في سنة 1979، وتحت عنوان «تحية إلى الثورة الإيرانية»، كتب أدونيس (الشاعر السوري، النصيري بالولادة): «أفقٌ، ثورةٌ، والطغاةُ شَتات/ كيف أروي لإيران حبي/ والذي في زفيري/ والذي في شهيقي/ تعجز عن قوله الكلمات/ سأُغنّي لقُمٍّ لكي تتحول في صبواتي/ نارَ عصفٍ، تطوف حول الخليج/ وأقول المدى والنشيج/ شعب إيران يكتب للشرق فاتحةَ الممكنات/ شعب إيران يكتب للغرب وجهُكُ يا غربُ مات/ شعب إيران شرقٌ تأصلَّ في أرضنا ونبيّ/ إنه رفضنا المؤسِسُ، ميثاقنا العربي».
ولكي لا يبقى أدونيس وحده في الميدان، فيُعزى حماسه المشبوب هذا إلى نوازع مذهبية، كتب نزار قباني (الشاعر السوري، السنّي بالولادة)، ممتدحاً الثورة ذاتها: «زهّر اللوز في حدائق شيراز/ وأنهى المعذبون الصياما/ ها هم الفرس قد أطاحوا بكسرى/ بعد قهر، وزلزلوا الأصناما/ شاهُ مصر يبكي على شاه إيران/ فأسوان ملجأ لليتامى/ والخميني يرفع الله سيفاً/ ويغنّي النبيّ والإسلاما».
على الجبهة السياسية السورية، المعارِضة تحديداً، صدرت صحيفة «نضال الشعب»، المطبوعة السرّية الناطقة بلسان اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوري ـ المكتب السياسي (كما كان يُعرف يومذاك، قبل أن يتبنى الاسم الجديد «حزب الشعب الديمقراطي»، بقرار من المؤتمر السادس، ربيع 2005)؛ وقد حملت على صفحتها الأولى ثلاث موادّ خاصة بانتصار الثورة الإيرانية، ذات نبرة احتفائية عالية. «وجاءت القارعة»، «الثورة الإيرانية المنتصرة تضع إيران على درب الحرية والديمقراطية والتقدم»، و«أصداء أولى للثورة الإيرانية». وإذْ كانت الموادّ تهلل للثورة الإيرانية، من حيث النبرة المعلنة، فإنّ النبرة الضمنية كانت تشير إلى استبداد حافظ الأسد: «الوضع الإيراني مرتب، لا مجال لاختراقه. ومع ذلك تبيّن أنّ هذا البنيان العظيم ضعيف الأساس. لقد تهاوى حجراً إثر حجر، فيا للثورة المظفرة! لقد تفجرت إرادة الملايين من الناس مرّة واحدة ضدّ الظلم والظلام. ملك الملوك أصبح لاجئاً عند أحد الملوك العرب الضالين، ذلك أنّ شبه الشيء منجذب إليه. ينسى الطغاة دائماً وأبداً درس التاريخ البسيط المكرر: العدل أساس الملك»….
اليوم، بعد 40 سنة على ذلك الحماس، حصد نظام آل الأسد، الأب والابن الوريث معاً، ما حصدته غالبية أبناء سوريا من المآلات الراهنة للثورة الإيرانية: التدخل العسكري المباشر لصالح النظام، عبر «الحرس الثوري» وفيالق الجنرال قاسم سليمان، أو عبر عشرات الميليشيات المذهبية التي يتصدرها «حزب الله» اللبناني. واليوم، لأسباب لا صلة لها بموقف إيران من النظام السوري أو انتفاضة آذار (مارس) 2011؛ يصعب أن يتوقف أدونيس عند الذكرى الأربعين للثورة الإيرانية طبقاً لمنطق العام 1979، وبروحية وجه الغرب الذي مات، أو أنّ شعب إيران هو النبيّ والرفض المؤسِّس والميثاق العربي. وأمّا «حزب الشعب الديمقراطي» فلم يعد يرى في تلك الثورة أقلّ من نظام آيات الله الثيوقراطي المذهبي الاستبدادي، المساند لأنظمة الاستبداد والفساد؛ وهذا شبيه بمواقف معظم اليسار السوري المعارض، حتى حين يرى البعض ذريعة ما، تمرّ من ثقوبها خرافات «الممانعة» و«محور المقاومة».
لكنّ الجوهري أكثر هو ما آلت إليه تلك الثورة في حياضها الإيراني تحديداً، وكيف تسارعت انقلاباتها الداخلية على ذاتها فلم تتوقف ــ منذ شباط (فبراير) 1979، حين عاد آية الله روح الله الخميني من منفاه الفرنسي إلى طهران ــ عن التهام صنّاعها تباعاً، ثمّ الإجهاز على أبنائها المقرّبين، وصولاً إلى خيانة آمال تلك الشرائح الشعبية التي انخرطت فيها وظلت رائدة لها حتى تكفلت بانتصارها. السيرورة ابتدأت من رهط الإصلاحيين الأوائل، رئيس الوزراء الأوّل مهدي بازركان، ورئيس الجمهورية الأول أبو الحسن بني صدر؛ إذْ لم يمض زمن طويل، يُعدّ بالاشهر في الواقع، وليس بالسنوات، حتى كشّر آيات الله عن الأنياب الحقيقية، المحافظة والمتشددة والمستبدة، التي تمقت الحريات العامة وتبغض الحقوق المدنية وتحارب الرأي الآخر وتسعى إلى قتله في المهد.
خامنئي أبرز المتمسكين بالنصّ عليه في الدستور، بل وتشديد وتوسيع صلاحيات الوليّ الفقيه المنصوص عنها حالياً. الأسباب جلية، لا تخصّ الفقه بقدر ما تُبقي على ميزان القوّة في صفّ السلطة الدينية، على حساب السلطات المدنية
الأوّل كان ابن تاجر أذربيجاني مرموق، درس الهندسة الحرارية في باريس، وعاد إلى جامعة طهران ليتولى عمادة كلية التكنولوجيا، ويقود سلسلة احتجاجات ضدّ الشاه ودعماً لحركة محمد مصدّق. ورغم سجنه مراراً لم يتوقف بازركان عن ممارسة الأنشطة المعارضة، فأسس «حركة المقاومة الوطنية» سنة 1953، و«حركة التحرر الوطنية» سنة 1961؛ وبالتالي كان في طليعة قادة التظاهرات المبكرة في طهران، التي آذنت بأفول عهد الشاه. وكان أمراً طبيعياً أن يختاره الخميني لرئاسة أوّل حكومة مؤقتة، ثمّ كان أمراً طبيعياً كذلك أن يناهضه المحافظون المتشددون، هاشمي رفسنجاني وعلي خامنئي، على خلفية خططه الاقتصادية، ومعارضته لواقعة رهائن السفارة الأمريكية. وهكذا، بعد تسعة أشهر في المنصب، تقدّم بازركان باستقالته فقبلها الخميني؛ وتابع خصومه التنكيل به إلى درجة منعه من الترشيح لانتخابات الرئاسة في دورة 1985، فكان المنفى السويسري هو الخيار الوحيد المتبقي أمامه، حيث قضى في زيورخ سنة 1995.
الثاني كان أحد أبرز قادة المعارضة الطلابية لنظام الشاه، وقد سُجن مرتين، وجُرح خلال انتفاضة 1963 المجهضة، والذي درس الاقتصاد في جامعة السوربون وآمن بتلك الثنائية العصية التي تجمع الاقتصاد القومي بالإسلامي، وكان في عداد قلّة من العائدين مع الخميني على الطائرة ذاتها. ومن موقعه، الشرعي المنتخَب، كرئيس للجمهورية، ورئيس للمجلس الثوري بقرار من الخميني، توجّب على بني صدر أن يجابه المحافظين إياهم، رفسنجاني وخامنئي؛ فكتب إلى الخميني تلك الرسالة الشهيرة التي تقول إنّ عجز الوزراء المحافظين أشدّ خطورة على الثورة من الحرب مع العراق، كما عارض الإبقاء على رهائن السفارة الأمريكية، فلقي من البرلمان المحافظ المصير الطبيعي: الإدانة بتهمة العجز والتقصير، والإقصاء من الرئاسة، و… الفرار مجدداً إلى فرنسا، تحت جنح الظلام، بعد أقلّ من سنتين على انتخابه.
من الإنصاف الافتراض، إذن، أنّ الزراعة الريادية، التي دشنها أمثال بازركان وبني صدر؛ سوف يؤول حصادها إلى المرشد الأعلى الراهن علي خامنئي، وإلى جنرالات «الحرس الثوري» أمثال قاسم سليماني. هذا على مستوى الأمن والسياسة والأدوار الإقليمية، وأمّا على صعيد الاجتماع البشري والعقيدة، فإنّ مبدأ «الوليّ الفقيه» هو الضمانة العليا لاستمرار آيات الله في الاستئثار بالسلطات، كافة في الواقع. هذا المبدأ/ القانون هو الركيزة الكبرى في صرح المدرسة الخمينية، وخلافتها الخامنئية، وليست مبالغة أن يساجل المرء اليوم أنّ الأمل منعدم في السير خطوات أبعد على الطريق الذي وُعدت به إيران في مثل هذه الأيام من سنة 1979، وتحقيق انفراج داخلي إيراني، سياسي واجتماعي واقتصادي وثقافي؛ ما لم يقف الإيرانيون موقف مراجعة راديكالية شاملة لعلاقة هذا المبدأ بالحياة والحقّ والحقوق.
ففي نهاية المطاف، هذا مبدأ في «الحكم الإسلامي» صاغه الإمام الخميني على عجل سنة 1971، حين كان منفياً في مدينة النجف العراقية، وخضع منذ البدء لأخذ وردّ، واختلف فيه وحوله عدد كبير من فقهاء الشيعة. الثابت، مع ذلك، أنّ خامنئي هو اليوم أشدّ المدافعين عنه، وأبرز المتمسكين بالنصّ عليه في الدستور، بل وتشديد وتوسيع صلاحيات الوليّ الفقيه المنصوص عنها حالياً. الأسباب جلية، لا تخصّ الفقه بقدر ما تُبقي على ميزان القوّة في صفّ السلطة الدينية، على حساب السلطات المدنية؛ الأمر الذي يفسّر الحماس للمبدأ في صفوف «حزب الله»، وحسن نصر الله شخصياً.
ذلك لأنه المبدأ الذي يحيل زراعة الاقتصادي بني صدر، إلى حصاد بمنجل الجنرال سليماني!
القدس العربي