المثلُ مع الفارق كما يقولون، ولكن.. قد يُذكرُنا موقف حزب العدالة والتنمية اليوم بيومٍ سابق في التاريخ الإسلامي: حين عَزلَ الخليفة عمر بن الخطاب القائدَ العسكري الفذ خالد بن الوليد من قيادة الجيش الإسلامي.
جاء قرار العزل في وقتٍ كان فيه أداءُ ابن الوليد في قمته. لكن القرار صدرَ في ذلك الوقت بالذات لسببٍ استراتيجي: كي لا يغفلَ الناسُ عن (عالم الأسباب)، ويعتقدوا أن مجرد وجود ابن الوليد بشخصه في موقع القيادة كفيلٌ على الدوام بصناعة الانتصارات.
ثمة فرقٌ بالتأكيد بين موقع عمر وموقع الشعب التركي الذي أخذَ القرار هذه المرة، تماماً كما أن ثمة فرقاً بين خالد وحزب العدالة والتنمية الذي أخذَ العلم بالقرار المذكور.
لكن التاريخ معرضُ التجارب والدروس، واستقراؤها لايضرُ على الإطلاق، إن لم ينفع. والحدثُ التركي الأخير مدعاةٌ للمراجعات، ليس فقط على المستوى المحلي السياسي في تركيا، بل وعلى مستوى الفكر السياسي، والديني، الإنساني بشكلٍ عام.
لايخفى على مراقبٍ ماذا فعل حزبُ العدالة والتنمية بتركيا، ولها، على مدى اثني عشرَ عاماً. وإذا أخذنا بالاعتبار وضعَ البلاد، الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي، في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، لايمكن وصفُ ماحدثَ في تركيا إلا بأنهُ قريبٌ من (المعجزة).
لكن وجهَ الإعجاز الأكبر في هذه التجربة لايكمنُ أبداً في الفهم الإسلامي التقليدي لمفهوم المعجزة، حيث تتدخلُ السماء بشكلٍ مباشر، يُخالفُ سنن الأرض وقوانينها، لتفرضَ واقعاً معيناً. على العكسِ تماماً، يكمنُ إعجاز التجربة التركية في (أرضيتها) الشديدة. في أنها صناعةٌ إنسانيةٌ خالصة. بل إنها، في جوهرها، تصحيحٌ جذري لمفهوم العلاقة بين الأرض والسماء. فضلاً عن كونها مثالاً متقدماً جداً لتلك العلاقة، كما أرادها الخالقُ أن تكون.
في هذا الفهم المغاير، يكون مطلوباً من الإنسان أن يُدرك، من جهة، وجود السنن والقوانين المذكورة، وثباتَها، وسَرَيانها على الجميع دون محاباةٍ أو تمييز، وأن يؤمن، من جهةٍ أخرى، بالكمون الهائل الموجود فيه، وأن يبذل المستحيل لإطلاق ذلك الكمون، عبر فهم تلك السنن والقوانين، والعمل وُفقها، وله أن يتوقع بعدها كل شيء، بكل بساطة.
هذا، ببساطةٍ أيضاً، مافعله إنسانُ حزب العدالة والتنمية. فحقق المعجزة. حسناً. ثمة دورٌ لمعاني (البركة) و(التيسير) في الموضوع. لكن هذا لايدخلُ، ابتداءً، في حسابات المعادلة المعقدة، إلا بعد أن تُوجدَ عناصرُها الأساسية، المحسوسة، المادية، الأرضية، البشرية. لهذا، يبقى دخولُ تلك المعاني في الحسابات أمراً وجدانياً (جُوانياً) في نهاية المطاف.
من هنا تحديداً، عادَ عالمُ الأسباب ليضع حزب العدالة والتنمية في هذا الموقف اليوم. ولو تعلق الأمرُ فقط بالبركة والتيسير، على أنها هي مداخلُ صناعة الواقع، بالفهم الإسلامي التقليدي لها، لكانَ الحالُ غير الحال.
