملا زراعيًا ما بين عمال وعاملات بالغين، وفتيان وفتيات، وإصابة 190 آخرين وكان ذلك بسبب حوادث الطرق لسيارات ومعديات متهالكة وغير صالحة للاستخدام.
إن تخفيف معاناة عاملات التراحيل يتطلب تضافر الجهود والتنسيق المستمر بين جميع المؤسسات المعنية وأصحاب المصالح من وزرات حكومية، ومؤسسات قضائية وتشريعية، وإعلامية ومنظمات مجتمع المدني. ومن ثم، ينبغي على منظمات المجتمع المدني المهتمة بشؤون المرأة خاصة المرأة الريفية أن تهتم بتلك الشريحة المهملة وذلك من خلال تصميم حملات دعوية تتواصل مع صناع القرار والمشرعين بغية إبراز معاناة هؤلاء النساء.
كما يجب على الدولة أن تفسح المجال أكثر للجمعيات الأهلية المصرية للتوسع في هذا النوع من البرامج وأن تسمح لها بالتعاون مع هيئات الدولة المختلفة ضمن ضوابط تحددها احتياجات التنمية. كما يجب أن تتبنى المؤسسات الإعلامية تلك المشكلة وتعمل على ترويجها لخلق رأى عام مناصر لتلك الشريحة المهمشة من المجتمع. ومن ثم، يجب أن تثمر المحصلة النهائية لتلك الحملات عن الخروج بمشروع قانون يمكن أن يساهم في ضمان حقوق عاملات الزراعة، بما فيهم عاملات التراحيل. ونظرا لأن عاملات التراحيل يفتقرن إلى الدعم المؤسسي حتى الآن، هناك الكثير مما يمكن تحقيقه من قبل الدولة والمواطنين لتحسين معيشة تلك القوى العاملة المهمشة.