في الخطاب الذي أدلى به وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو في القاهرة في 10 كانون الثاني/يناير، أكّد الوزير أن الولايات المتحدة ستستخدم “الدبلوماسية وتتعاون مع شركائنا إلى حين طرد آخر جزمة إيرانية” من سوريا. إن التركيز على “الجزم” الإيرانية يسلّط الضوء على الكيفية التي ركزت فيها واشنطن وشركاؤها الإقليميون اهتمامهم منذ فترة طويلة على الجوانب العسكرية لتغلغل إيران في سوريا – وخاصة نشرها للقوات من أجل ضمان صمود نظام الأسد وتهديد إسرائيل وتوفير جسر أرضي يربط طهران ببيروت عبر بغداد ودمشق.
ومع ذلك، يقرّ القادة الإيرانيون أيضاً بأن ضمان نفوذ طويل الأمد في سوريا يتطلب أكثر من وسائل عسكرية. وبناء على ذلك، فإنهم يطبقون أفضل الممارسات انطلاقاً من تجربتهم مع «حزب الله» في لبنان، حيث قام الوكيل الإيراني النافذ بترسيخ نفسه ليس على الصعيد العسكري فحسب، بل على المستوى السياسي والديني والثقافي أيضاً. وبغية تطبيق هذا النموذج في سوريا، تتبع طهران مسارين من الجهود:
شراء العقارات وتغيير التركيبة السكانية وتطوير شبكات من الدعم بين دمشق والحدود اللبنانية، مع الهدف النهائي المتمثل في إقامة منطقة سيطرة جغرافية مماثلة لمعقل «حزب الله» في الضاحية الجنوبية لبيروت.
تطبيق برامج اجتماعية ودينية واقتصادية تهدف إلى استمالة المجتمعات المحرومة التي قد لا تكون متفقة إيديولوجياً مع طهران ولكنها تفتقر إلى البدائل القابلة للتنفيذ.
وإذا كان كبح وجود إيران في سوريا لا يزال أولوية بالنسبة للولايات المتحدة، فيجب على صناع السياسة أن يسارعوا إلى اعتماد أساليب جديدة لمواجهة أنشطة القوة الناعمة هذه.
مصادرة ممتلكات عائدة للسنة في غرب سوريا
تُستثمر الجهود الإيرانية إلى حدّ كبير من أجل تأمين دمشق وضواحيها والمنطقة الممتدة من المقام المسلم الشيعي للسيدة زينب إلى الحدود اللبنانية. ومن وجهة نظر طهران، يتطلب ذلك إجراء تغييرات ديمغرافية منهجية. فعلى مدار العام الماضي، تمّ طرد المجتمعات السنية من منازلها التي تشغلها منذ زمن بعيد واستُبدلت بأشخاص موالين لكل من إيران ونظام الأسد.
وبغية توفير أساس قانوني لمثل هذه التدابير، أصدر النظام السوري القانون رقم 10 في نيسان/أبريل الماضي. وأعطى هذا التشريع لأصحاب الأملاك السوريين مهلة 30 يوماً لإيجاد وكيل محلي وتقديم طلب ملكية شخصياً – في محاولة واضحة لانتزاع الأراضي من السنّة الذين يشكلون الجزء الأكبر من لاجئي الحرب وكانوا غير قادرين أو غير راغبين في العودة في الموعد المحدد لتقديم الطلبات. وقد استغل «حزب الله» و«الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني هذا الوضع لشراء عقارات عديدة. ووفقاً لتقارير عن مسؤولين سوريين، تم نقل أكثر من 8 آلاف عقار في منطقة دمشق إلى مالكين شيعة أجانب خلال السنوات الثلاث الماضية.
كما تقوم إيران بتحويل المساجد السنّية المحلية إلى مراكز ومقامات دينية شيعية، فضلاً عن بناء قاعات اجتماعات ومساجد ومدارس شيعية جديدة. وتشير التقارير السردية إلى أن نظام الأسد أغلق بعض هذه المراكز الشيعية في المناطق الخاضعة لسيطرة روسيا في البلاد، لكنه فشل في القيام بذلك في المناطق التي تسيطر عليها إيران حول دمشق والسيدة زينب.
توسيع النفوذ في الجنوب والشرق
خارج معقلها الجديد في منطقة دمشق، تركز إيران جهودها على ترسيخ جسرها الأرضي عبر سوريا والسيطرة على حدود البلاد مع العراق. ومنذ انهيار الاتفاق بين الولايات المتحدة وروسيا والأردن في جنوب سوريا في العام الماضي، مارست قوات الأسد (بتسهيل موسكو) ضغوطاً على المقاتلين المحليين والمجتمعات المحلية لعقد اتفاقات مصالحة والانتقال إلى المناطق التي تسيطر عليها المعارضة في شمال غرب سوريا. وقد استفادت إيران من هذه التحركات السكانية القسرية، وإن كان ذلك بمزيج مختلف من الأدوات نظراً إلى الطابع السنّي والقبلي الغالب عليها.
وخلال الأشهر الستة الماضية، أقام عناصر إيرانيون مراكز عسكرية وشبكات أمنية في أنحاء محافظة درعا الجنوبية الغربية. وفي الوقت نفسه، قاموا هم ووكلائهم من «حزب الله» ببناء ما لا يقل عن ثمانية مراكز دينية شيعية محلية وخمس مدارس دينية. وحيث تُدرك طهران الحالة الاقتصادية والأمنية المتردية في المنطقة، أفادت بعض التقارير أيضاً أن إيران توفر فرص عمل للمقيمين السنّة الشباب دون مطالبتهم بحمل السلاح. ولقاء حوالي 200 دولار شهرياً، يفضّل العديد من هؤلاء الشبان العاطلين عن العمل الانضمام إلى الميليشيات الإيرانية في أدوار غير قتالية بدلاً من اعتقالهم أو تجنيدهم أو قتلهم من قبل نظام الأسد.
أما في الشرق، فقد طبّقت إيران إستراتيجية إشراك القبائل في منطقة دير الزور، بشرائها الولاء المحلي وتقديمها المساعدات المادية. على سبيل المثال، يعمل العديد من أعضاء قبيلة “البقارة” – قبيلة سنّية تجمعها روابط بطهران يعود تاريخها إلى عام 1988 – بشكل علني الآن مع الإيرانيين لإنشاء مدراس ومراكز دينية.
تأثير تربوي
ثمة تطور آخر يشير إلى هدف إيران المتمثل بضمان تواجد متعدد الأجيال في سوريا، وهو قرار نظام الأسد بفتح أقسام باللغة الفارسية في العديد من المؤسسات التعليمية، بما فيها جامعة دمشق، وجامعة البعث في حمص، وجامعة تشرين في اللاذقية. وتترافق الدروس التي تقدمها هذه الأقسام مع مجموعة واسعة من المحفزات لزيادة إقبال السوريين عليها: ولا يُطلب من الطلاب الالتحاق ببرامج كاملة من أجل حضور الدروس؛ ويمكن للشباب دون سنّ ارتياد الجامعة أن يحضروها؛ وقد لا تنطبق الرسوم الجامعية العادية؛ وتشمل الدروس رحلات إلى إيران.
وما دون المستوى الجامعي، فتحت إيران عدداً من مدارس وكليات اللغة في دمشق وحماة ودير الزور. ويتلقى الطلاب المسجلين في هذه البرامج حوافز مالية أيضاً.
توسيع نطاق فتحة السياسة الأمريكية
في الوقت الراهن، تخيّم مسألتا الإطار الزمني لسحب القوات الأمريكية وشروطه على النقاش الدائر في الولايات المتحدة بشأن سوريا. لكن هذا الأمر يحدّ من النقاش جغرافياً في الشمال والشرق، في وقت يجعل فيه الحوار مقتصراً على الأدوات العسكرية على نحو غير ضروري. وإذا كانت الإدارة الأمريكية جادة بشأن التصدي لإيران داخل سوريا، فقد حان الوقت للنظر في خطوات غير عسكرية، ولا سيما ما يلي:
استئناف المساعدة الأمريكية من أجل تحقيق الاستقرار. في آب/أغسطس 2017، جمّدت واشنطن مساعدة أمريكية تقدّر قيمتها بأكثر من 200 مليون دولار كانت مخصصة لاستقرار المجتمعات المحررة من تنظيم «الدولة الإسلامية». وعلى الرغم من تعهد السعودية ودول أخرى بسدّ فجوة التمويل، فمن شأن استئناف المساعدات الأمريكية أن يوفر للمجتمعات السورية بديلاً فورياً للرعاية الإيرانية، لا سيما فيما يتعلق بحماية المدنيين واستحداث الوظائف والتعليم والخدمات الأساسية. وحتى من دون وجود القوات الأمريكية على الأرض، أعدّت وزارة الخارجية الأمريكية و”الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية” برامج قوية لتوفير المساعدة والإشراف عليها في الأماكن التي يصعب الوصول إليها. يجب توسيع هذه البرامج لتشمل مستويات ذو معنى أكثر.
تحديد شروط إعادة الإعمار بدعم أمريكي. لطالما أكّدت الإدارة الأمريكية أنها ستوفر مساعدات لإعادة الإعمار فور انطلاق عملية سياسية جوهرية لإنهاء الحرب وخروج إيران من سوريا. ومع ذلك، فإن الأسئلة المتعلقة بالمتابعة الأمريكية في سوريا والنقاش الأوسع نطاقاً حول المساعدات الخارجية الأمريكية يجعلان من الصعب النظر إلى أي تعهد مماثل على أنه جدي من دون تفاصيل إضافية. لذلك، ينبغي على مسؤولي الإدارة الأمريكية أن يحددوا بوضوح حجم ونطاق ما هم مستعدون لتقديمه في انتظار موافقة الكونغرس. ويجب أن تترافق هذه الرؤية مع خطط محددة لِتَشارك الأعباء مع حكومات ذات توجهات مماثلة في أوروبا والشرق الأوسط، والمؤسسات المالية الدولية، والأمم المتحدة. ومن شأن عرض التفاصيل أن يوفر محفزات ملموسة للتسبب بخلاف بين سوريا وإيران.