هناك إذاً في عالم الأسباب مايمكن البحثُ عنه لتفسير الظاهرة. نحصرُ الحديث هنا في موضوعين. كيف يُصوتُ ستون بالمائة من الشعب ضد حزبٍ صنع معجزةً اقتصاديةً وتنمويةً في البلاد طاولَ أثرُها الإيجابي الجميع، تقريباً؟ هل يمكن ردﱡ الأمر، ببساطةٍ واختزال، كما يفعل البعض، إلى (جحودٍ) يسكن الشعوب بشكلٍ أو بآخر؟ يفتح السؤال الأول ملفاً رئيساً في الفكر السياسي يتمحور على مقولةٍ تؤكدُ أن النجاح (السياسي) لحزبٍ ما منوطٌ إلى درجةٍ كبيرة بأدائه الاقتصادي.
لاتَنقُضُ التجربة التركية الراهنة تلك القاعدة بشكلٍ نهائي فيما نرى، لكنها تُضفي عليها مِسحةً أكثرَ إنسانية. بمعنى، إنها تُثبتُ أن الإنسان يحتاج، دون جدال، إلى الكفاية في حاجاته المادية / المعيشية. لكن هذا لايعني بحال أن حساباته تتمحور، دائماً وأبداً، حول تلك الحاجات.
بل ربما تُثبتُ الواقعة التركية الأخيرة أن تأمين الحد الأدنى من الحاجات المعيشية للإنسان لن يكون إلا مدخلاً لانتقاله إلى الاهتمام بجانبٍ آخر من تكوينه البشري: الإيديولوجيا، بأشكالها المتنوعة. مامن شكٍ أن الإيديولوجيا تساهم في تفسير الحدث الانتخابي التركي إلى درجةٍ كبيرة. فكل المؤشرات الاقتصادية تؤكد أن طبيعة التصويت لم يكن لها علاقةٌ بالوضع الاقتصادي والمعيشي، إلا في حالات هامشية لايمكن لها أن تؤثر في النتيجة النهائية بهذه الدرجة.
الحديث هنا بطبيعة الحال عن الإيديولوجيا بتعريفٍ مرنٍ يضعها في مقابل (البيولوجيا) التي تتعلق بالحاجات الإنسانية الأساسية. هكذا، نرى كيف وَصَلت، للمفارقة، التجربة السياسية لتركيا، ولحزب العدالة والتنمية إلى نقطةٍ صفرية.. فبعد أن بلغَ المجتمعُ التركي مرحلةً متقدمةً من الرخاء الاقتصادي، توقف زمن الحسابات الاقتصادية، وعادت حسابات الإيديولوجيا. فصوتت للحزب قواعدهُ (الأساسية)، التي تشكلت على مدى عقدٍ ونصف من الزمان بمزيجٍ من الأداء الاقتصادي والإيديولوجيا.
بالمقابل، صوتت ضده ثلاثُ كتلٍ أخرى، عادَ كلٌ منها إلى أجندته (الإيديولوجية)، بمعنىً من معاني الكلمة: ركز الأكرادُ على همهم (القومي)، وتعمق شعور أنصار حزب الحركة القومية بالخوف على (هويتهم) التركية بفهمهم الخاص لها، وبلغ أنصار حزب الشعب الجمهوري قمة الاستنفار الإيديولوجي (ضد) العدالة والتنمية، ومايرون أنه يمثله من إيديولوجيا إسلامية.
هي (عودةُ الإيديولوجيا) إذاً. وهذه تمثل درساً بالغ الدلالة لكل من يعتقد بإمكانية غيابها أو تغييبها، بالتركيز، مثلاً، على الاقتصاد والحاجات المادية الإنسانية. هل يمكن تعميم هذه النتيجة في أماكن أخرى من العالم؟ لايمكن النفي أو التأكيدُ بسهولة، والأمر يحتاج إلى دراسةٍ لايتسع لها هذا المقام.
أخيراً في هذا الإطار. مؤكدٌ أن هناك دوراً للإعلام، وآخر للاعبين الخارجيين. لكن هذين العنصرين لم يكن لهما ليلعبا الدور الذي لعباهُ لولا أن الإيديولوجيا نفسها، وقد عادت، أعطتهما تذكرة المرور للقيام بذلك الدور.
هل ساهم حزبُ العدالة والتنمية نفسه في تلك العودة؟ وماهي دلالات هذه المساهمة ودروسها فيما يتعلق بالمراحل القادمة؟ هذا هو موضوعنا الثاني.
ذَكرنا في مقالات سابقة أن التجربة التركية الراهنة، بقيادة حزب العدالة والتنمية، تستحق الدراسة على مستوى الفكر السياسي عالمياً، لأنها تُحاول، بجدية، تقديم نموذجٍ بديل في علم السياسة وممارستها، يُمكن فيه إعادة تعريف العلاقة بين الدين والسياسة، بعيداً عن الفهم التقليدي الشائع في الأدبيات الإسلامية من جانب، وعن الفصل النهائي الكلي القاطع بينهما، من جانبٍ آخر.
من هنا تنبعُ أهمية النظر إلى السؤال أعلاه، والبحث عن إجابات له بكل مايمكن من صراحةٍ وشفافية. ومن مدخل المُراجعات الذي يُعتبرُ، أصلاً، عنوان التجربة التركية السياسية المعاصرة للعدالة والتنمية، والذي أعطاها فرادَتها وتميزها في جميع المراحل. الأمر الذي يفرض استمرار المنهج الذي يُعبرُ عنه ذلك العنوان.
لايُخفي حزبُ العدالة والتنمية، ولم يُخفِ يوماً، مرجعيتهُ الإسلامية، بمعناها الحضاري الواسع. والحقيقة أن برامجه السياسية، على مستوى النظرية والتطبيق، كانت على الدوام محاولةً مستمرة لخلق وإبداع وابتكار تنزيلات عملية لتلك القاعدة. تجلى هذا في جملة محددات من أهمها الاهتمامُ بالمقاصد بدلاً من القوالب والأشكال الخارجية، والتركيز على المضامين بدلاً من الشعارات والعناوين، وبعالم الحضور والشهادة بدلاً من الغرق في عالم الغيب، وباعتبار (الواقعية) السياسية والاجتماعية والاقتصادية ركناً أساسياً من أركان الفكر والعمل السياسيين.
بناءً على تلك المحددات، كان الحزبُ، ربما إلى قرابة عامٍ مضى من الزمان، يحافظ على توازنات حساسة وأساسية في كل مجال، كانت بِدورِها مصداقاً لحرصه على منهج (الوسطية)، بتعريفه الاستراتيجي المُعقد، وليس ببعض التعريفات الفقهية التقليدية لذلك المصطلح.
أي أن تعامل الحزب مع مسألة (الإيديولوجيا) وسؤالها كان يدخل أيضاً في إطار نموذجه المبتكر في الفكر السياسي. لكن رصدَ تطورات الأحداث، وتحليل بعض القرارات والممارسات، من خارج الماكينة السياسية، خلال العام الماضي، يحمل مؤشرات على اهتزاز بعض التوازنات التي كانت التجربة حريصةً عليها.
صحيحٌ أن النظر من الخارج قد يحمل في طياته جهلاً ببعض المُعطيات التي تتوفر لمن يُعايش العملية من داخلها، فيرى مالايراه المراقب الخارجي. لكن المعايشة الداخلية اللصيقة، خاصةً مع مايمكن أن يكون فيها من زخمٍ نفسيٍ وعملي، جارفٍ أحياناً، تحتاج على الدوام إلى مُعطيات النظرة الخارجية، وتستفيدُ منها بشكلٍ من الأشكال.
صحيحٌ أيضاً أن التجربة التركية الراهنة تتعامل، بشكلٍ متزايد، مع نظامٍ دولي لا يمكن القول بأنه محايدٌ تجاهها، وأن هذا يخلق تحديات معينة لايعرفها الكثيرون. لكن هذا العامل بذاته مدعاةٌ إلى البحث عن وسائل خلاقة للتعامل معه، لم تعدم التجربة فيما مضى سُبُلاً لإيجادها وتوظيفها بشكلٍ فعال.
