عندما تفشل المجتمعات في الخروج من ازماتها، فان امرا يتعلق بمنظومتها السياسية والحركية يتطلب المراجعة والنقد، وصولا للتغيير الذي من شانه معالجة الخللات. ولعلنا نقف اليوم في العراق امام ظاهرة تكشف عن ازدواجية عميقة في التعاطي مع الاحداث، تعيشها الطبقة السياسية الحاكمة بموافقها المتباينة، ممثلة في القفز على المصالح، من خلال مقاومة فكرة ما او رفضها، وان كانت تحمل في طياتها مصلحة وطنية.
وتبدأ القصّة، مع اعتراض قوى سياسية عراقية شيعية على شخصية السفير السعودي ثامر السبهان، الذي أعلنت السعودية قبل أيام تعيينه سفيراً في بغداد، بحجة خلفيته العسكرية، معتبرة أنه “لا تنطبق عليه الشروط الدبلوماسية”. والاشكاليّة التي تتلبس هذه القوى تعبر عن تعصب يعجز معه فهمهم لمتغيّرات الواقع السّياسي وتحديات الوطن، انطلاقا من مواقف ايديولوجية فجة، تؤطرها التابعية لطرف اقليمي، يريد تسيير بوصلة العملية السياسية في البلاد خدمة له لتبقى الأمور جيّدة بالنّسبة لهم، ما دامت العلاقات العربية –العراقية على حالها.
ويفهم هذا الجدل الجديد حول السفير السعودي، بوصفه موقفا مدفوعا بنزعة قوى سياسية تريد وضع المملكة العربية السعودية في دائرة الاعداء، وتحديداً في بعدها “الطائفي”، كما تحاول بعض خطابات القوى الشيعية تصويره، والتي تعرف عن نفسها من خلال هوياتها المذهبية، التي تغلغلت في ثقافة المجتمع، محولة المسار المجتمعي اتجاه الانتماءات الفرعية. وهذا يتجلى مع تصريحات أبو مهدي المهندس الرجل الثاني في ميليشيات الحشد الشعبي الذي هاجم السعودية واتهمها بدعم الارهابيين.
ولكن ثمة معارضات اخرى رافضة، تعبر عن تيار شيعي في التحالف الوطني يتزعمه نوري المالكي نائب رئيس الجمهورية حول السفير السعودي، مترافقا مع نشر وسائل الإعلام الإيرانية وبتوجيهات عليا، تقارير عن خلفية السبهان وتاريخه العسكري، والزعم بان السبهان متورط في تبني “جبهة النصرة في سوريا”. مؤكدة “إن من حق العراق ووفقا للقوانين والأعراف الدبلوماسية أن يرفض هذا السفير ويطالب السعودية بتعيين سفير آخر مكانه، كما أن من حق السعودية الا تحتج على الاعتراض العراقي”.
ولعل الاندفاعة الايرانية هذه، حيال رفض إعادة تطبيع العلاقات السعودية- العراقية، دفعت العديد من المتابعين والمحللين الى التساؤل، ما اذا سيشغل السبهان منصب سفير معتمد في طهران ام بغداد؟ أو كأنه السفير الوحيد في العالم الذي يأتي من خلفية عسكرية.
فالسفير الايراني السابق حسن كاظمي قمي، قيادي في قوات القدس التابعة للحرس الثوري الإيراني, وهو اول سفير لبلده في العراق منذ الثمانينيات من القرن الماضي، عمل سابقاً في لبنان وفي أفغانستان, اذ كان قنصلاً عاماً في مدينته “هرات” الأفغانية, حتى طلبت السلطات هناك من ايران سحبه بسبب نشاطاته المغايرة لوضعه الدبلوماسي, فعاد الى طهران ليُرسل الى بغداد التي كانت توصلت الى اتفاق في ايلول 2004 مع السلطات الإيرانية على تسميته سفير لها في العراق .اما السفير الايراني الحالي حسن دنائي فر فهو أحد الضباط البارزين في فيلق القدس، وكان يعمل في حرس الثورة الإسلامية ومسؤول علاقات بين الحرس والأحزاب الشيعية المعارضة التي كانت في إيران.
فرضية اخرى مكملة تفسر التجاذب والشد في الموقف العراقي حيال السعودية، إذ تأتي المنافسة السياسية بينهما في سياق صراع تاريخي بين العربية السعودية وإيران فيما يعرف إعلاميا بـ”الصراع السني- الشيعي” والذي اتخذ من سوريا لبنان والعراق مسرحا له. ولعل الدعم السعودي الذي قدم للعبادي، يهدف في احد جوانبه الى تجاوز سوء إدارة التنوع، الذي اوصل العراق إلى التنازع السياسي والاهلي، وصولا لنزع فتيل الغضب والحرمان في العراق الذي يساعد على تكوين البيئة الحاضنة للإرهاب.
وفي غضون ذلك، حاول الامريكيون تحديدا، وفي مقدمتهم نائب الرئيس جو بايدن التقريب بين البلدين، املا منه باستجابة من المالكي، والذي كان يحظى بدعم امريكي-ايراني مكنه من تولي منصب رئاسة الوزراء رغم تقدم القائمة العراقية بقيادة اياد علاوي عليه وإلحاق الهزيمة بحزبه “دولة القانون” .