فرض عقوبات ذات مغزى على الأشخاص الذين يدعمون بمعرفة مسبقة نشاطات إيران غير العسكرية. لسنوات، نظر الكونغرس في فرض عقوبات من خلال تشريع على غرار “قانون قيصر سوريا لحماية المدنيين”. ومن بين الخطوات الأخرى، دعا هذا القانون إلى فرض عقوبات على أي كيانات توفر قطع غيار للطائرات والتي سمحت لنظام الأسد بالاستمرار في إلقاء البراميل المتفجرة والأسلحة الكيماوية؛ كما وضع تصوراً لفرض عقوبات على الأشخاص الذين استثمروا في قطاعات سمحت للنظام بالصمود اقتصادياً. ويمكن تطبيق مثل هذه المفاهيم المبتكرة على الأنشطة غير العسكرية أيضاً، بما في ذلك فرض عقوبات جديدة تستهدف الشركات التي تموّل أو تساعد الكيانات الإيرانية على بناء منشآت جديدة في العقارات المصادرة بموجب القانون رقم 10. يجب أن يكون الخيار صارماً: إذا اختارت الشركات دعم أجندة إيران في سوريا، سيتم منعها من ممارسة الأعمال التجارية في أوروبا والولايات المتحدة والشرق الأوسط الأوسع.
استخدام حملات الرسائل والتوعية الإستراتيجية الأمريكية لمواجهة أجندة إيران الثقافية والتعليمية. من خلال فهم طريقة عمل إيران على المستوى المحلي، يمكن لصناع السياسة تصميم حملات مستهدفة تسلّط الضوء على تاريخها كشريك غير موثوق به – بدءً من عادتها المتكررة المتمثلة في عدم الوفاء بوعودها في بلدان أخرى إلى هدفها الأسمى المتمثل في الإكراه والسيطرة السياسية في المستقبل. وقد لا تكون الأصوات الأمريكية هي الوسيلة الأكثر فعالية لإيصال هذه الرسالة في الوقت الراهن، لكن واشنطن لا تزال تتمتع بإمكانية الوصول إلى شبكات الإعلام السوري الحر التي قامت بتنميتها سابقاً، وبإمكانها استخدام الشراكات الأخرى بين الشعوب لتحقيق هذا المسعى أيضاً. على سبيل المثال، أثبت النظام الإيراني عدم كفاءته في إدارة البيئة والمياه على الصعيد المحلي، وبالتالي يمكن أن تؤدي مساعدة وسائل الإعلام السورية المحلية على إعداد تقارير بشأن أدائها في هذا المجال إلى إثارة الشكوك حول إمكانية تقديم إيران يد العون إلى المناطق التي تفتقر إلى المياه في البلاد. وقد عُرفت طهران أيضاً بتشويه الأسواق الأجنبية من خلال إغراق المشاريع الاستهلاكية المدعومة (على سبيل المثال، في جنوب العراق)؛ وبناءً على ذلك، يجب على صناع السياسة أن يظهروا للمزارعين والصناعيين السوريين كيف سيؤدي تعاونهم مع إيران إلى فتح الباب أمام الخنوع الاقتصادي.
تحديد شروط إعادة الإنخراط العربي. في الآونة الأخيرة، تواصلت عدة حكومات إقليمية مع سوريا، في ردّ فعل على التوقعات ببقاء نظام الأسد في السلطة بفضل الدعم غير المشروط الذي تقدّمه روسيا وإيران. وستعيد كل من الإمارات والبحرين فتح سفارتيهما في دمشق؛ وقد ضغط لبنان من أجل إشراك النظام السوري في القمة الاقتصادية العربية الأخيرة في بيروت؛ وأطلقت تونس أولى رحلاتها التجارية إلى دمشق؛ وأعاد الأردن فتح معبر “ناصيب” الحدودي، مما مهد الطريق أمام تجدد المعاملات التجارية التي تساوي مليارات الدولارات؛ كما يبدو الآن أن المحادثات بشأن إعادة سوريا إلى “جامعة الدول العربية” هي مسألة وقت، وليس ما إذا كان سيتم إعادتها. ومع ذلك، لا يجب أن يكون مثل هذا التقارب مجانياً. يجب على الإدارة الأمريكية ممارسة الضغوط على هذه الحكومات للإصرار على شروط محددة قبل إعادة فتح سفاراتها، مثل إلغاء قانون الاستحواذ على الأراضي رقم 10 وإغلاق المؤسسات الدينية التي ترعاها إيران.