من هنا، تطرح الأسئلة نفسها: من المؤكد أن الرئيس التركي شخصيةٌ سياسية استثنائية عالمياً، وليس على الصعيد المحلي التركي فقط، والواضح، بأقل درجةٍ من المتابعة، أن إسهامه الشخصي في تحقيق التجربة لإنجازاتها كبيرٌ ومُقدر. رغم هذا، هل كان الحضورُ الصارخ القوي له، سياسياً وإعلامياً، بعد الوصول لموقع الرئاسة، وبالشكل الذي عايشهُ الجميع، هو السيناريو الأنسب في إطار التوازنات المحلية والدولية؟
هل ساهمَ هذا الحضورُ الطاغي له في تهميش رئيس الوزراء، الذي أصبح عملياً رئيس الحزب، ويجب أن يستمر حضورهُ قوياً بشكلٍ واضح؟ وهل زادَ الأمرُ من (تخويف) الآخرين، داخلياً وخارجياً، إلى درجةٍ دفعتهم للوقوع في (رهاب) شخصيٍ ضد الرجل يدفع لاجتماعهم ضد الحزب، ووضع كل الخلافات جانباً؟ هل ساهمَ الحزب، دون قصد، في زيادة (الاستقطاب) في المجتمع التركي، من خلال توظيف ماكينة إعلامية ضاعفت في عيون الآخرين طغيان حضورهِ السياسي والاقتصادي والثقافي؟ هل كانت عمليات المراجعة الداخلية مستمرةً، وكل ماجرى أن الناس لم يسمعوا عنها؟ أم أنها توقفت، ولم تعد توجدُ في الساحة إلا أصوات الداعمين والمبررين لكل المواقف وكل القرارات، كما بدا لبعض المراقبين الخارجيين؟
هل تمت دراسة تفاصيل كل القرارات المتعلقة بالتعامل مع (الكيان الموازي) بشكلٍ علمي ومنهجي، وهل كان هناك اتفاقٌ على أنها هي القرارات الصحيحة؟ هل كانت القرارات المتعلقة بالشؤون الخارجية، على تنوعها وتعقيدها، جماعيةً ومؤسسيةً ومدروسة، كما كان الحالُ عليه دائماً؟ هل من المناسب أن يتم إخراج عملية الانتقال إلى (دولةٍ كبرى) في لَبوسٍ من الممارسات والقرارات ذات الرمزية (الإمبراطرية) في مثل هذا العصر؟ هل هذا ضروريٌ فعلاً، وبشكلٍ مدروس، بحيث يُشكل عامل (ردعٍ) مُسبق، نفسياً وعملياً، لكل من يقاوم ذلك الانتقال؟ أم أن الاعتماد على (القوة الناعمة) بمساراتها المُختلفة هو الأسلوب الأقرب للصواب؟
هذه الأسئلة، وغيرُها، أسئلةٌ كبرى تحتاجإلى إجابات. وهي بمجملها تدخل في إطار التساؤل الأكبر عن نصيب حزب العدالة والتنمية من استدعاء (الإيديولوجيا) بالدرجة (الاستقطابية) الحادة التي عادت بها إلى الساحة.
لقد ذكرنا سابقاً أن الهروب من (الإيديولوجيا) مشروعٌ مُستحيل. لكن المؤكدَ أيضاً أن التنازل أمام إغراءات بعض مكاسبها مدخلٌ للخطأ في الحسابات الاستراتيجية. وهو أمرٌ يتناقض جذرياً مع مشروع العدالة والتنمية، ومع نموذجه، ومع أساسيات مدرسته الفكرية.
فما الذي حصل؟ يعلم أهل العدالة والتنمية، أكثرَ من غيرهم، أن التعامل مع الأسئلة المطروحة وموضوعِها بمنطق الحشد والتبرير، والإحالة إلى العوامل الخارجية، لايُفيد في قليلٍ أو كثير. هذه ليست قاعدةً خارجية، وإنما هي من صُلبِ تكوين فكرهم السياسي وجذوره العميقة. يصدقُ هذا في الأحوال العادية، فكيف بمثل هذه الأحوال؟ ثمة نافذة فرصة في الموضوع، وفي تلك المساحة التي ذكرنا في البداية أنها تبقى “أمراً وجدانياً (جُوانياً)”، وقد يكون عنوان النافذة: (رُب ضارةٍ نافعة).. هنا تحديداً، يمكن لحزب العدالة والتنمية أن يستذكر الدرس (العُمَري)، وأن يجعل قرار الشعب التركي فرصةً للعودة إلى المنهج والمسار.
التقرير