أمام عربة صغيرة فوق الرصيف قبالة مبنى وزارة الفلاحة بشارع “آلان سافري” بالعاصمة تونس، يقف الموظف لطفي منتصب القامة لأكل البيض المسلوق ككل صباح قبل الذهاب إلى العمل في تلك الوزارة، هذه الوجبة الرخيصة الثمن تعكس حجم معاناة قطاع الموظفين في بلد ينخره الغلاء.
إلى جانبه موظفون آخرون ببدلاتهم وربطات عنقهم ينغمسون في التهام البيض المسلوق على قارعة الطريق أمام تلك العربة المهترئة.
هذا المشهد أمام تلك العربات يتكرر قبالة عديد الوزارات، في وقت بات فيه الموظفون من الطبقة الوسطى يعانون من تدهور قوتهم الشرائية.
يمد لطفي إلى جيبه يدَه المتسخة قليلا ببقايا ساندويتش البيض والهريسة الحمراء المفلفة، ليدفع نحو دينارين للبائع المتجول، ثم يمسح بيديه بقايا الأكل العالق ببدلته الشاحبة ويعبر الطريق منحنيَ الهامة ماضيا إلى شغله في وزارة الفلاحة، تاركا خلفه زبائن آخرين يتلذذون بأكل البيض.
قارب هذا الموظف الخمسيني على التقاعد، ومع ذلك لا يزال يعيش في منزل والده المتوفى مع والدته وإخوته دون أن يتزوج أو ينجب أو يشتري سيارة. يقول للجزيرة نت إن راتبه كسائق (حوالي 280 دولارا بالشهر) لا يُمكّنه من فعل شيء وسط الغلاء وكثرة النفقات اليومية.
ارتفاع الأسعار
حتى البيض الذي يلازم وجبة الكثير من محدودي الدخل بات مفقودا في السوق، بسبب احتكاره وتخزينه للرفع من سعره.
بل الأمر يتعدى ذلك بكثير، فالعديد من المنتجات الأساسية مفقودة -وأبرزها الحليب- جراء المضاربة وتهريب الأبقار وضعف الرقابة وتغول السماسرة في البلاد.
يستعد لطفي -كغيره من الموظفين الحكوميين- للدخول في إضراب عام دعا له الاتحاد العام التونسي للشغل يوم 17 يناير/كانون الثاني الحالي.
ويُلوّح الاتحاد بهذا الاحتجاج كورقة ضغط على الحكومة للزيادة في أجور الوظيفة العمومية، بسبب ارتفاع الأسعار بشكل متصاعد لا يتوقف.
ولا يوجد إلى الآن حل في الأفق بعد مفاوضات شاقة ومضنية بين اتحاد الشغل والحكومة الحالية.
وإذا تعثرت المحادثات فسيدق هذا الإضراب المسمار الأخير في نعش الهدنة الاجتماعية الهشة، مع دخول أكثر من 650 ألف موظف في إضراب سيتأجج بحالة الغليان السارية بعدة مناطق مهمشة.
ولا يبدو أن الحكومة قادرة على فعل أكثر مما تستطيع في ظل اختلال التوازنات المالية.
وبحسب موازنة 2019 المقدرة بحوالي 41 مليار دينار (13.7 مليار دولار)، تبلغ نفقات الدولة أكثر من 25 مليار دينار (ثمانية مليارات دولار)، أكثر من نصفها يتجه لسداد أجور الموظفين الحكوميين.
إجراءات حكومية
وتسعى الحكومة هذا العام للحصول على قروض بنحو عشرة مليارات دينار (3.4 مليارات دولار) لمجابهة نفقاتها العالية.
وستلجأ تونس -ككل سنة- إلى الاقتراض من الخارج، ولا سيما من صندوق النقد الدولي الذي يفرض عليها تجميد الزيادة بالأجور وتجميد الانتدابات واعتماد سياسة تعويم الدينار.
وتخطط الحكومة العام المقبل لرفع مستوى النمو إلى 3%، معلنة عن عدة إجراءات لدعم القدرة الشرائية كالتخفيض في بعض الأداءات، ودعم المحروقات بسبعمئة مليون دولار، ودعم المواد الأساسية بـ601 مليون دولار، فضلا عن دعم العائلات المعوزة ورصد نحو ملياري دولار للتنمية.