المنطق القائم على التنافس يجعل إيران تحافظ على سطوتها في العراق، بعد ان نجحت في ابعاد العرب عن المشهد السياسي، وبالتالي فان وجودا دبلوماسيا سعوديا، هو امر غير محبذ به بالنسبة لها، ما يتطلب اجهاض عملية التقارب بين الطرفين. خصوصا ان سياسات رئيس الوزراء السابق نوري المالكي ابقت العلاقات مع السعودية على حافة الانفجار، حيث اتهم الرياض اكثر من مرة بتبني “دعم الإرهاب” في المنطقة والعالم. ثم لتزداد تلك العلاقة توتراً بعد تأييده لنظام بشار الأسد، وإطلاقه يد الميليشيات، ليستتبعها مهاجمة ساحات الاعتصام في الحويجة والفلوجة وقتل العشرات من المعتصمين.
وهنا يبرز انحياز الساسة الشيعة لإيران، وما يمكن التدليل عليه ايضا تأكيدات وزير الخارجية إبراهيم الجعفري وعدد من نواب التحالف الوطني، على أن إعادة تطبيع العلاقة مع الرياض لن تكون على حساب طهران. يكمل ما تقدم تصاعد الاتهامات العراقية الموجهة الى الرياض مع بداية ظهور تنظيم “الدولة الاسلامية” الذي استولى على مناطق واسعة من سوريا والعراق، بالوقوف وراء التنظيم ودعمه بالأموال والعتاد والبشر. وهي اتهامات تفسر على خلفية الخلاف بين البلدين فيما يخص الأزمة السورية، ففي الوقت الذي انخرطت فيه السعودية بطريقة قوية في مسلسل الإطاحة ببشار الأسد، اختارت بغداد أن تتحالف مع نظام الاسد في محاولة رفع الضغط عن دمشق والسماح لها بالإفلات من الحصار الإقليمي، وتوافقا مع الموقف الايراني الذي ينظر الى سقوط الاسد خطا احمرا ومتغيرا مهما في سياسته الخارجية.
وبحسب معلومات استخباراتية وردت لمركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية، فان “حزب الله” اللبناني، دخل على خط حملة الضغط الايرانية على الحكومة الحالية لرفض السفير السعودي، وذلك على خلفية دوره في سفارة المملكة في بيروت، والذي كان معرقلا لمساعي الهيمنة الإيرانية على لبنان. ومن جهة اخرى فان ميليشيات موالية لإيران ومنها “كتائب حزب الله” العراقي اعلنت انه في حال تسلم السفير السبهان منصبه في بغداد فسيكون “لنا حديث آخر”، ملوحين بإثارة أوساط الشيعة المرتبطين بالتنظيمات المسلحة، ويغمزون من طرف خفي بان اقتحام السفارة أمر وارد أمام ضعف الحكومة وتبعية مسؤوليها لسلطة الميليشيات.
وفي الوقت الراهن ترحب واشنطن بعودة العلاقات السعودية-العراقية، في محاولة منها لكسر التسيّد الايراني على بغداد، واعادة العراق الى حاضنته العربية، وسحبه من المعسكر الإيراني الروسي الداعم للأسد، اضف الى ذلك سيكون للمملكة العربية السعودية دور مهم وفعال في العراق لجهة التخفيف من التوترات الطائفية، فضلاً عن دعم شخصيات سنية، لجهة تشكيل نخبة سياسية قادرة على إدارة القوى السنية في البلاد، بعد نجاح المالكي في إسقاط غالبيتها شعبياً أو سياسياً. وبالتالي فان فراغ القوة والمعنى الذي يعانيه السنة، افسح المجال امام “داعش” لتشغله، ويمكن للدور السعودي في العراق صناعة انتظام سني، يخفف من تبعات تهميشه ووصمه بالإرهاب.
ومع هذا، فان زيارة الرئيس العراقي فؤاد معصوم إلى المملكة العربية السعودية مؤخرا تعد محطة هامة في مسار العلاقات بين البلدين، بعد مرحلة من التحدي والقطعية منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003، سببها تقاطع رؤى الطرفين حيال ادارة الازمات الاقليمية، بعد ان تمكنت إيران من ان تؤثر في خيارات بغداد السياسية على نحو كبير، ومن منطلق التنافس الايراني السعودي على قيادة العالم الاسلامي.
ومن وجهة نظر سعودية، فان تشكيل حكومة حيدر العبادي في الثامن من سبتمبر/أيلول الماضي، يعد لحظة تأسيسية لإقامة نظام سياسي عراقي غير طائفي، والتخلي عن دعم الأسد ولو سياسيا، وتحقيق مطالب العرب السنة، والتخفيف من حدة الصراع مع ايران والذي يكاد ان يكون صفريًا جيوسياسيًا إذا وضعنا رؤيتي الطرفين تجاه منطقة الخليج العربي في الاعتبار، إذ كلاهما يسعى لبسط نفوذه في الاقليم، ليصطدم بذلك مع سعي الآخر بنفس الاتجاه.
ويتعين على رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي استغلال الفرصة السانحة لإعادة ترميم العلاقات السعودية –العراقية، وتجاوز النهج السابق، الذي جعل من المالكي سياسيا معزولا ومنغمسا بنفسه ولنفسه، ويسعى إلى المزيد من السلطة، وينجح بإرادته البحتة، وبالاستناد الى طرف خارجي سلمه مقدرات الادارة ومكنه من الاستحكام بالمشهد العراقي على نحو شبه مطلق.
ولاشك فان العبادي يدرك جيدا ان العراق تاريخياً واستراتيجياً جزء فاعل من العالم العربي، وخروجه من المظلة العربية، يعني بقاء القرار السياسي بيد غير العراقيين، وهو امر شاذ يقوض استقلاليته ويحد من دوره ومكانته العربية، وليست الخطوة السعودية في فتح سفارة في بغداد الا مبادرة إيجابية ورسالة واضحة أن الرياض تدعم عراقاً عربياً موحداً وقوياً، تديره حكومة معتدلة ومنفتحة وذات سياسات عقلانية.
هدى النعيمي
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية