وتجلّت التجربة الديمقراطية الجديدة في مشاركة جميع ألوان وأطياف العمل السياسي: من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين، من الإسلاميين المحافظين إلى العلمانيين المتشددين، أكراداً وأرمن وقوميين متطرفين. جميعهم تنافسوا لإعادة تشكيل خارطة سياسية جديدة، يحكمها دستور انقلاب عام 1980 الذي يُرجّح ألا يتمكن أردوغان وحزبه من تغييره قريباً، للانتقال إلى ما يُسمّيه “تركيا الجديدة” بنظام رئاسي، يلغي مفاعيل دستور1982م.
يُمكن اختصار النتائج بمعطيين رئيسيين: إنهاء حقبة حكم الحزب الحاكم منفرداً، ودخول مولود سياسي جديد إلى البرلمان كحزب رابع، هو حزب “الشعوب الديمقراطي”، والذي لم يعد جناحاً سياسياً لحزب “العمال” الكردستاني حصراً، بل فتح أبوابه ليضمّ “كل مهمّشي الجمهورية الكمالية”، من مثليين جنسيين، وأكراد إسلاميين، وأرمن، وسريان وأشوريين وشيوعيين أتراك.
أوصل “الشعوب الديمقراطي” 80 نائباً إلى البرلمان بنسبة 13 في المائة من الأصوات الموزعة على مختلف أرجاء الجمهورية، مع تحقيقه أرقاماً عالية في الشرق وجنوب الشرق الكردي، ليشكل المفاجأة الأكبر، والتي من شأنها أن تغيّر معطيات كثيرة في السياسة التركية.
ويختصر أحد النواب الجدد في البرلمان عن حزب “العدالة والتنمية”، رفض الكشف عن اسمه، لـ”العربي الجديد” النتيجة قائلاً، إن “الديمقراطية التركية ربحت، ومع أننا جئنا بالمركز الأول، لكننا خسرنا”. وعلى الرغم من أن “العدالة والتنمية” حافظ على المرتبة الأولى، بـ 40.7 في المائة من الأصوات، مع فوز 258 نائباً من أصل 550 (كان لديه 327 نائباً في 2011)، إلا أنه تراجع بثماني نقاط عن الانتخابات السابقة. وهو ما يحمّل كثيرون أردوغان شخصياً مسؤوليته، على اعتبار أنه قرّر التصرف كرئيس للحزب لا للجمهورية فحسب، خلال الحملات الانتخابية، وأثار مخاوف فئة كبيرة من “المترددين” أو الناخبين العائمين غير المسيّسين، ممن أبدوا خشيتهم من خطاباته وأدبياته الأخيرة.
وعلى هذه الأساس يبدو الوضع السياسي مربكاً جداً، وفق ما أكده أحد الوزراء في الحكومة الحالية، والذي رفض الكشف عن اسمه، لـ”العربي الجديد”، قائلاً “لم يكن في بالنا أن تكون النتيجة بهذه الدرجة من السوء، كان خيار الحكومة الائتلافية موجوداً، لكننا لم نفكر به ملياً، وليس لدينا أي خبرة في تكوين هذه الحكومات، لكن لا أستبعد خياراً كهذا”.
إلا أن سيناريوهات الحكومة الجديدة تبدو أقلّ تعقيداً من الانتخابات المبكرة. باتت خيارات “العدالة والتنمية” في التحالفات محدودة، تكاد تقتصر على الحزب اليميني القومي المتطرف، “الحركة القومية”، والذي قد يستغلّ الأمر لفرض أجندته، كتجميد عملية السلام مع الأكراد أو عرقلتها وتأخيرها، خصوصاً بعد إعلان زعيم “الشعوب الديمقراطي”، نجم السياسة التركية الجديد، صلاح الدين دميرتاش، أن “حزبه سيبقى في المعارضة”. حاله كحال زعيم “الشعب الجمهوري”، أكبر أحزاب المعارضة، الكمالي العلماني، كمال كلجدار أوغلو.
وبدا زعيم الحركة القومية دولت بهشلي مراوغاً في رده حول الأسئلة عن احتمال دخوله في ائتلاف حكومي من عدمه، فقال إن حزبه “مستعد لتأدية دور المعارضة في البلاد، حال تشكيل ائتلاف حكومي بين الأحزاب الأخرى الفائزة”. وفي معرض رده على سؤال حول احتمال تشكيل حكومة ائتلافية، قال بهشلي متهكماً: “يمكن لحزب العدالة والتنمية أن يستمر في ائتلافه الذي أقامه مع حزب الشعوب الديمقراطي، أما الاحتمال الثاني لهذا الائتلاف، فيمكن أن يكون بين ثلاثتهم: العدالة والتنمية، والشعب الجمهوري والشعوب الديمقراطي، وعندها سنكون على أتم الاستعداد للعب دور حزب المعارضة الرئيس”.
ووسط هذه المعمعة لا تنعدم الخيارات، بل طُرحت أسئلة جديدة حول إمكانية تقديم موعد المؤتمر الخامس لـ”العدالة والتنمية” المُقرر عقده في سبتمبر/أيلول المقبل، وإمكانية إعادة انتخاب قيادات جديدة من أجل الإعداد للانتخابات المبكرة. غير أنه اعتماداً على الشخصيات التي كانت مرشحة لقيادة “العدالة والتنمية”، قبل صعود أردوغان للرئاسة، فإنه لا يوجد أي منافس لداود أوغلو في حال أراد البقاء.ويعود السبب إلى تقاعد معظم “الحرس القديم” لتواجدهم أكثر من ثلاث دورات في البرلمان، مثل بولنت أرينج وعلي شاهين وبشير أتلاي، أما علي باباجان نائب رئيس الوزراء للشأن الاقتصادي، فلا يحق له الترشح هو الآخر، لتجاوزه أيضاً حاجز الدورات الثلاث، إلا عبر كسر القواعد الحزبية.
ولا يبدو أيضاً نائب رئيس الوزراء الحالي نعمان كورتولموش، قادراً على إنقاذ “العدالة والتنمية”، أما بينالي يلدرم وزير الاتصالات السابق المقرّب من أردوغان، فلا يختلف عن شخصية الأخير، ولا يبدو مناسباً في المرحلة. وفي ظلّ هذه الظروف، يبقى رئيس الاستخبارات الحالي حاقان فيدان، أحد المرشحين، على الرغم من عدم إدراك قدراته في قيادة الحزب وإلقاء الخطب وجذب المواطنين، مما دفع بعضهم إلى إعادة استحضار اسم رئيس الجمهورية السابق عبد الله غول مرة أخرى، رغم أن عودته للسياسة تبدو حتى الآن أمراً مستبعداً.
وبالعودة إلى أبرز النتائج ومعانيها، فإنّ “شيخ المعارضة” الكمالية، “الشعب الجمهوري”، حافظ على نسبة الأصوات التي كان قد حصل عليها في آخر استحقاقين انتخابيين وهي 25 في المائة، وخسر ثلاثة مقاعد نيابية ليحصل فقط على 132 مقعداً. الأهم برأي كثيرين، أن انتخابات 2015 شهدت صعوداً لممثلين عن معظم الطبقات المهمشة في البلاد، فعن الأرمن وصل ثلاثة نواب، من بينهم عضو اللجنة المركزية لـ”الشعوب الديمقراطي” غارو بايلان، والكاتب ماركار إسيان عن “العدالة والتنمية”، والمحامية الأرمنية سيلينا أوزوزون دوغان عن “الشعب الجمهوري”.
كذلك وصل إلى البرلمان أوزجان بورجو، أول نائب غجري في تاريخ الجمهورية عن “الشعب الجمهوري” في مدينة إزمير، بالإضافة إلى سبعة صحافيين، أصبحوا نواباً عن مختلف الأحزاب. وارتفع عدد النائبات في البرلمان من 79 نائبة إلى 96 نائبة، منهن 41 عن “العدالة والتنمية”، و31 عن “الشعوب الديمقراطي”، و20 عن “الشعب الجمهوري” وأربع نائبات عن “الحركة القومية”.
كذلك أعادت نتائج الانتخابات اليسار التركي لاعباً رئيسياً في الحياة السياسية التركية، بعد حقبة استمرت لأكثر من 12 عاماً، كان فيها اليمين هو المسيطر سواء اليمين الإسلامي بزعامة “العدالة والتنمية”، أو القومي بزعامة “الحركة القومية” و”الشعب الجمهوري”، قبل المراجعة الكبيرة التي قادها زعيم الأخير، بالتحوّل نحو اليسار ممثلاً لتيار “اليسار الديمقراطي”.