لكن لم تقابل إجراءات خفض الرسوم على الإنترنت والمساكن والسيارات الشعبية والدراجات النارية وشن حملات رقابة على الأسعار لردع المحتكرين، ردة فعل شعبية مرحبة.
وكل ما بالأمر أن العديد من التونسيين باتوا يشعرون بأنهم كانوا أكثر أمنا وأمانا غذائيا ومعيشيا قبل ثورة 2011.
وتشير تقارير المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية -المنظمة الحقوقية الملتصقة بالفئات الهشة- إلى تدهور الأوضاع وارتفاع ظواهر الانتحار والهجرة غير النظامية وغياب العدالة الاجتماعية. وتقريرها الأخير حول الوضع الاقتصادي عنوانه “استمرار نشر الأوهام الاقتصادية”.
وعود فاشلة
يقول رئيس المنتدى مسعود الرمضاني للجزيرة نت إن الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في البلد زادت سوءا رغم ما حققه المسار الديمقراطي على علاته من تقدم.
ويشير إلى أنه في زمن الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي كان المطلب الأساسي هو تحقيق الشغل والكرامة، ولكن هذا “لم يتحقق إلى الآن”.
وبالنسبة إليه، فإن مسببات الاحتقان الاجتماعي لا تزال مستمرة نتيجة غياب الاستثمار والتنمية في الجهات الفقيرة وارتفاع البطالة البالغة 15.5% وزيادة التضخم إلى 7.5%، وتراجع قيمة الدينار بأكثر من 40% منذ عام 2010.
ويقول الخبير الاقتصادي عبد الجليل البدوي في تقريره “نشر الأوهام الاقتصادية لتحقيق الأحلام السياسية” إن تعهد الحكومة بإرجاع الأمل للتونسيين وتحسين النمو والحد من التضخم ودعم القدرة الشرائية وتحسين التوازنات المالية، كان منطلقه تحسن النمو 2.6% العام الماضي.
غير أنه يؤكد للجزيرة نت أن تحسن تلك المؤشرات وخفض العجز في الموازنة لم يكن نتيجة السياسات الاقتصادية المعتمدة وإنما نتيجة ارتفاع الإنتاج الفلاحي، خاصة من زيت الزيتون والتمور، وتحسن تصدير المنتجات الفلاحية، موضحا أن الحكومة تبيع الأوهام للناس قبل انتخابات 2019.
تقشف مالي
ويؤكد البدوي أنه بالارتكاز على تقديرات الحكومة لموازنة 2019، فإنها ستواصل استخدام المنحى التقشفي للضغط على مصاريف الدولة وإعطاء الأولوية للحد من عجز الميزانية على حساب الأبعاد التنموية، ويشر إلى أنها لم تخصص حتى زيادة في أجور موظفي الوظيفة العمومية هذا العام.
من جهته يقول الخبير الاقتصادي والاجتماعي رضا الشكندالي -للجزيرة نت- إن كل العوامل الراهنة تنبئ بوقوع احتقان كبير في المرحلة القادمة، بالنظر إلى تدهور الوضع الاقتصادي.
ويقدر الشكندالي انهيار القدرة الشرائية -اعتمادا على معطيات البنك الدولي- بـ55% منذ الثورة.
وذكّر بأن مؤشر التنمية الجهوية من 2011 إلى الآن يشير إلى ارتفاع نسبة التهميش في المناطق الفقيرة.
وعلاوة عن التنمية المعطلة، يقول الشكندالي إن استمرار هبوط سعر الدينار سيزيد في نسبة التضخم المالي وارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية، مما سيفاقم معاناة التونسيين نظرا للغلاء.
ويقيس الشكندالي استمرار تدهور عملة الدينار التونسي بمدى ارتفاع قيمة العجز التجاري، بسبب تفاقم الواردات العشوائية وتراجع نسبة الاستثمار الخارجي وعائدات السياحة وانخفاض الاحتياطي من العملة الصعبة، وغيرها من العوامل، حتى فقد الدينار التونسي قدرا كبيرا من قيمته أمام العملات الصعبة.
وتوقع أن تشهد البلاد توترات منتظرة مع قرب إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية نهاية 2019 في ظل مشهد سياسي متقلب، مستبعدا أن تنجح الحكومة الحالية في تجاوز التحديات الصعبة المطروحة بتحقيق التنمية والتشغيل بما قدمته من إجراءات “غير واقعية” في الميزانية الجديدة.
المصدر : الجزيرة