يؤدي قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالانسحاب من سوريا إلى جعل الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صاحب النفوذ من دون منازع في سوريا. ولا شكّ أن لإيران و«حزب الله» وتركيا نفوذاً أيضاً، لكن هناك أهمية للخطوط الحمراء التي يحددها الكرملين.
وبالكاد تمكّن الكرملين من إخفاء فرحته بخطوة ترامب. فقد أشاد بوتين بالقرار ووصفه بـ”الصائب”، كما قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا بأن الانسحاب الأمريكي يخلق آفاقاً جيدة للتوصل إلى “حل سياسي” في سوريا.
وبينما يعيد بشار الأسد ترسيخ سيطرته العسكرية على البلاد بدعم عسكري روسي وإيراني، تحوّل الاهتمام الدولي نحو إيجاد “حل سياسي” في سوريا. لكن مع إخلاء الولايات المتحدة إلى حدّ كبير نفوذها المتبقي في سوريا، فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا ما هي الاستراتيجية التي ستعتمدها روسيا هناك؟
لا بدّ في هذا السياق من النظر إلى سابقة الشيشان. فقد كانت الحرب الشيشانية الثانية (بين عامَي 1999 و2009) هي التي أطلقت مسيرة بوتين السياسية، حين أدّت سلسلةٌ من تفجيرات الشقق في العديد من المدن الرئيسية في أيلول/سبتمبر 1999 إلى هز روسيا. وفوراً ألقى بوتين، رئيس الوزراء آنذاك، اللوم على الشيشان وأعلن الحرب التي أتت به من الغموض إلى أضواء الرئاسة.
وقبل عقود من قيام بوتين بتوفير التغطية للأسد لاستخدامه الأسلحة الكيميائية وتدمير أجزاء كبيرة من حلب، أشرف الرئيس الروسي على حملة الأرض المحروقة في الشيشان، التي دمّرت العاصمة غروزني وأسوتها بالأرض.
وعلى خلفية هذه الأحداث الدموية، انخرط الكرملين في تمثيلية التفاوض مع قادة الشيشان المدعومين من الكرملين، وذلك إلى حد كبير من أجل تهدئة “الجمعية البرلمانية لمجلس أوروبا” التي كانت تطالب بإجراء محادثات سلام رسمية. وأراد الروس إدارة العملية، ولم يسمحوا فعلياً سوى لجهة واحدة بالمشاركة. وفي الوقت نفسه، ومن أجل سحق نضال الشيشان من أجل الاستقلال، تجاهل بوتين وهمّش الشيشانيين المعتدلين والعلمانيين على غرار الرئيس المنتحب شرعياً في ذلك الوقت، أصلان مسخادوف.
وبعد اندلاع الحرب الأهلية في سوريا، اتبعت موسكو استراتيجية مماثلة، تسعى إلى تهميش أي جماعات معارضة طالبت برحيل الأسد. وفي حزيران/يونيو 2012، أي قبل ثلاث سنوات من بدء موسكو تدخلها العسكري في سوريا، حدد “بيان جنيف” خارطة طريق رسمتها الأمم المتحدة لوضع حدٍ لأعمال العنف وإقامة هيئة حكم انتقالي. وعلى هذا الأساس، شاركت موسكو بعد ذلك في محادثات السلام، ولكن فقط مع تلك الجماعات التي لم تطالب برحيل الأسد.
وعلى مر السنين، أشركت موسكو شخصيات معارضة مزيّفة مثل قدري جميل – وهو سياسي سوري “لطالما حام حول سياسة نظام [الأسد]”، وفقاً لـ “مركز كارنيغي للشرق الأوسط” – ورندا قسيس، وهي زعيمة “حركة المجتمع التعددي” التي دعمت علناً سياسة بوتين في سوريا وشاركت في تأسيس “مركز الشؤون السياسية والخارجية” الموالي للكرملين. أما خالد المحاميد، وهو عضو آخر في المعارضة السورية، فقد دعم علناً أهداف موسكو الرامية إلى إعادة فرض سيطرة الأسد على جميع أنحاء سوريا.
ولطالما سعى بوتين إلى تغطية انخراط روسيا بغطاء القانون الدولي. ففي عام 2015، أتخذّ مجلس الأمن الدولي القرار رقم 2254 الذي يحدد عملية الانتقال السياسي في سوريا. ورعى الكرملين العديد من جولات محادثات السلام في كل من أستانة وسوتشي، التي أعادت ظاهرياً التأكيد على القرار رقم 2254، لكن المحادثات لم تسفر سوى عن عدد قليل من المسائل الجوهرية وهمّشت في أغلب الأحيان الجماعات الموالية للولايات المتحدة. وغالباً ما ملأت رموز نظام الأسد قاعات المؤتمرات. وفي حين تُصوّر روح القرار رقم 2254 قدرة السوريين على اختيار مستقبلهم، فمن السهل على موسكو استخدامه لإضفاء الصفة القانونية على انتخابات زائفة لإعادة الشرعية إلى الأسد.
وبالفعل، لا يسمح القانون الانتخابي الحالي في سوريا لقسم كبير من الجالية السورية في الخارج بالمشاركة في الانتخابات، مما يؤدي في الواقع إلى حرمان ملايين السوريين – الذين أُرغموا على الفرار كلاجئين – من حقهم في الاقتراع، علماً بأن العديد منهم هربوا بعدما تعرضت بلداتهم وأحياؤهم للبراميل المتفجرة، أو الأسلحة الكيميائية، أو فِرق الموت لأنهم كانوا يُعتبرون عديمي الولاء للأسد.
وفي الشيشان، تزامنت انتهاكات حقوق الإنسان وتهميش الأصوات المعتدلة التي مارستها موسكو مع بروز التطرف. وقد حكم الشيشان رمضان قاديروف الذي نصّبه بوتين بيد من حديد، وأشرف على أسلمة البلاد.
ولا يمكن لأي قدر من عمليات إعادة الإعمار أن يبدّد التوترات الكامنة وراء الهدوء المزيّف. وسيستمر استخدام القوة الغاشمة إلى حين زوالها.
لكن سوريا أكثر تعقيداً بكثير من الشيشان، وسط وجود العديد من الجهات الفاعلة التي تسعى وراء مصالح مختلفة ومتنافسة في بعض الأحيان. ويبقى نجاح بوتين غير مضمون.
ففي الشيشان، نصّب الكرملين الزعيم الذي اختاره، بينما في سوريا لا يرى بديلاً عن الشخص الذي كان هناك منذ البداية. ولكن في كلتا الحالتين، يواصل صنّاع السياسة الغربيون التشبث بالاعتقاد بأن هدفهم المتمثل في التوصل إلى حل حقيقي للنزاع يتوافق مع هدف موسكو.
غير أن الواقع مختلف. فبوتين الذي كان يسعى إلى فرض نسخته من الدستور السوري منذ نيسان/أبريل 2016 على الأقل، أصبح الآن في وضع أفضل يخوّله تطبيق النموذج الشيشاني في سوريا. وبعيداً عن الحل الحقيقي، بإمكان موسكو أن ترأس صراعاً مجمداً من صنعها، ويكون استمراره لعدة سنوات مقبلة مضموناً في ظل إدارة بوتين.
معهد واشنطن