في خطوة مفتجئة قرر الرئيس الأمريكي دونالد ترمب سحب القوات الأمريكية من سوريا، وفي تغريدة بـ«تويتر» قال ترامب: «هزمنا (داعش) في سورية وكان ذلك السبب الوحيد لوجود قواتنا هناك أثناء فترة رئاستي». وفي وقت سابق قال مسؤولون أميركيون لـ«رويترز» إن الولايات المتحدة تبحث سحب كل قواتها من سورية مع اقترابها من نهاية حملتها لاستعادة كل الأراضي التي كان يسيطر عليها تنظيم «داعش»، كما نقلت صحيفة «واشنطن بوست» عن مسؤول عسكري أميركي إن «إدارة ترامب قررت سحب جميع القوات الأميركية من سورية»، وكشف المصدر أن القرار اتخذ يوم الثلاثاء، وأن «سحب كل القوات الأميركية من سورية سينفذ في أسرع وقت ممكن»، وذكر أن ترامب أصر على انسحاب فوري، ورفض عرضاً لانسحاب منظم بعد فترة الوقت، لكن مصدراً في وزراة الدفاع الأميركية (بنتاغون) أكد أنها ستواصل العمل مع شركائنا في المنطقة.
وشكل قرار ترمب مفاجأة لحلفائه السوريين والإقليميين والدوليين والمسؤولين في الإدارة الأميركية من جهة، وخصوم واشنطن في سوريا والشرق الأوسط والعالم من جهة أخرى. غالباً ما كان المسؤولون الأميركيون يتركون هامشا في قراراتهم المتعلقة ببقاء القوات الأميركية شرق نهر الفرات ومنبج شمال شرقي حلب وفي قاعدة التنف في زاوية الحدود السورية – العراقية – الأردنية، لاحتمال حصول مفاجأة من الرئيس ترمب باعتباره صاحب القرار الأخير. لكن قرار أمس لم يخل من عامل المفاجأة لأنه تحدث عن «انسحاب كامل وسريع» من دون أي تنسيق مع المؤسسات العسكرية الأميركية والشركاء في التحالف الدولي ضد «داعش» والحلفاء المحليين في «قوات سوريا الديمقراطية» والإقليميين والدوليين. وتحتفظ واشنطن بنحو ألفي عسكري في شمال شرقي الفرات ينتشرون مع قوات «قسد»، وقدمت دعماً جوياً وبرياً في محاربة «داعش»، وشيدت بعض المطارات والقواعد العسكرية في مناطق شرق الفرات، إضافة إلى قاعدة التنف قرب المثلث الحدودي بين سورية والعراق والأردن.
سياسيًّا إذا كان القرار منسجما مع برنامج ترامب السياسي فإن هذا لا ينفي ارتباطه بعوامل أخرى كثيرة، خارجية وداخلية. أول هذه العوامل هو «العلاقة الخاصة» التي تربط الإدارة الأمريكية بموسكو، والتي تجسّدت، بشكل فظّ، في التدخل الروسي المباشر لصالح انتخاب ترامب في انتخابات عام 2016 الرئاسية، وإذا كان هذا التدخّل يبدو مبررا كافيا لـ«مكافأة» ترامب لروسيا رغم ما سيشكّله ذاك من إحراج سياسيّ للرئيس الأمريكي، فإن الواقعية السياسية تقتضي القول إن تلك «العلاقة» هي من طبيعة أيديولوجية، فترامب، ومعسكره الأيديولوجي، برهنوا أنهم حلفاء سياسيون طبيعيون لبوتين، وهو أمر أكدته العلاقات الوثيقة لكل أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا والعالم. لا يخلو ربط الانسحاب بالضغوط التي مارسها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان على ترامب من وجاهة، غير أن هذه الضغوط تراكبت مع علاقة ترامب ومعسكره «الخاصة» بالقيادة الروسيّة، وانضافت إليها الضغوط التي شكّلتها قضية اغتيال الصحافي السعودي جمال خاشقجي، والانتصار الذي حققه الحزب الديمقراطي في الكونغرس، والذي بدأ مطاردة حقيقية لترامب في القضايا العالمية والمحلّية.