وأعادت الانتخابات أيضاً الأكراد إلى حضن الجمهورية التركية بشكل نهائي، وذلك بعد نجاح الجناح السلمي في “العمال” الكردستاني، ممثلاً بـ”الشعوب الديمقراطي”، في تطبيق مراجعات زعيم “العمال” عبد الله أوجلان. بالتالي لم يعد الحزب ممثلاً للأكراد فحسب، بل أصبح ممثلاً للأتراك جميعاً، ولم يعد هدفه الدفاع عن حقوق الأكراد، بل الوصول إلى الحكم وتكوين الحكومة لوحده، وفقاً لما أكده زعيمه صلاح الدين دميرتاش.
وكان دميرتاش قد أعلن مساء الأحد، أنه “سنبقى في المعارضة، وهدفنا سيكون في الانتخابات المقبلة الوصول إلى أغلبية برلمانية وتشكيل الحكومة لوحدنا”. وسيفرض هذا الهدف تعميق مراجعات أوجلان ومحاولة إرضاء للناخب التركي وابتعاداً أكبر عن المفهوم التقليدي لـ”كردستان التاريخية الكبرى”، مما قد يجعل الحزب في صدام مباشر مع من صوّت له من القوميين الأكراد في تركيا، ممن لم يستوعبوا بعد مدى التحول الذي طرأ على الحزب. كما ستفرض المرحلة المقبلة على الحزب إعادة ترتيب العلاقة مع بقية أكراد المنطقة، مثل إقليم كردستان العراق وسورية.
أما عما يمكن اعتباره “خسارة” لـ”العدالة والتنمية”، فتتركّز الأسباب، بحسب مراقبين، على ما سموه بـ”تسلّط أردوغان”، في ظلّ الحديث عن المشاكل داخل الحزب بين أردوغان ورفيق دربه بولنت أرينج وداود أوغلو، فضلاً عن تخلي أردوغان عن الدور الحيادي لرئيس الجمهورية الذي رسمه له الدستور.
ويُمكن القول أيضاً إن خطاب “العدالة والتنمية” ابتعد عن خطاب مرحلة التأسيس، بوصفه تمرّداً على أدبيات حركة “ميلي غروش” أو “الرؤية القومية” بقيادة نجم الدين أربكان. وبعد أن كان يُطلق “العدالة والتنمية” على نفسه اسم “المحافظين الليبراليين” الذين عملوا على تطبيق إصلاحات ديمقراطية على الطريقة الأوروبية، أصبح في الفترة الأخيرة يقود خطاباً قومياً متشدداً، بلغ ذروته في الانتخابات الحالية.
ويعود السبب إلى تراجع أردوغان عن عملية السلام، واتخاذه مواقف قومية أملاً في جذب أصوات حزب “الحركة القومية”، فخسر أصوات المتدينين الأكراد، ووضع “الشعوب الديمقراطي” في موقف المظلوم، تحديداً بعد الهجمات المتكررة على مقارّه، وكان آخرها هجوم على أحد حشوده الجماهيرية في ديار بكر.
أكثر من ذلك، بدا أردوغان وكأنه لم يعِ مدى المراجعات والتغييرات التي طرأت على خطاب المعارضة، بانسحابها من النقاشات والصدامات على الهوية بين متدينيين وعلمانيين. وتناسى مدى التقدم الذي حققه حزبه عبر الإصلاحات التي طبّقها، وساهمت في حل عقدة المظلومية الخاصة بالمتدينين الأتراك، متمثلة بالعلاقة مع العدو الكمالي، والذي لم يعد له وجود بعد إنهاء نظام الوصاية وضُرب بـ”بالدولة العميقة”، ليستمر أردوغان في تكرار خطاب المظلومية القديم، الذي أوصله إلى الحكم، مركزاً على صراعٍ لم يعد له وجود بين “متدينين مظلومين وعلمانيين فاشيين”.
مع ذلك، يدين الجميع لحزب “العدالة والتنمية” بأنه أوصل البلاد إلى مرحلة العمل الديمقراطي المدني المتفلّت من سلطة العسكر وباقي مؤسسات “الدولة العميقة”، وحكم لمفرده لأكثر من عقد كامل، قبل أن يعود ويجد نفسه في خانة المضطرّ إلى العمل مع الآخرين من جديد.