الرابحان الأساسيان الظاهران للقرار (لو تمّ تطبيقه بالسرعة التي يطلبها ترامب) سيكونان روسيا، التي بدأت حشد قوات ونقل ذخائر في دير الزور (التي تحتوي حقولا نفطية كثيرة أهمها حقلا العمر والتنك)، وهذا ليس جديداً أن روسيا المستفيد الأول. فسياسة واشنطن قامت على أربع نقاط حيال الدور الروسي، هي: لا مانع من بقاء قوات الكرملين في بلاد الشام، لا مانع من بقاء بشار الأسد في ظل العملية السياسية التي يتقرر مصيره من خلال المسار الذي ستسلكه على رغم أن الديبلوماسية الأميركية تبقي على العديد من الأوراق التي تقود إلى رحيله بحجة الفظاعات التي ارتكبها عندما يحين الوقت، الموافقة على خطة موسكو للإبقاء على الجيش السوري العامود الفري للدولة، وأخيراً عدم ممانعة تحكم موسكو بالثروة النفطية والغازية الدفينة في سورية. ومع أن موسكو لا ترى في هذه النقاط جديداً لأنها حاصلة عليها بحكم الأمر الواقع الذي خلقته بقوتها العسكرية، فإن الأبرز في تفاهم واشنطن معها هو الحرص المشترك على أمن إسرائيل، التي تستفيد من هامش الحرية الذي يمنحها إياه هذا التفاهم لتوجيه الضربات للوجود الإيراني. التنازل الفعلي الذي يريده الكرملين من ترامب هو في أوكرانيا وأوروبا وفي العقوبات.
وتركيا التي أعلنت منذ أسبوع استعدادها لعملية كبيرة للقضاء على خصومها الأكراد شرق الفرات، ولابد أن سباقا كبيراً سيجري بين هاتين القوّتين على ملء الفراغ العسكريّ الأمريكي، وهناك بوادر أيضاً لمحاولة إيران والنظام السوري استغلال الوضع ودفع قوات نحو المناطق التي تسيطر عليها المعارضة. أما الأكراد هم الخاسر الأكبر في ظل استعداد تركيا لعملية عسكرية في شرق الفرات. إذ هم من بين أكثر الأطراف القلقة من الانسحاب الأميركي إذ أنهم يشكلون العمود الفقري لقوات سوريا الديمقراطية المعارضة التي سيطرت على نحو ربع مساحة البلاد بدعم من واشنطن. ومعلوم أن قوات سورية الديموقراطية (قسد) تعد الحليف الأكبر للولايات المتحدة في سورية، وتسيطر هذه القوات ذات الغالبية الكردية على نحو ثلث الأراضي السورية الغنية بالنفط والغاز والتي تنتج أهم المحاصيل الزراعية الاستراتيجية، مثل الحبوب والقطن. وبعد إعلان دونالد ترامب الانسحاب من سوريا، أمام خيارين محتملين.
تقول أنقرة إن وحدات حماية الشعب (YPG) هي امتداد لحزب العمال الكردستاني (PKK) المحظور في تركيا والذي خاض صراعاً مسلحاً من أجل الحكم الذاتي للأكراد هناك منذ عام 1984 وتعتبره منظمة “إرهابية”. وكان الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” قد أعلن قبل إعلان ترامب الانسحاب بأسبوع، أن الجيش التركي يستعد للقيام بتوغل بري في الأراضي التي تسيطر عليها قوات سوريا الديمقراطية شرقي نهر الفرات.وكان رد البنتاغون أن حذّر أردوغان من اتخاذ أي خطوة أحادية الجانب وأن ذلك لن يكون مقبولاً. لكن قال بعد ذلك أردوغان إنه ناقش خطته مع ترامب عبر الهاتف وأعطاه الأخير رداً إيجابياً.عندما شن الجيش التركي ومقاتلو المعارضة السورية هجوماً برياً للاستيلاء على مدينة عفرين الكردية شمالي حلب في بدايات العام الحالي، قاتلت وحدات حماية الشعب مدة شهرين قبل أن تقرر الانسحاب إلى مناطق تمركز القوات الأمريكية، ولكن هذه المرة ليس لدى الأكراد السوريين مكان آخر يلجؤون إليه.وتسيطر قوات سوريا الديمقراطية على 30 في المئة من مساحة سوريا كما أن لديها أكثر من 60 ألف مقاتل، لكن مع تلاشي التهديد الأمريكي لأنقرة، ستزداد ثقة أردوغان بنفسه لمحاربة قوات سوريا الديمقراطية ودفعهم بعيداً عن الحدود.
ستكون للقوة الجوية التي يمتلكها الجيش التركي الفضل في أي معركة مع الأكراد كما حدث في عفرين. كما سيكون تحت تصرفها ما لا يقل عن 15 ألفا من مقاتلي المعارضة السوريين المتمركزين غربي نهر الفرات في عفرين وغيرها من المدن الحدودية.وقد يظن أردوغان أن بإمكانه إقناع المقاتلين العرب المنخرطين في قوات سوريا الديمقراطية بعدم تدخلهم في النزاع الكردي-التركي والتخلي عنها.
أما السيناريو الثاني سيشهد محاولة قوات سوريا الديمقراطية إبرام صفقة مع الحكومة السورية. إذ من الممكن أن يقرر الأسد في نهاية الأمر التنسيق والتحالف مع قوات سوريا الديمقراطية كونها أقل خطورة من الوجود التركي الذي قد يطول في شمال سوريا، لأن الجيش السوري يفتقر إلى عدد المقاتلين والقوة العسكرية القادرة على السيطرة على مناطق سيطرة القوات الكردية وحدها.وكانت قوات سوريا الديمقراطية مستعدة ومنفتحة دائماً على التفاوض مع الحكومة السورية، فقد التقى ممثلون رسميون عن الإدارة الذاتية مرتين على الأقل هذا العام، على الرغم من أن تلك المحادثات لم تؤد إلى أي نتائج مهمة.ومن المرجح أن تحدث تغييرات في موقف الحكومة السورية وسط انهيار العلاقات بين روسيا وإيران وتركيا، الذين عملوا معاً لتحقيق الاستقرار في سوريا وإيجاد حل سياسي لإنهاء الحرب الأهلية في البلاد.
كما أن الانسحاب الأمريكي من سوريا قد يضعف الرغبة الروسية والإيرانية في التوافق مع خطط تركيا.فقد كان موقف موسكو المؤيد لتركيا والمناهض للأكراد مرتبطاً إلى حد كبير بمحاولاتها حرمان الولايات المتحدة من الحلفاء المحليين ودق إسفين بين قوى الناتو لزرع نوع من الخلاف.كما أن دعم الولايات المتحدة لقوات سوريا الديمقراطية جعل القوات الكردية واحدة من القوى الرئيسية في سوريا، ولكنها ستتركها مع أعداء أقوياء أيضاً.وكان إعلان واشنطن في ديسمبر/كانون الأول 2017 إنشاء قوة حدودية قوامها 30 ألفا مقاتل، عمادها الأساسي قوات سوريا الديمقراطية شمال شرقي سوريا، السبب الذي أدى إلى هجوم عسكري تركي على عفرين.وفي الآونة الأخيرة، دفعت التصريحات المتكررة من إدارة ترامب حول بقاء الولايات المتحدة في سوريا إلى حين مغادرة القوات الإيرانية إلى توجيه وزير الخارجية الروسي “سيرغي لافروف” اتهام الأكراد وحلفائهم بالانفصاليين. قد لا تشعر موسكو بأنها بحاجة إلى كبح النفوذ الكردي في شرقي سوريا إذا كانت الولايات المتحدة خارج الصورة .وقد تكون مسألة ما إذا كانت تركيا قد قدمت شيئًا ما مقابل الانسحاب الأمريكي ذات علاقة بموقف روسيا المستقبلي أيضًا.ويشير قرار وزارة الخارجية بالموافقة على بيع نظام الدفاع الصاروخي “باتريوت ” إلى تركيا ، والذي جاء في نفس يوم إعلان الانسحاب، إلى احتمال وجود نوع من التنسيق بين واشنطن وأنقرة. وفي جميع الأحوال، من المستبعد أن يقطع أردوغان في المستقبل المنظور علاقاته مع روسيا كي يتماشى مع سياسات ترامب المعادية لإيران.
وبانسحاب القوات الأميركية تبقى فرنسا في التحالف حيث أن لها قوات عمليات خاصة صغيرة في سوريا، وبريطانيا التي تقول وسائل الإعلام أنها نشرت سرا عددا من الجنود.وصرح رئيس وزراء بلجيكا السابق غاي فيرهوفشتات أن الانسحاب الأميركي هو نصر لروسيا وإيران وتركيا، وحلفاء تركيا والنظام السوري.وكتب على تويتر “كعادتها فإنها (الولايات المتحدة) تترك الأوروبيين في وضع أكثر صعوبة — ويظهر أنه من الخطأ تماما عدم امتلاكنا قوة دفاعية قادرة على المساعدة في إحداث الاستقرار في الدول المجاورة”، وسط دعوات تقودها فرنسا لإنشاء جيش أوروبي منفصل عن حلف شمال الأطلسي.
الأسايبع والأشهر المقبلة ستوضح ماذا ستفعل القوات الفرنسية والبريطانية والنروجية الموجودة في كنف الوجود الأميركي في سورية، وهل سيسبق الانسحاب إنهاء «داعش» أم ستُترك شوكة للاستخدام، وهل ستنسق موسكو مع واشنطن انكفاءها، وهل ستسمح لإيران أم لتركيا بملء الفراغ. وهل سيتلقف الكرملين الأكراد وقوات سورية الديموقراطية في الشمال الشرقي لحمايتهم من تركيا، وهل المقابل الذي يربحه الأميركي عودة الوئام بينه وبين الحليف التركي التقليدي، مع التداعيات على سورية الرجل المريض، الذي تتهيأ إسرائيل لسلخ الجولان منه؟ إنه انسحاب يضاعف التخبط…
معمر فيصل خولي
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية